عرف التاريخ الإسلامي القليل من الخلفاء الأتقياء. كان عمر بن عبد العزيز، "خامس الخلفاء الراشدين"، واحداً منهم. احتل عمر مكانةً مرموقةً عند أهل السنّة والجماعة، ونُظر إليه على أنه واحد من أفضل خلفاء الدولة الأموية. في هذا المقال نسلّط الضوء على الرؤية الشيعية لعمر بن عبد العزيز، لنرى كيف تحدّث علماء الشيعة، القدامى والمحدثون، عن تلك الشخصية المهمة والمُعتبرة في الثقافة السنّية.
الوصول إلى السلطة
وُلد عمر بن عبد العزيز في سنة 61هـ، في المدينة المنورة، ونشأ في مصر في معية أبيه الذي كان والياً عليها في عهد أخيه الخليفة عبد الملك بن مروان. عُيّن عمر والياً على المدينة في 87هـ في خلافة الوليد بن عبد الملك. ولمّا وصل سليمان بن عبد الملك إلى كرسي الخلافة اتّخذ عمر مستشاراً له. وعيّنه بعدها في منصب ولاية العهد. وصل عمر بن عبد العزيز إلى السلطة في سنة 99هـ، بعد وفاة سليمان، فكان ثامن خلفاء بني أمية. وظل في هذا المنصب حتى توفي في سنة 101هـ. قيل إنه مات مسموماً بتدبير من بعض رجال بني أمية الذين غضبوا من شدته وتضييقه عليهم.
حكم عمر بن عبد العزيز لمدة سنتين وخمسة أشهر، واشتهر بعدله وورعه وتقواه
حكم عمر بن عبد العزيز لمدة سنتين وخمسة أشهر، واشتهر بعدله وورعه وتقواه، حتى شبّهه كثيرون من معاصريه بجدّ أمّه، عمر بن الخطاب. شاعت تسميته بخامس الخلفاء الراشدين. ونظر إليه أهل السنّة والجماعة على أنه أحد أفضل الخلفاء الذين عرفهم التاريخ الإسلامي.
التعامل مع العلويين
يوضح الباحث الإيراني الشيعي المعاصر رسول جعفريان، في كتابه "الحياة الفكرية والسياسية لأئمة آل البيت"، التغيّرات التي طرأت على علاقة السلطة الأموية بالشيعة في عهد عمر بن عبد العزيز، بقوله: "لم تخف الضغوط التي كانت تمارَس ضد الشيعة طوال فترة الخلافة الأموية إلا في عهد حكومة عمر بن عبد العزيز التي استمرت لمدة عامين".
ظهرت أولى دلائل ذلك التغيير عندما أمر الخليفة الجديد بالكفّ عن سبّ علي بن أبي طالب ولعنه على المنابر في صلاة الجمعة. استبدل عمر عبارات اللعن بالآية التسعين من سورة النحل: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون".
يحكي ابن عساكر المتوفى سنة 571هـ، في كتابه "تاريخ دمشق"، عن سبب إقدام عمر على تلك الخطوة، قائلاً: "وفد رزيق مولى علي بن أبي طالب على عمر بن عبد العزيز، وكان قد حفظ القرآن والفرائض، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني رجل من أهل المدينة، وقد حفظت القرآن والفرائض، وليس لي ديوان -يقصد أنه لا يحصل على نصيبه من الأُعطيات-، فقال له عمر: من أي الناس أنت؟ قال: رجل من موالي بني هاشم، فقال: مولى من؟ فقال: رجل من المسلمين، فقال له عمر: أسألك من أنت وتكتمني! فقال: أنا مولى علي بن أبي طالب وكان بنو أمية لا يُذكر علي بين أيديهم فبكى عمر حتى وقعت دموعه على الأرض وقال: أنا مولى علي؛ حدثني سعيد بن المسيب عن سعد، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعلي: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى". أمر بعدها عمر بإبطال العادة الأموية الموجبة للعن علي بن أبي طالب في كل جمعة.
يؤكد اليعقوبي المتوفى في 298هـ، في تاريخه، أن عمر بن عبد العزيز لم يكتفِ بذلك، بل أغدق الأموال على العلويين وبني هاشم، فقيل إنه أعطاهم الخُمس -وهو السهم المخصص للرسول وأهل بيته من أموال الغنائم-. كما أنه كتب إلى عامله في المدينة: "أن اقسم في ولد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار". عندما تعلل الوالي بكثرة أبناء علي، كتب له الخليفة: "إذا أتاك كتابي هذا فاقسم في ولد علي من فاطمة عشرة آلاف دينار فطالما تخطتهم حقوقهم"، وذلك بحسب ما يذكر المسعودي المتوفى سنة 346هـ، في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر".
أقدم عمر بن عبد العزيز على خطوة مهمة في سبيل التقارب مع آل علي بن أبي طالب، عندما سلّم أرض فدك إلى العلويين, بطريقة لا تتفق مع فكرة كونها ميراثاً فاطمياً مغصوباً كما هو شائع لدى الشيعة
يحكي رسول جعفريان في كتابه أن عمر أقدم على خطوة مهمة في سبيل التقارب مع آل علي بن أبي طالب، عندما سلّم أرض فدك إلى العلويين. من المهم أن نلاحظ أن الطريقة التي أعاد بها الخليفة الأموي فدك، لا تتفق مع فكرة كونها ميراثاً فاطمياً مغصوباً كما هو شائع في السردية الشيعية. لفهم تلك النقطة، نورد ما ذكره اليعقوبي بخصوصها، إذ قال: "... وكان معاوية أقطعها –أي فدك-مروان، فوهبها لابنه عبد العزيز، فورثها عمر منه، فردّها على ولد فاطمة...".
يعني ذلك أن عمر سلّم فدك للعلويين، بناءً على رؤيته الشخصية، كونها كانت ملكاً له وتقع تحت حيازته. وأنه لم يقم بذلك معتمداً على سلطته كخليفة. يتّضح الفارق بين الأمرين لو عرفنا أن عمر لو كان سلّم فدك بموجب سلطته وخلافته، فقد كان ذلك سوف يعني بالتبعية تخطئة جميع من سبقه من الخلفاء، لكونهم وافقوا على هذا الغبن الظاهر بسلب الفاطميين حقهم في ميراث جدّهم. لم يقم عمر بهذا، ولذلك نجد أن يزيد بن عبد الملك استردّ فدكاً مرةً أخرى من العلويين عندما تولى الخلافة عقب وفاة عمر بن عبد العزيز. الأمر الذي يؤكد على أن سياسات عمر بن عبد العزيز المترفّقة بالعلويين، كانت وليدةً لأفكاره واعتقاداته الشخصية، ولم تكن مبنيةً على تغيّر حقيقي في وجهة النظر الأموية.
بين عمر وأئمة آل البيت
عاصر عمر بن عبد العزيز عدداً من أئمة آل البيت الذين يؤمن الشيعة الإمامية الاثني عشرية بعصمتهم، وبأن الله عز وجل نصّبهم ليصبحوا حججاً له على الناس أجمعين. يذكر محمد باقر المجلسي المتوفى سنة 1111هـ، في كتابه "بحار الأنوار"، قصة لقاء الإمام الشيعي الرابع علي زين العابدين بن الحسين بعمر بن عبد العزيز، حينما كان الثاني لا يزال والياً على المدينة المنورة.
بعث الباقر برسالتين، الأولى إلى سليمان بن عبد الملك والثانية إلى عمر بن عبد العزيز، عقب وصوله إلى الخلافة
ينقل المجلسي عن عبد الله بن عطاء التميمي -وهو أحد أصحاب الإمام زين العابدين-، قوله: "كنت مع علي بن الحسين عليهما السلام في المسجد، فمرّ عمر بن عبد العزيز، عليه شراكاً –وهو جزء من الحذاء- فضة، وكان من أحسن الناس وهو شاب، فنظر إليه علي بن الحسين عليه السلام فقال: يا عبد الله بن عطاء أترى هذا المترف؟ إنه لن يموت حتى يلي الناس، قال: قلت: هذا الفاسق؟ قال: نعم فلا يلبث فيهم إلا يسيراً حتى يموت، فإذا هو مات لعنه أهل السماء، واستغفر له أهل الأرض".
توفي علي زين العابدين في سنة 95هـ، وخلفه في منصب الإمامة ابنه محمد الباقر. تختلف الآراء حول تقييم العلاقة بين الباقر وعمر بن عبد العزيز. يؤكد بعض المؤرخين -ومنهم اليعقوبي- على العلاقة الطيبة التي جمعت بين الرجلين. فيذكر أن الباقر بعث برسالتين، الأولى إلى سليمان بن عبد الملك والثانية إلى عمر بن عبد العزيز، عقب وصوله إلى الخلافة. كان الباقر في الرسالة الأولى يقرظ سليمان ويمدحه، أما في الثانية فقد كان يعظ عمر ويخوّفه. لما سئل الرسول الباقر عن سبب الاختلاف في أسلوب الخطابين، رد قائلاً: "إن سليمان كان جباراً فكتبت له بما يُكتب إلى الجبارين، وإن صاحبك أظهر أمراً -يعني أمر الصلاح والتقوى والتدين- فكتبت إليه بما شاكله". وَرَدَ كذلك في كتاب "أئمتنا" للكاتب الشيعي المعاصر علي دخيل، أن عمر بن عبد العزيز كان يحرص على الالتقاء بالباقر، ويطلب منه النصح والتوجيه. وقيل إن الباقر دخل على عمر يوماً، بعد توليه الخلافة، فقال الثاني للأول: "يا أبا جعفر أوصني... فقال له الباقر: أوصيك أن تتخذ صغير المسلمين ولداً، وأوسطهم أخاً، وكبيرهم أباً، فارحم ولدك، وصل أخاك، وبرّ أباك، وإذا صنعت معروفاً فربه –أي تعهده-".
كان من الطبيعي أن يشيع ذكر تلك العلاقة الودية -النادر حدوثها- بين سليل البيت الهاشمي والخليفة الأموي في الكثير من المصادر التاريخية السنّية. من ذلك ما ذكره ابن الأثير المتوفى سنة 630هـ، في كتابه "الكامل في التاريخ" عندما نقل على لسان الباقر وصفه لعمر بأنه "نجيب بني أمية، وأنه يُبعث يوم القيامة أمةً وحده".
على الجانب الآخر، لا يقبل الكثير من الشيعة تصحيح تلك الأقوال المادحة لعمر. يعتقد أغلبية علماء الشيعة أن عمر بن عبد العزيز ليس أكثر من مجرد طاغية وظالم لأهل البيت. ويؤمنون بأن كل الأفعال الطيبة التي صدرت منه بحق العلويين لن تغيّر من حقيقة أنه وافق أسلافه من الخلفاء في منعهم لأئمة أهل البيت من تقلّد منصب الخلافة. يعبّر الحسين بن حمدان الخصيبي المتوفى سنة 334هـ، في كتابه "الهداية الكبرى"، عن ذلك الرأي، عندما ينقل عن الإمام الباقر قوله لمّا عرف بوفاة عمر بن عبد العزيز: "توفي في هذه الليلة رجل تلعنه ملائكة السماء وتبكي عليه أهل الأرض"، وذلك في إشارة إلى أن المعاملة الحسنة -الظاهرية-التي تعامل بها عمر مع العلويين، لن تمنع عنه عذاب الآخرة الذي ينتظره لاستبداده بالحكم ومنعه أصحابه الشرعيين إياه.
"عمر بن عبد العزيز كان يجلد من سبّ عثمان ومعاوية ولم نقف على جلده أحداً لسبّه أمير المؤمنين
في السياق نفسه، سنجد أن الكاتب الشيعي المعاصر عبد الحسين الأميني، يقلل من أهمية ما فعله عمر بن عبد العزيز عندما أمر بترك لعن علي بن أبي طالب. يقول الأميني في كتابه "الغدير في الكتاب والسنّة والأدب": "وأما نهيه عن مطلق الوقيعة في أمير المؤمنين والنيل منه عليه السلام، وأخذه كل متحامل عليه بالسب والشتم، وإجراء العقوبة على مرتكبي تلك الجريرة فلسنا عالمين بشيء من ذلك، غير أننا نجد في صفحات التاريخ أن عمر بن عبد العزيز كان يجلد من سبّ عثمان ومعاوية كما ذكره ابن تيمية في كتابه 'الصارم المسلول' ولم نقف على جلده أحداً لسبّه أمير المؤمنين عليه السلام".
أيضاً، عرض الشيخ الشيعي المعاصر ياسر الحبيب، في إحدى محاضراته، بعض الاتهامات التي وجهها الشيعة إلى عمر. يذكر الحبيب أن عمر بن عبد العزيز أجرم بحق الشيعة عندما هدم دار فاطمة الزهراء في أثناء عمله على توسعة المسجد النبوي في سنة 88هـ. وأنه -أي عمر- حطّم صخرةً في بيت الزهراء قيل إن الحسن والحسين وُلدا عندها. وكان الناس يأتون إليها من كل مكان للتبرك والاستشفاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...