يبدو الرئيس التونسي مختلفاً. ليس عمّن سبقوه إلى قصر قرطاج فقط، بل إنه يحيل إلى شخصية جدليّة تثير الاستغراب حيناً والفضول حيناً آخر. لكنْ الأكيد أنها شخصية تثير قلقاً كبيراً لدى التونسيّين المتخوّفين على مستقبل البلاد، ولدى الأطراف التي تعتبر قيس سعيّد حاكماً "عنصريّاً" يستخدم الفصحى في خطاب مؤامرتي لقمع المعارضة وتشتيت العقول عن التركيز على قضايا كبرى حتى يتفرّد بالسلطة، خلافاً لمن يعتبرون أسلوبه الخطابي أصيلاً في هويته.
دانيال درنة... "مؤامرة صهيونية"
عقب الكارثة التي حلّت بليبيا وتحديداً في محافظة درنة (شرق) التي تعرّضت لعاصفة دانيال، التي خلّفت دماراً كبيراً ومقتل وفقد ونزوح الآلاف وتضرّر البنى التحتية، قال رئيس تونس قيس سعيّد أن اختيار اسم دانيال على العاصفة يعكس نفوذ "الحركة الصهيونية العالمية".
واستعجب سعيّد خلال لقاء جمعه برئيس حكومته وبعض وزراء السيادة " ألم يتساءلوا أو يكلفوا أنفسهم عناء التساؤل عن التسمية دانيال"، ثم أكمل حديثه قائلاً "من هو دانيال؟.. هو نبي عبريّ، لأن الحركة الصهيونية تغلغلت وتم تقريباً ضرب العقل والتفكير ليصبحوا في حالة غيبوبة فكرية تماماً"، وفق قوله.
ثم ربط حديثه بـ"أبراهام" الذي أطلقت على "الاتفاقيىة الإبراهيمية"، وهي المبادرة الأمريكية الرامية إلى تطبيع بلدان عربيّة علاقاتها مع إسرائيل.
ماذا يقصد رئيس الجمهورية قيس سعيّد حينما يصف ما حلّ بدرنة الليبية بأنه مؤامرة صهيونية؟ وهل من الممكن أن تؤثر هكذا تصريحات على طبيعة العلاقات التي تجمع البلدين؟ وهل هو مخوّل بوصف الكوارث الطبيعية بأنها مؤامرات من صنع "الصهاينة"؟ وهل يتخذ سعيّد حقاً من أسلوب التخوين والمؤامرات، خطاباً ليريح نفسه من عناء الوقوع في لائمة من صوّتوا له والتبرير لما أنجزه خلال عهدته التي شارفت على الانتهاء؟
تعدّدت الأسئلة واختلفت التفسيرات والاتهامات للرئيس سعيّد التي صنفته بـ"المُعادي للسامية". فيما وُجّهت له لوائح لوم طويلة بسبب "عقليّة المؤامرة"
خطاب لا يليق برئيس
يقول صلاح البكوش، المستشار السابق للمجلس الأعلى للدولة الليبي لرصيف 22 أنه في "الوقت الذي كانت تواجه فيه ليبيا وقتاً عصيباً جداً وتستمر في دفن الضحايا وانتشال الجثث من أعماق البحر ومن تحت الركام والأنقاض، كان يفترض أن يقوم رئيس عربي لدولة جارة بالدعوة لمساعدة ليبيا في محنتها. لكن نجد الرئيس التونسي يتحدّث عن الدور الذي يلعبه الأنبياء اليهود والمؤامرات الصهيونية في الكارثة التي حلّت بدرنة".
يعبّر المستشار الليبي صلاح البكوش عن آسفه من تصريحات قيس سعيّد التي رأى أنها لا تخدم المصالح المشتركة بين ليبيا وتونس، وإنما تشتت الانتباه والجهود عن القضية الأساسية والعاجلة وهي مساعدة الأهالي المكلومين. مذكرا أنها ليست المرّة الأولى التي يتعثّر فيها الرئيس في حديثه عن ليبيا، فقد صرّح في مارس المنقضي بأن تونس لا تستفيد كثيراً من حقل البوري النفطي، متناسياً أن القضية حسمت لصالح ليبيا بحكم صادر عن محكمة العدل الدولية".
من جانبه، اعتبر المحلل السياسي صلاح الدين الجورشي أن قيس سعيّد قد توجّه بلفظه عبارة "إن هذا المصطلح غير وارد في قاموسي" إلى المعارضة التي انخرطت في سياسات التطبيع وأيضاً إلى الإدارة الأمريكية التي ما فتئت تنتقد النظام التونسي وأيضاً الدبلوماسية الأوروبية التي قابلها بالرفض عندما اعتزمت دخول التراب التونسي للاطلاع على الوضعين السياسي والحقوقي.
ونوّه المحلل صلاح الدين الجورشي، في حديث لرصيف22، أن هناك تفسيرين اثنين أولهما أن الرئيس التونسي "يريد أن يثبت للجميع أنه مستعد لمواجهة كل الأطراف بما فيها الكيان الصهيوني، وثانيهما أنه يريد صرف انتباه الرأي العام عن همومه اليومية وإقناعه بأن المؤامرات الصهيونية ليست بمنأى عمّا يجري في تونس".
مقاربة مؤامراتيّة أم هوية أصيلة ؟
لا زال الرئيس التونسي يخاطب وزراءه ويلقي خطبه بلغة عربية فصحى وكأنه مازال في مدرج الجامعة مترقباً إنصات طلبته إليه وتدوين ملاحظات.
ومنذ أن برز في الساحة وأعلن ترشحه في الانتخابات الرئاسية وألقى أوّل خطاب له بعد أدائه اليمين الدستورية، والتونسيون يترقبون ظهوره كل مرّة حتى يطرب آذانهم ببلاغته ونبرته الحادة رغم يقينهم بأن معظم تصريحاته تصبّ في منحى واحد هو المؤامرة واتهام أطراف لا يسمّيها "بالتآمر وافتعال الأزمات"، إضافة إلى وصف الساعين إلى الوساطة الدولية بالساعين إلى "تغيير التركيبة الديمغرافية لتونس"، في إطار مخطّط.
رغم أن كثيرين يعتبرون أن قيس سعيّد يعاني من مشكلة تواصليّة تعمّقت مع غياب أي برنامج سياسي له. إلا أن نبرته وانتقاءه لمفردات معينة دون غيرها هي مسرحه الخاص الذي يحاول من خلال تمرير رسائله ومقاربته المؤمراتية التي يرى المحلل السياسي طارق الكحلاوي، في تصريح لرصيف 22، أنها مكوّن أساسي في هويته السياسيّة وليس لها أي علاقة باعتلائه السلطة أو بقرارته الاستثنائية بعد أحداث "25 جويلية" في تمّوز/يوليو 2021.
تطرح تساؤلات حول حجم فكر المؤامرة في تفكير الرئيس سعيّد السياسي داخل وخارج حدود تونس
ويضيف الكحلاوي أن "لقيس سعيّد جملة شهيرة كان يردّدها منذ أن كان شخصية عادية وهي 'يريدون تفجير الدولة من الداخل'، وهي جملة مؤسٍّسة سياسياً في هويّته جعلته يحلّل كل شيء بمنطق مقاربة المؤامرة، فمثلاً هو يحلّل الإرهاب على أنه مؤامرة خارجية باستعمال أدوات داخلية".
فضلاً عن ذلك، فإن سعيّد، وفق الكحلاوي "فإن أحد مقومات أو شروط الهوية الشعبوية لقيس سعيّد هو المؤامرة، بحيث لا يمكن الحديث عن مقاربته بمعزل عن شعبويته، لأن مصطلح المؤامرة هو التعبير الصادق والأنسب عن إرادة الشعب في مواجهة النخب التي تتواطأ وتتآمر دائما ضد مصلحة البلد، والرئيس التونسي يرى نفسه منبثقاً من الشعب ومناهضاً للنخب".
يستبعد الكحلاوي ما يروج عن أن الأسلوب الخطابي لسعيّد، "الذي لم يعرف طعم السياسة إلاّ بعد الثورة، هو هروب وتغطية على فشله في إدارة الأزمات وتعامله مع مختلف الأطراف ومنها المعارضة"، معلّلا أن "التفكير في المؤامرة ليس عفوياً أو عرضيّاً عند الرئيس، إنما هي مقاربة كاملة تنطلق من التسليم والجزم بوجود مؤامرة قبل مباشرة البحث والعثور على أدلة ما يجعله في صراع دائم إما مع حركة النهضة قبل أحداث "25 جويلية" أو الصراع مع نقابة الاتحاد العام التونسي للشغل أو النقابات الأمنية، أو حتى في المعركة مع النخبة الإدارية".
"الخطابة" لإدارة شؤون الدولة؟
يتساءل كثيرون ماهو القاسم المشترك بين كل المواطنين الذي رأوا في أستاذ القانون رمزاً لهم فانتخبوه؟
بطبيعة الحال، إنها محاولة من التونسيين لتغيير السائد في الانتخابات والابتعاد عن الشخصيات السياسية المنمقة والإيمان برئيس خارج عن المألوف تكون له طريقته الخاصة في التواصل مع عامّة الناس الذي يسعون غالباً لسماع ما يروق لهم ويهدّأ حالة الهيجان الكامنة في نفوسهم طيلة سنوات ما قبل الثورة وأيضاً خلال العشرية التي تلتها.
نبرة سعيد وانتقاؤه لمفردات معينة دون غيرها هي مسرحه الخاص الذي يحاول من خلال تمرير رسائله ومقاربته المؤمراتية
يرى منذر عافي، الباحث في علم الاجتماع منذر عافي "أن كل شخصية سياسية لها جملها ومفاهيمها ومصطلحاتها السياسية التي تساعدها على إدارة شؤون الدولة بالمنطق الذي تراه مناسباً وبما يتماشى مع ديناميكية مساير الخطاب العام الذي يقبله الجمهور المتلقي.
ويرجّح عافي، في حديثه لرصيف22، أن لسعيّد "معلومات وتقارير ومعطيات دقيقة قام بتكييفها على أنها مؤامرة تستهدف ضرب مصلحة الشعب"، مستبعداً أن "تؤثر بضع مصطلحات ومفاهيم تستعمل بغرض تسيير شؤون الدولة في العلاقات الدبلوماسية والدولية لأنها ممتدّة ومتشابكة بمصالح وخبرات وتجارة بينيّة متبادلة بين الدول".
لكنْ إن لم تؤثر بشكل مباشر، فهي تطرح تساؤلات حول حجم فكر المؤامرة في تفكير الرئيس سعيّد السياسي داخل وخارج حدود تونس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم