انتظر التونسيون طويلاً يوم 10 أيار/مايو الجاري روايةً رسميةً لأحداث معبد الغريبة الإرهابية التي استهدفت الحجيج اليهود، والتي أسفرت عن مقتل خمسة أشخاص بين تونسيين وأجانب وجرح العديد من الزوار الآخرين. غير أن الرواية الرسمية جاءت محبطةً، وأولها أن العملية قام بها رجل أمن، وهذا يضرب ما تبقّى من سلطة الانقلاب في مقتل، فـ"حاميها حراميها" كما يقول المثل الشرقي، بل منفّذ عمليات إرهابية، وبذلك تصبح المؤسسة الأمنية في حرج، لأنها إن تمكنت من الحد من الكارثة التي كان ينوي القيام بها لو وصل إلى مقر الحجيج، فإن هويته كأمني لا يمكن أن تمرّ هكذا من دون طرح عدد من الأسئلة من قبيل: كيف تحوّل رجل الأمن من رجل يحفظ الأمن ويحمي الناس إلى إرهابي يقتل الناس بسلاحه الرسمي وسلاح زميله الذي قتله؟ أين المخابرات الأمنية من هذا التحول الذي طرأ على الشرطي؟ وإذا كانت قد اكتشفت ذلك منذ مدة فكيف تدعه دون مراقبة في مكان كجزيرة جربة وفي موسم سياحي خاص باليهود كهذا الموسم؟
أمام هذه الأسئلة، وهذا الوضع الكابوسي الذي عاشه ضيوف تونس كما شاهدنا عبر الفيديوهات المسربة من الغريبة، يخرج الرئيس قيس سعيّد، أمام مجلس الأمن القومي، ليقدّم خطاباً عدّه مطمئناً، ويصف العملية الإرهابية بـ"العملية الإجرامية"، ويصف الإرهابي بـ"المجرم"، ثم يصف الضحايا من الأمن التونسي بـ"الشهداء"، ويستثني بقية الضحايا ويكتفي بتوجيه التعازي إلى أهاليهم، وظل يردد أن من ارتكب هذه العملية وغيرها، هم مجرمون، بل هو يستصغر هذه العملية على اعتبار أن العديد من دول العالم، مثل أمريكا وأوروبا، شهدت مثلها.
من أين جاء هذا الإرهاب الجديد الذي يسمّيه الرئيس إجراماً؟ مَن الذي يؤجج كل يوم مشاعر الكراهية، خاصةً تجاه الآخر، الذي يسمّيه الرئيس "الخارج"، وهي الكلمة التي ينضوي تحتها الأجنبي والتونسي اللذان يعيشان خارج التراب التونسي؟
لكن من أين جاء هذا الإرهاب الجديد الذي يسمّيه الرئيس إجراماً؟ مَن الذي يؤجج كل يوم مشاعر الكراهية، خاصةً تجاه الآخر، الذي يسمّيه الرئيس "الخارج"، وهي الكلمة التي ينضوي تحتها الأجنبي والتونسي اللذان يعيشان خارج التراب التونسي؟ مَن الذي يذكي كل يوم مشاعر العداء نحو اليهود ومعاداة السامية في تونس؟ من الذي يحمي تلك الحشود التي تهاجم المبدعين والمفكرين والمؤسسات الثقافية بسبب كلمة اليهود أو كلمة اللغة العبرية؟
الخيانة العظمى التي جاءت به رئيساً
"التطبيع خيانة عظمى"؛ هذه جملة سحرية استطاع بها قيس سعيّد، أن يحشد الآلاف وراءه في الدور الأول. كان يقف جنباً إلى جنب مع منافسيه الأكثر حظاً: المعارض التاريخي حمة الهمامي، ومرشح السلطة ورئيس حكومة الباجي قائد السبسي، يوسف الشاهد، إذ عندما سأله الصحافي عن موقفه من التطبيع، أجاب بكل قوة بأنه لا يعتقد في هذه الكلمة التي جاءت بعد اتفاقية كامب ديفيد، وبأن "التطبيع خيانة عظمى". التفت إليه وقتها حمة الهمامي، ورمقه بنظرة فيها الكثير من المعنى وقد شرحها بعد سنوات، إثر الانقلاب. أعاد قيس سعيّد، في تلك السلسلة من المناظرات الجملة نفسها في مواجهة خصمه في الدور الثاني، نبيل القروي، وأضاف إليها جملةً أخرى هيّجت أنصاره وجماهيره: "نحن في حالة حرب مع العدو الإسرائيلي".
اكتفى منافسه نبيل القروي، بالقول إنه سيدعم موقف السلطة الفلسطينية وسيلتزم به. وأمام الأخبار أو الشائعات حول تعاونه مع لوبي صهيوني، وحذر التونسيين من وصول المافيوزية إلى قصر قرطاج، وطلب رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي من أنصار حزبه التصويت لسعيّد، حُسم الأمر لصالح عدو إسرائيل النظري، وفاز سعيّد في الانتخابات، ونزل المتقاعد النحيل من شقته في ضاحية المنيهلة متوجهاً إلى قصر قرطاج مصحوباً بهتافات الأنصار وتحرير فلسطين.
الرئيس الذي أضاع جملته
في مقابلة معه، بعد 99 يوماً من الانتخابات الرئاسية، وحين استضافه التلفزيون الوطني التونسي لمناقشته حول وعوده الانتخابية، وفي موضوع التطبيع، وحول ما إذا كان سيدفع بقانون لتجريمه، قال قيس سعيّد للصحافي إيهاب الشاوش، إنه سيدفع بقانون "الخيانة العظمى لا بقانون تجريم التطبيع".
ومنذ ذلك الوقت، توقف قيس سعيّد عن الحديث عن إسرائيل والخيانة العظمى، حتى اتهمه خصومه بأنه كان يناور بتلك الجملة، ويتاجر بالقضية الفلسطينية من أجل الفوز في الانتخابات ككل المتاجرين بالقضية في تونس، من أحزاب وجمعيات بعضها غارق إلى عنقه في علاقات مباشرة مع إسرائيل.
ولكن ظل أنصاره يطاردون كل المناوئين له ولتصوراته للحكم، بتهمة التطبيع التي طالت شخصيات حقوقيةً وأدبيةً وفكريةً وإعلاميةً وفنيةً، وكانوا دائماً يذكّرون رئيسهم بوعده بتجريم التطبيع وبعبارته الشهيرة: "التطبيع خيانة عظمى"، والخيانة العظمى في تونس تعني الإعدام.
تنامي هذا التيار القومي الشوفيني المعادي للسامية في تونس، وملاحقته لكل فكر حرّ، أصبحا عماد الخطابات التحريضية الخطيرة خطورة الخطابات الدينية التي جاءت بالإرهاب خلال السنوات الماضية عبر تكفير المنافسين السياسيين والمثقفين.
ظل قيس سعيّد، يبحث عن نبرة لهيئته الجديدة كرئيس دولة، لكن يبدو أنه ظل تحت تأثير الصدمة أشهراً طويلةً، صدمة وصوله إلى كرسي الرئاسة، حتى أنه فقد نبرته وهو يحاول أن يجد نبرةً مناسبةً، ثم عاد في مشاهد مضحكة تابعها العالم إلى هيئة "جاهلية" مقتبسة من فيلم "الرسالة" للعقاد، وفاق في تلك الهيئة مشاهد عادل إمام في فيلم "رسالة إلى الوالي"، يتحدث إلى مدير التشريفات قائلاً: "السيد مدير التشريفات لرئاسة الجمهورية تسلّمْ هذا الكتاب الساعة إلى صاحب البريد، ليسلمه بدوره إلى المرسل إليه، ولا يعودنّ إلى القصر الرئاسي إلا بعد أن يأتي معه بما يفيد التسلّم إثر التسليم".
هذا الفيديو الذي يظهر فيه قيس سعيّد، وهو يكتب تلك الرسالة بخط اليد، والذي نشرته صفحة رئاسة الجمهورية، اضطر إلى محوه بسبب ما أثاره من سخرية في الإعلام العالمي والتونسي وفي صفوف الشعب التونسي الذي بدأ يشك في المدارك العقلية للرئيس سعيّد.
بعد انقلاب قيس سعيّد، يوم 25 تموز/يوليو 2021، ظهر الزعيم اليساري حمة الهمامي، ليفسر تلك النظرة التي رمق بها قيس سعيّد، يوم قال إن التعامل مع إسرائيل خيانة عظمى، فقال في راديو ماد: "أتحدى قيس سعيّد يعاود قول 'التطبيع خيانة عظمى'".
التطبيع وملاحقة الأصوات الحرّة في تونس
لم تعد عبارة "الخيانة العظمى" موجهةً أصلاً لنصرة القضية الفلسطينية، بل أمست عبارةً سحريةً للتخلص من خصوم قيس سعيّد، عبر أنصاره من الحشود التي صارت مثل القطعان المتوحشة تطارد أي صوت مختلف لتمهد له للانقضاض على الدولة وإنهاء مرحلة التمهيد للانقلاب الذي بدت بوادره من أول أيام وصوله إلى القصر، من خلال رفض التعامل مع رؤساء الحكومات الذين عيّنهم بنفسه ومع البرلمان والامتناع عن تركيز المحكمة الدستورية.
فشنّت حرباً على رئيس الوزراء الأسبق ورئيس حزب "تحيا تونس" يوسف الشاهد، بسبب مشاركته في القمة العالمية حول العالم ما بعد كورونا، التي قامت في دبي في 24 آذار/مارس 2021، بمشاركة نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية الإسرائيلي السابق سيلفان شالوم، للتخلص منه كمنافس قوي قد يعود ويطيح بالرئيس قيس سعيّد. ووُجّهت الاتهامات إليّ شخصياً بالتطبيع بسبب ترجمة روايتي من قبل المترجمة الفلسطينية ريم غنايم، إلى العبرية، وكانت النية تثوير الشعب على العديد من الشخصيات الثقافية والسياسية والاقتصادية.
وبعد انقلاب 25 تموز/يوليو، صارت الجملة السحرية هي التهمة النموذجية لتصفية الموظفين والمفكرين والأمثلة لا تُعدّ ولا تُحصى. ويكفي أن نذكّر بما حدث في دار الكتب الوطنية، عندما عُقد فيها مؤتمر حول اللغات القديمة ومنها العبرية التونسية، تحت عنوان "لنتكلم اللغات المنسية"، وتم تقديم كتاب "الحيلة والعشق"، وهي رواية لليهودي التونسي يعقوب شملة، بالعبرية التونسية، نقلتها إلى العربية شادية الطرودي، وهي رواية نُشرت لأول مرة سنة 1916. في أثناء ذلك المؤتمر العلمي، هاجمت جماعات قومية متطرفة المكتبةَ، وعطّلت أشغال المؤتمر واتُّهمت مديرة المكتبة الوطنية الدكتورة رجاء بن سلامة، بالتطبيع الأكاديمي، ولم يهدأ الأمر إلا باستصدار قرار إقالتها من منصبها بعد أشهر.
بعد أشهر قليلة من هذه الحادثة، انفجرت قضية الجامعي الحبيب الكزدغلي، الذي اتُّهم بالتطبيع لأن اسمه ورد في أشغال مؤتمر علمي سينعقد في فرنسا، تنظمه جمعية تونسية تُعنى بالتراث اليهودي التونسي، وتهمة التطبيع التي وُجّهت إلى الكزدغلي سببها أن من ضمن المتدخلين باحثين ينتمون إلى جامعات إسرائيلية.
الهجوم لم يتوقف عند السب والشتم والسحل الإلكتروني، بل هاجمت جماعات قومية متطرفة كلية الآداب والفنون في منوبة، والتي كان الكزدغلي عميدها، لتشتم الرجل وتتهمه بالتطبيع برغم خروجه في الإعلام أكثر من مرة، وتنصله من هذه التهمة، بل الأخطر أن الجامعة تستصدر قراراً بسحب لقب "أستاذ مميز" منه. ويتواصل الجدل حول هذه القضية إلى غاية هذه الأيام من شهر أيار/مايو 2023، لتتأجج من جديد مع منع كتاب "فرنكنشتاين تونس"، ولتعود الحشود المتعطشة إلى ممارسة العنف إلى موضوع التطبيع واتهام الكاتب بالتطبيع مع إسرائيل بسبب ترجمة روايته "المشرط" إلى العبرية.
الحبيب الكزدغلي سبق أن تعرض لهجوم مماثل قبل سنوات، عندما أشرف على إقامة معرض في المكتبة الوطنية، ظهرت فيه بعض الصور للـ"هولوكست".
إن تنامي هذا التيار القومي الشوفيني المعادي للسامية في تونس، وملاحقته لكل فكر حرّ، أصبحا عماد الخطابات التحريضية الخطيرة خطورة الخطابات الدينية التي جاءت بالإرهاب خلال السنوات الماضية عبر تكفير المنافسين السياسيين والمثقفين، مما جاء بالاغتيالات السياسية، ومنها اغتيال شكري بلعيد، فالتخوين اليوم هو المعادل للتكفير في العشرية السابقة.
ولكن الأسوأ هذه المرة أن هذا الخطاب التخويني يأتي من السلطة نفسها، ويرعاه أنصار السلطة بالنشر والبحث عن ضحايا مستشهدين دائماً بعبارة "الخيانة العظمى" التي يطلقها الرئيس في كل مناسبة وفي كل ظهور له. فهل هذا السبب هو الذي جعل الرئيس يصف العملية الإرهابية في جربة، والتي كانت تستهدف اليهود أساساً ومعبد الغريبة، بالعملية الإجرامية لا الإرهابية؟
لم تعد عبارة "الخيانة العظمى" موجهةً أصلاً لنصرة القضية الفلسطينية، بل أمست عبارةً سحريةً للتخلص من خصوم قيس سعيّد، عبر أنصاره من الحشود التي صارت مثل القطعان المتوحشة تطارد أي صوت مختلف لتمهد له للانقضاض على الدولة وإنهاء مرحلة التمهيد للانقلاب
هل في ذلك الخطاب الرئاسي حماية لهذه الحشود المتعطشة إلى الدم والتي تسحل المثقفين أيضاً وتهدّدهم في حيواتهم ومواقعهم ووظائفهم؟ أليس هذا الفكر العدواني تجاه الآخر هو السبب في كل ما وقعت فيه الإنسانية من مآسٍ بدايةً من الحربين الكونيتين، بسبب الفاشية والنازية، اللتين قادتا العالم إلى الاقتتال وارتكاب الفظاعات البشرية؟
هل هناك فرق بين التخوين والتفكير إذا ما كانت النتيجة واحدةً: المزيد من الضحايا والمزيد من الكراهية والصراعات العرقية؟
أليس هذا الفكر التخويني والعدائي نفسه هو الذي كان وراء ما حصل للأفارقة من جنوب الصحراء في تونس، وما تعرضوا له من عنصرية وطرد وتنكيل وتعنيف، نقل صورها الإعلام العالمي قبل أشهر قليلة؟
عن أي تسامح يتحدث الرئيس قيس سعيّد، وهو يغذي مشاعر الكراهية تجاه الكل، ويستعمل خطاباً حربياً تجاه الكل، مستهدفاً الداخل والخارج لتبرير رعونته السياسية؟ ما قصة كلمة "القومي" في تسمية مجلس الأمن، في الوقت الذي تخلت تونس فيه نهائياً عن مصطلحات القومية في تسميات المؤسسات الإعلامية والاتصال والمؤسسة الاقتصادية وصار يطلَق عليها "وطنية" بدل قومية؟ ماذا يجهز قيس سعيّد بعد الانقلاب وتصفية الخصوم؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.