قبل سنوات، وفي شارع الدباغين، سوق الكُتب المستعملة في العاصمة تونس، عند ذلك التجويف الواسع، بعد حانوت بائع الفطائر، وجدتُ كتاباً كان عنوانه لافتاً: "محاولات اغتيال الرئيس صدام حسين''. الكاتب لم يكن سوى رئيس المخابرات برزان التكريتي، وعدّد فيه سبع محاولات جرت لاغتيال صدام. ومؤخراً تذكّرت ذلك الكتاب الطريف، وأشفقت على حال التكريتي ورئيسه، لأنها يكادان يفقدان الرقم القياسي العربي على يد الرئيس التونسي قيس سعيّد.
خلال ثلاث سنوات فقط، أعلنت السلطات في تونس عن أربع محاولات لاغتيال الرئيس سعيّد، ومحاولة خامسة كشفتها صحيفة محلية.
في آب/ أغسطس 2020، كشفت جريدة الشروق اليومية عن محاولة لاغتيال الرئيس التونسي من خلال دسّ مادة مشبوهة بعجين الخبز. لاحقاً، وفي كانون الثاني/ يناير 2021، أعلنت الرئاسة التونسية أنها تلقت بريداً خاصاً موجهاً إلى رئيس الجمهورية، كان عبارة عن ظرف لا يحمل اسم المرسل، تولّت مديرة الديوان الرئاسي فتحه فوجدته خالياً من أي مكتوب، ولكن بمجرد فتحها للظرف تعكر وضعها الصحي وشعرت بحالة من الإعياء وفقدان شبه كلي لحاسة البصر، فضلاً عن صداع كبير في الرأس. وبحسب الإعلان، كان أحد الموظفين في رئاسة الديوان موجوداً عند وقوع الحادثة وشعر بنفس الأعراض ولكن بدرجة أقل. بعد ذلك بستة أشهر أعلنت السلطات عن ختم التحقيقات وقررت إغلاق ملف شبهة دس مادة مشبوهة بعجين الخبز لعدم كفاية الحجة، فيما جاءت نتائج الاختبارات الفنية المجراة على الظرف المسموم سلبية.
في الشهر نفسه الذي أعلنت فيه السلطات القضائية إغلاق الملف، كشف الرئيس سعيد بنفسه عن مخطط اغتيال ثالث، خلال اجتماع برؤساء الحكومات السابقين في منتصف حزيران/ يونيو 2021، وقال: ''مَن كان وطنياً لا يذهب إلى الخارج سراً بحثاً عن طريقة لإزاحة رئيس الجمهورية بأي شكل من الأشكال، حتى بالاغتيال، فبئس ما خططوا وبئس ما فعلوا". أعلنت وزارة العدل عن فتح تحقيق في القضية دون أن تصدر نتائج حتى اليوم.
وبعد عامٍ من هذه الواقعة، أعلنت وزارة الداخلية عن "وجود معطيات لدى العديد من الجهات الأمنية تؤكد وجود مخطط لاستهداف شخص رئيس الدولة أو استهداف مؤسسة الرئاسة وهناك أطراف داخلية وخارجية مسؤولة عن هذا المخطط''، دون أن تقدّم أية تفاصيل أخرى. وحالها حال المحاولة الثالثة، ستختفي هذه المحاولة الرابعة دون أية معلومات جديدة حتى اليوم.
أما المحاولة الخامسة والأخيرة، حتى الآن، فهي التي أعلنها الرئيس قيس سعيد شخصياً خلال اجتماع بكبار الضباط داخل وزارة الداخلية تعليقاً على حملة الاعتقالات التي طالت عدداً من معارضيه بتهمة التآمر على النظام. ووصف سعيد الأشخاص الذين جرى اعتقالهم خلال الأيام الماضية، بأنهم "إرهابيون"، مشيراً إلى أنهم "يتآمرون على أمن الدولة، ويُخططون ويعدّون لاغتيال رئيس الدولة"، ومضيفاً: الأمر يتعلق هنا بحياة الدولة وبمستقبل الشعب".
الخيال التآمري للشعبوية
في مثل هذه الأجواء "الصدّامية" يعيش الرئيس التونسي ويدير دولته منذ صعوده إلى السلطة، مفترضاً دائماً وجود مؤامرة تحاك ضده من داخل "الغرف المظلمة" كما يصفها في خطبه الطويلة والعديدة.
هو أسلوب حياة وإدارة يتسق مع فكره الشعبوي، وأحد أركانه نظريات المؤامرة. وكحال هذه النظريات، تستخدم الشعبوية أسلوب اتصال مبسط للغاية وتقترح حلولاً بسيطة للغاية.
يشكّل الخيال التآمري جزءاً أساسياً من السردية الشعبوية للعالم. لا ينفك الشعبويون عن التنديد بالقوى الخفية التي تصادر السلطة وتمارسها سراً لمصلحتها وحدها. لهذا السبب، تحضر الروايات التآمرية في جميع أشكال الشعبوية السياسية التي يمكن ملاحظتها منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم.
ويعيد هذا اللجوء إلى نظريات المؤامرة حيوية الحركات الشعبوية ويساعدها على تعبئة عواطف ومشاعر قواعدها الشعبية. لذلك، تلعب الرواية التآمرية دوراً في تحقيق أهداف الحركات الشعبوية مثل الاستقطاب ومناشدة العاطفة، وتكسبها شرعية تتأتى عن تقديمها نفسها على أنها قادرة على الدفاع عن الناس ضد التهديدات التي تحددها وتبالغ في تصوير خطرها.
تذكرتُ كتاب "محاولات اغتيال الرئيس صدام حسين'' الذي عدّد فيه رئيس المخابرات برزان التكريتي سبع محاولات لاغتيال صدام. تذكّرته وأشفقت على حال التكريتي ورئيسه، لأنها يكادان يفقدان الرقم القياسي العربي على يد الرئيس التونسي قيس سعيّد
وعلى الرغم من أن القادة الشعبويين، ومن بينهم قيس سعيد، جزء من النخبة ويوقعون مشاريع قوانين تضر اقتصادياً بأغلبية الناس، إلا أنهم يستخدمون التأثير الشعبي لإلقاء اللوم على مجموعات أخرى من السكان مثل وسائل الإعلام أو النخب السياسية، وهذه وصفتهم الفعالة لصرف الانتباه عن أنفسهم وإخفاء تناقضاتهم.
وللمعتقدات التآمرية قوة تنبع من حقيقة أنها تُنتج وهمين مطمئنين: شرح ما لا يمكن تفسيره، والتحكم في ما لا يمكن السيطرة عليه.
يمكن للمرء أن يجادل بأن الروايات التآمرية تعمل على إرضاء أتباعها عبر تسويق رؤية لعالم منظَّم حيث يمكن شرح كل شيء بسهولة. في الواقع، في كتابه "خيال المؤامرة: خطاب اليمين المتطرف في فرنسا والولايات المتحدة"، يحاجج العالم السياسي البلجيكي جيروم جامين بأن الخيال التآمري "يشير أولاً إلى شرح للعالم حيث يبدو كل شيء منظماً ومترابطاً ومتشابكاً، وحيث كل شيء يدار ومبرمج من قبل عدد قليل من المتآمرين الذين يتحكمون في العالم (...) ثم يشير إلى عالم مثالي يجب تنظيمه بشكل طبيعي إذا لم يتم الاستيلاء عليه من قبل أعداء الشعب أو الأمة".
ويفسّر جامين الحاجة إلى هذا الخيال التآمري بأنها استجابة للشعور بفقدان الأمن في عالم فوضوي حيث يمكن للتبسيط المانوي (الخير مقابل الشرّ) أن يرضي الضمائر.
يعيش العالم في كومة من الشكوك حول مستقبله. أكثر فأكثر، أصبحت راحتنا وأمننا، موضع تساؤل وقلق. وهنا تأتي الشعبوية لتقدّم ترياقاً سحرياً للجماهير ضمن نموذج تبرر الغاية فيه الوسيلة، حتى لو أسفرت تصوّراتها عن تخلٍّ عن سلطة المؤسسات الديمقراطية أو تحريف للحقائق، أو حتى اختراع "حقائق بديلة".
ضمن هذا النهج، يتسلل خطاب قيس سعيد التآمري إلى الفضاء العام كي يوجه الرأي العام إلى معارك وهمية مدارها تفكيك مؤامرات تتعرض لها الدولة وإحباط محاولات اغتيال للرئيس، بدلاً من معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الكارثية في البلاد. لكن هل يمكن أن يستمر هذا النوع من الخطاب دون أن ينهار تحت وطأة مفارقاته؟
جمهورية منتصف الليل
النموذج التآمري الذي يدير من خلاله الرئيس التونسي جمهوريته، بلا شريك، يبدو كلاسيكياً وخالياً من الإبداع. كليشيهات كثيرة تعبّر عن محدودية في التفكير. يخرج الرئيس من قصر منتصف الليل فيتوجه إما إلى مقر قيادة الحرس الوطني، أو إلى مبنى وزارة الداخلية. يجلس بين حلقة كبار الضباط ويلقي خطاباً يعج بشعارات "السيادة الوطنية" والتنديد بـ"الخونة والعملاء" ثم يعود إلى القصر.
كل ليلة، يصدر بيانات تدور حول نفس المواضيع وترفع الشعارات ذاتها. يثبت على نهج فكري واحد: لا شيء يحدث بالصدفة. ليس هناك ما هو عرضي أو لا معنى له. كل ما يحدث هو نتيجة النوايا الخفية، وبتعبير أدق النوايا الحاقدة. كل شيء مرتبط، لكنه غامض. يمكن للقوى المعارضة التي تبدو متعارضة أو متناقضة أن تكون موحدة بشكل أساسي، في نمط التواطؤ ضده وضد نظامه. فالفكر التآمري يفترض وجود عدوّ واحد.
"في أجواء ‘صدّامية’، يعيش الرئيس التونسي قيس سعيّد ويدير دولته منذ صعوده إلى السلطة، مفترضاً دائماً وجود مؤامرة تحاك ضده من داخل ‘الغرف المظلمة’ كما يصفها في خطبه الطويلة والعديدة"
وحدة العدوّ المفترض هذه تتجلّى بوضوح في حملة الاعتقالات التي نفّذتها السلطات التونسية خلال الأسبوع الماضي: إسلاميون ورجال أعمال ومحامون وأصحاب وسائل إعلامية ورؤساء جمعيات رياضية ونواب سابقون. أشخاص كانت بينهم خصومات ومعارك، وينتمون إلى مشارب سياسية وأيديولوجية متناقضة، اجتمعوا كلهم، وفقاً لرواية النظام الحاكم، على مؤامرة تستهدف أمن الدولة والرئيس.
والتكتيك المعتمَد شديد البساطة: تقوم الأجهزة باعتقالات متزامنة في ساعات الليل المتأخرة، وهذا يعطي انطباعاً لدى بسطاء الناس بأن المؤامرة التي يتعرض لها الرئيس كونية، وقد يعطي الرئيس نفسه هذا الانطباع، وتالياً يعزز الوهم داخله بصواب التفكير المؤامراتي ويعمق حالة البارانويا السياسية.
لكن بمزيد من التعمق في موازين القوى المتحكمة في السلطة التونسية اليوم، يبدو أن ما يحدث ليس فقط ما يريده الرئيس، بل ما تريده أو تسعى إليه الأجهزة الأمنية. عندما نفّذ قيس سعيد انقلابه في تموز/ يوليو 2021، سلّم مصيره للبيروقراطية الأمنية والعسكرية، بوصفه شعبوياً لا يملك ولا يريد أن يكون له جهاز سياسي كحزب أو تنظيم ذي قاعدة اجتماعية، كما كان الحال في العهود السابقة. وفي الوقت نفسه، وجدت الأجهزة الأمنية في انقلابه الذي دعمته منذ اللحظة الأولى فرصة لاستعادتها قوتها وسيطرتها على المجال العام، بعد أن تراجعت خلال عشر سنوات من حكم الائتلافات الحزبية، وتحوّلت إلى مجرد أداة في يد هذه الائتلافات.
قد يكون الأمر أن الأجهزة، لا سيما الأمنية، أدركت باكراً الملامح البارانوية للسلطة وأدركت نقطة ضعف الرئيس لجهة عيشه داخل خيال تآمري يقوم على تفسير كل شيء من خلال المؤامرة، فراحت تغذّي هذا الوهم، وصارت كلما قامت بتفكيك مزيد من المؤامرات المتخيلة كلما زادت قوتها وحظوتها لدى الرئيس. وقد يكون هذا السبب في أننا في ظرف ستة أشهر فككنا مؤامرتان هدفهما تبديل هيئة الدولة، الأولى في أيلول/ سبتمبر 2021 في قضية المديرة السابقة للديوان الرئاسي نادية عكاشة ومجموعتها التي ضمت صحافيين ومعلقين وسياسيين ورجال أعمال وموظفي دولة، والثانية اليوم.
هذا التكتيك هو نفسه الذي سلكته نادية عكاشة عندما كانت في القصر، وكانت اليد اليمنى للرئيس، من خلال نسج أوهام مؤامرات تحوّلت في النهاية إلى قصص ساخرة، كمحاولة تسميم الخبز الذي يقدَّم للرئيس، أو الرسالة المسمومة، وكلها قصص أثبتت التحقيقات بطلانها.
ما يحدث اليوم في تونس ليس جديداً. تكتيك اختلاق المؤامرات تقليد راسخ لدى الأنظمة التي تعاني من أزمة داخلية وتسعى إلى تصديرها نحو وجهات غير التي يجب أن تكون في اتجاهها.
ولأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فإن حكم الرئيس على الأشياء مصدره قائم حصراً على تقارير أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، خاصة وأن سعيّد بات وحيداً داخل القصر بلا فريق رئاسي. وتؤكد ذلك تصريحات المحامين في قضية التآمر الأخيرة حول أن ملف القضية ليست فيه أيّة أدلة أو قرائن باستثناء تقارير كتبتها المخابرات حول الأشخاص المتهمين.
والجهاز الأمني هو ما حكمت من خلاله ائتلافات الأقلية الحاكمة منذ 2011 وأنظمة الحزب الواحد قبلها. ويبدو أن البيروقراطية التي تحولت منذ عقود إلى أداة في يد الطبقة المسيطرة وجدت فرصتها اليوم في صعود قيس سعيد لتتحكم بالطبقة المسيطرة لا العكس. فتاريخ تونس المعاصر هو تاريخ الصراع حول الجهاز الأمني ومن أجله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي