لا يسلم نقاد اليقين السلفي من يقين مضاد. ويشتد اليقين العلماني بمقدار غلوّ اليمين السلفي في يقينه، واكتسابه أرضاً جديدة وأنصاراً يحمدون الله على فقدانهم نعمة العقل. وبين اليقينيْن تم سحق الحداثة، مع وجود شذرات من مظاهر التحديث.
الحداثة حزمة عقلية تنحاز إلى المستقبل، وقد أنجزت فلسفتها قفزة فكرية انتصرت للعقل على النقل، وحررت الفكر إلا من سلطة العقل وحق الاجتهاد. فلسفة الحداثة حملت البشرية من العشيرة إلى الفردانية، من الاستبداد إلى الحرية، من العبودية والإقطاع إلى دولة دينها القانون. فلسفة ترفض المساس بالعقائد، وتحمي حق المواطن في اعتناق أي دين، أو الارتداد عن دين إلى آخر، أو الكفر بالأديان.
في الظاهر، كان كتاب "في الشعر الجاهلي" ثورة في منهج قراءة الشعر الجاهلي، وإعادة النظر في حياة العرب الذين كانوا أصحاب علم ودين وثروة وسياسة، "فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية لا أمة جاهلة همجية". العميد وصف قراءته بأنها "النظرية الخطرة"، وهو يعرف أنها تتجاوز الشعر إلى الشك في كل ما بلغنا عن القدماء، ما لم يقرّه العقل.
وعلى الرغم من ذكاء الطرح، فلا تزال الحداثة تراوح مكانها منذ مئة عام. تلك المراوحة حلمٌ، فالارتدادات تدعو إلى التحسّر على مشهد فقدَ فضيلة التسامح. لكن الارتداد العمومي لا يدعو أدونيس، على سبيل المثال، إلى مراجعة مقولاته، وسياقات تلقّي "الثابت والمتحول".
الحداثة حزمة عقلية تنحاز إلى المستقبل، وقد أنجزت فلسفتها قفزة فكرية انتصرت للعقل على النقل، وحررت الفكر إلا من سلطة العقل وحق الاجتهاد
نشرت مجلة "أدب ونقد"، في آب/أغسطس 1995، ملفا عن الحكم القضائي بتفريق الدكتور نصر حامد أبو زيد عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس. شاركتُ بمقال عنوانه "الذبح بالأحكام!"، أعجب الآن لاستخدامي علامة التعجب، كم تغيرتُ وتخليت. انتفض مثقفون "هالهم الحكم القضائي"، وأصدروا بيانات تحذر من استهداف الحريات، والدفع "بأمتنا نحو هاوية الجهل والظلام".
وفي جامعة القاهرة، وغيرها من الجامعات، فرح أساتذة بالحكم، وربما تسببوا فيه لرفضهم بحوث ترقية الرجل لأسباب دينية لا منهجية، واستند الحكم إلى تقاريرهم. وأما الطلاب فأكثر بؤساً. شحن أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر طلاب جامعته، عام 2000، للتظاهر رفضاً لطبع رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر.
كان الدكتور عبد الصبور شاهين أستاذاً في كلية دار العلوم، عضو اللجنة العلمية الدائمة للترقية بجامعة القاهرة، خطيباً لمسجد عمرو بن العاص. خطبة واحدة تنسف صراخ كائنات ثقافية غامضة تعيش في جيتو، تحتجّ ولا تؤثر في محيطها الاجتماعي. قلتُ آنذاك إنه منذ إثارة القضية، طوال أكثر من ثلاث سنوات، "كُتب عن قصة أبو زيد أضعاف ما كتب عن قضايا المصادرة في التاريخ العربي... ولكن كل ذلك ذهب سدى! كيف؟ سؤال يجب أن يرد عليه المثقفون، ليعرفوا على أي أرض يقفون ولماذا فقدوا فاعليتهم، وخسروا المعركة، حتى الآن على الأقل". ومن السذاجة، وإضاعة الوقت والجهد، الرهان على عقلانية المستفيد من التضليل.
أدونيس، في نقاش مع الدكتور عمار علي حسن، اتهم طه حسين بالتراجع عن أفكاره، وأنه "لم يكن جريئا بالقدر الكافي". لم يسأل نفسه سؤالاً، ربما ورد في ذهن عمار علي حسن، عما انتهت إليه جرأته، منذ أكثر من خمسين عاماً. راكم كتباً ومقولات ويقيناً ومحاضرات وإعجاباً يخلو من رصد الحصاد، وإعادة النظر في الوسيلة، وبحث طبيعة الأرض المستقبِلة للأفكار، ولماذا لا تثمر؟ بل إن شريحة الجمهور تزداد ضيقاً وانعزالاً، وأخشى على الخطاب الأدونيسي من استهدافه قارئاً يريد الاطمئنان على يقينه المضاد لليقين السلفي. قلة المعرفة بالناس غفلة. والتضحية بالجمهور، استعلاءً، تنتهي بالمثقف وحيداً ضعيفا لا تسعفه جرأة قد تداري هشاشة.
الجرأة المدرسية، في القاعات والكتب الموجهة إلى المثقفين، تختلف عن تنمية الوعي العام، من دون تلفيق أو اصطدام بالمقدس الإلهي. الوعي العمومي رصيد مهم لإنجاز الثورة. قد يبذر جيل من المفكرين ما يراهنون على نموّه، ولا يشهدون الثمار. مات فولتير وجان جاك روسّو، وغيرهما من آباء الثورة الفرنسية، قبل لحظة 1789 المستعصية على العالم العربي، بأن يكون الدين لله والدولة دينها القانون. لا استبداد باسم الدين، ولا بدواعي الوطنية. المملكة السعودية فرضت النقاب، وتركيا الأتاتوركية حظرت الحجاب. كلتا الدولتين رفعت يدها؛ فتمرد الناس على القيد السابق، تحرروا من سوط ديني ووطني. فهل يصحّ الرهان على حرية موهوبة، وحكم غير مستقرّ؟
الاستنارة سريعة المفعول هي مشروع دولة. أمر بها رأس المملكة السعودية فكانت. طُويت صفحات التحريم والتجريم والتكفير. المكفّرون فاجأتهم حداثة فرضتها السلطة، فابتلعوا ألسنتهم. هل هذا كافً ومضمون؟ ما أسهل الارتداد ما لم تكن التربة راسخة وحامية. التعليم ضمانة لتنشئة جيل على القيم الإنسانية، ويصير التكفير فولكلوراً.
شطط ينتمي إلى الفقه الأسود في المملكة. وفي مصر وغيرها لا يزال ينبت السموم. يكفي أن تكتب في الفيسبوك: "اعطوني قلماً أحمر وسأصحح أخطاء القرآن"، فيكون طه حسين بطل الفرية التي تستدعي ما لا نهاية له من تعليقات اللاعنين.
في 23 أيار/مايو 1962 نشرت صحيفة "عكاظ" هذا المانشيت: "جمال عبد الناصر كافر بالإجماع". وسيجد أهل الحجاز ممن طال بهم الأمد كتاباً ذا غلاف أخضر عنوانه "الجهاد في سبيل الله"، لأبي الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب. وأعلى اسم الكتاب ومؤلفيه: "المملكة العربية السعودية ـ وزارة المعارف"، لا يهم "الجهاد" في سبيل ماذا.
كما تعددت طبعات كتاب "مختصر شرح تسهيل العقيدة الإسلامية". ومؤلفه القاضي الدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين، الأستاذ بجامعة الملك سعود، يورد أسماء قرر أنهم منافقون "كابن أبي سلول، وأبي العلاء المعري، وجمال عبد الناصر وطه حسين، وعموم الباطنية، كالإسماعيلية، والدروز، والنصيرية وغالب أئمة الرافضة، وغيرهم من الزنادقة ممن مات منهم على الزندقة، وما هم فيه الآن من العذاب الأليم الذي لا يتحمله البشر في قبورهم، وما سيلاقونه من العذاب في قعر جهنم خالدين فيها". وفي الهامش يكتب عن عبد الناصر "يغلب علي الظن أنه مات على الكفر"، وطه حسين "كان من العلمانيين الذين يحاربون كتاب الله ويقدحون فيه".
شطط ينتمي إلى الفقه الأسود في المملكة. وفي مصر وغيرها لا يزال ينبت السموم. يكفي أن تكتب في الفيسبوك: "اعطوني قلماً أحمر وسأصحح أخطاء القرآن"، فيكون طه حسين بطل الفرية التي تستدعي ما لا نهاية له من تعليقات اللاعنين. لا يستطيع أحدهم نسبة الجملة إلى أي من كتب العميد. ولم يهب الله أحدهم عقلا ليسأل نفسه عن السبب الذي منعهم أن يعطوا الرجل قلماً أحمر لينفذ تهديده؟ في الهياج العاطفي لا مكان للمنطق. ولعل أنور الجندي صاحب براءة اصطناع الكذبة، وله سابقة نشرتُها في مقال "روبير جاكسون... أمريكي اختلقه الإخوان ونسبوا إليه كتابا عن حسن البنا"، (رصيف22، 28 تموز/يوليو 2022).
الهياج السلفي المكفِّر لطه حسين لا يقتصر على الأميين. من ضحاياه حملة دكتوراه، أساتذة في الجامعة ومدرسون في المدارس. وهذا ما يجب أن يهتم به أدونيس وعمار علي حسن وغيرهما.
الصدمة الأدونيسية تصرف الناس عن الغاية. أما عمّار فيميل إلى اختيار التصوف مخرجا، ففيه "من التعددية وقبول الآخر والتسامح وانفتاح التأويل بلا حد، والقطيعة المعرفية مع كثير من السائد عبر نسق متحرر مغاير، علاوة على إعلائه من قيمتي الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي، وهو ما تحتاجه مجتمعاتنا. إن هذا جانب مهم من حداثة أهملناها". هل يتحقق ذلك إلا عبر طرق صوفية تعزز الاستبداد؟ لعل الحل يتلخص في مناهج التربية في المدارس.
في غياب مناهج تعليم عصرية، لا يضعها سلفيون ولا يتولى تدريسها سلفيون، سنظل نرواح أماكننا، لمئة عام أخرى. يكفي جيل واحد يتأسس على التحضر الإنساني، ويؤمن بأن الدولة ليست مسؤولة عن حشر مواطنيها إلى الجنة، وأن الدين علاقة بين الإنسان وربه، لا وصاية لمؤسسة سياسية أو دينية. جيل يقدس الحرية الفردية، ولا ينتمي إلى قطيع مسلوب العقل. لم يبال طه حسين بردود الفعل على كتابه "في الشعر الجاهلي". قال: "أما نحن فنأبى كل الإباء أن نكون أدوات حاكية أو كتبا متحركة، ولا نرضى إلا أن تكون لنا عقول نفهم بها ونستعين بها على النقد والتمحيص في غير تحكم ولا طغيان".
تكفير العميد، والافتراء عليه، حرم أجيالاً من فوائض بصيرته. مساكين طلاب الأزهر الذين أغراهم رئيس الجامعة بالتظاهر ضد "وليمة" حيدر. ليسوا إلا "أدوات حاكية أو كتباً متحركة". لم يحيطوا بطرف من فلسفة الفنون، لكي تلين قلوبهم للجمال فلا يجترئوا عليه. تكفيهم قراءة كتاب "من بعيد"، ليدركوا ما ينبغي أن يكون عليه رجل الدين. لا يجمع فصول الكتاب إلا أن طه حسين كتبها "من بعيد"، بدأها من باريس بوصف الوداع الشعبي المهيب لسارة برنار، وتساءل: "متى يتاح لمصر نابغة كسارة برنار أو على أقل تقدير متى يبلغ أهل مصر من الرقي العلمي والخلقي ما يمكنهم من أن يقدروا نابغة كسارة برنار؟".
في غياب مناهج تعليم عصرية، لا يضعها سلفيون ولا يتولى تدريسها سلفيون، سنظل نرواح أماكننا، لمئة عام أخرى. يكفي جيل واحد يتأسس على التحضر الإنساني، ويؤمن بأن الدولة ليست مسؤولة عن حشر مواطنيها إلى الجنة، وأن الدين علاقة بين الإنسان وربه
كان طه حسين مشاركاً في مؤتمر للعلوم التاريخية ببلجيكا، في نيسان/أبريل 1923، وفوجئ بالفيلسوف البلجيكي "دوبريل" ينفي الوجود التاريخي لسقراط. سقراط وهوميروس كلاهما "لم يوجد قط، وكلاهما شخص اُتخذ رمزاً لنوع من الآداب"، للفلسفة وللشعر الشعبي. اندهش طه حسين: "فما كنت أظن أن وجود سقراط يصل في يوم من الأيام إلى أن يكون موضوع بحث، فضلاً عن أن يكون موضوع شك، بل فضلاً عن أن يكون موضوع إنكار". لكن حرية البحث العلمي انتهت بالأستاذ "دوبريل" إلى القول إن "سقراط شخص خرافي كشخص جحا". ومن التاريخ الأسطوري إلى الآثار الملموسة، انتقل إلى اجتماع ضيوف المؤتمر في كنيسة أثرية كبرى في بروكسل.
في كنيسة سانت جودول دُعوا "لا للصلاة ولا للتقديس، ولكن للدرس والتاريخ في لذة ومنفعة. هنا خطبنا قسيس فلم يتحدث إلينا في دين المسيح ولم يفسر لنا إصحاحاً من الإنجيل أو آية من التوراة". وإنما تحدث القسيس في فنون العمارة والآثار، وناقش أثريين من ألمانيا وفرنسا عن الفروق بين العمارة في الدول الثلاث. يسجل العميد إعجابه "بقسيس آخر خطبنا في المؤتمر خطبة ليس بينها وبين الدين صلة... ويؤلمني جدا أن أقارن بينهم (علمائنا) وبين رجال الدين في أوروبا، لأن هذه المقارنة لا تسرهم ولا ترضيهم كما أنها لا تسرنا ولا ترضينا". والإسلام دين "لين سهل لا كلفة فيه ولا تعقيد".
كاتب شجاع لم يدلل قارئه. ومنذ مئة عام وهو صامد لحملات ضلال وتضليل أنفقت فيها أعمار وأموال. لا أحصي عدد الكتب التي عارضت كتابه "في الشعر الجاهلي"، وقد ذهبت إلى النسيان، وظل كتابه الذي استفز طلاب الأزهر، وتظاهروا أمام البرلمان، حتى خرج إليهم سعد زغلول، وطيب خاطرهم: "هبوا أن رجلاً مجنوناً يهذي في الطريق فهل يغير العقلاء شيئاً من ذلك؟ إن هذا الدين متين وليس الذي شك فيه زعيماً ولا إماماً حتى نخشى من شكه على العامة. فليشك ما شاء، ماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟!". والآن أتساءل: ماذا خسر الأزهر وكليات التربية بعدم تدريس "في الشعر الجاهلي" و"من بعيد"؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت