بالصدفة قابلت زميلة سابقة من الجامعة، عرفتها من اللحظة الأولى التي جاءت عيني عليها، لكن لم تصدر مني أي ردة فعل، بينما هي ظلت تتأمّلني، كأنها "شبّهت علي" ولم تتأكد بعد. حاولت تجاهلها تماماً ولم أستطع أن أتجاهل الذكريات التي عادت بقوة مع أول لحظة جمعتنا، تلك الذكريات الأليمة التي أعادتني مراراً إلى منزلنا منهارة من البكاء.
التحقت بالجامعة في كلية وتخصّص لم أرغب بهما، ولم أكن على استعداد نهائياً لخوض تجربة مرغمة عليها لأسباب كثيرة، منها رغبة الأهل وندرة التخصّصات المتاحة في المحافظة التي أنتمي لها، وليس هنالك خيار الدراسة خارج محافظتي. بدأت بشكل سلبي للغاية وغير واثقة من نفسي، خاصة مع فكرة أن البنت التي تربت في بيئة صغيرة ستختلط مع مجتمع المدينة، وما أدراك ما بنات المدينة في نظر شابة بدوية!
ظلم النساء للنساء
بدأت حياتي الجامعية بشكل عادي ومظهر محافظ، لم أتخلّ عن طبيعتي ولهجتي مع الزميلات والزملاء، على الرغم أن الكلية كانت تفصلنا ما عدا في قاعة المحاضرات، ولكوني أمضي أغلب الوقت بالقرب من البنات خارج القاعة، كنت ما زلت أحاول التعرّف على شخصيات وسلوك لم أعهدها في حياتي قط، على مدار 19 عاماً قضيتها في منطقتي بين أهلي وجماعتي. رأيت سلوكاً جديدة وشخصيات حادّة وجارحة. لست تلك الفتاة المسكينة أيضاً، لكني لا أخطأ بحق أحد ولم أصل في الوقاحة إلى الدرجة التي عوملت بها من نساء مثلي، جمعهن شيء واحد وجعلهن على اتفاق دائم، وهو "التديّن" والحكم على الآخرين ومعاقبتهم على اختلافهم وطبيعة شخصياتهم.
كانت زميلتي "تعهّرني" لأني ألبس عباءة وبرقعاً، دون زوائد، كالجلباب الذي يوضع على الرأس إلى أسفل الركبة فوق العباءة والبرقع، ولا أمتنع من المشاركة والمناقشة في المحاضرات العامة التي تجمع أقساماً متعدّدة، كون صوتي "عورة"، كما تعتقد هي والكثيرات من شبيهاتها
استعادت الزميلة ذاكرتها وعرفتني، وسرعان ما بادرت لاحتضاني. حاولت ألا أحرجها وسحبت نفسي من حضنها بهدوء، وهي تقول: "وينك انقطعت أخبارك"، بكل قلة أدب تبحث عن أخباري وكأن هذه الشابة التي أمامها بلا ذاكرة. قلت لها: "لهذه الدرجة أمري يهمك، لا أتذكر أننا كنا صديقات؟". فاجأتها بردي، قالت: "بالعكس، كنتِ من أروع البنات في الكلية!". تملق ليس له مثيل وهي التي كانت "تعهّرني" لأني ألبس عباءة وبرقعاً، دون زوائد كالجلباب الذي يوضع على الرأس إلى أسفل الركبة فوق العباءة والبرقع، ولا أمتنع من المشاركة والمناقشة في المحاضرات العامة التي تجمع أقساماً متعدّدة، كون صوتي "عورة"، كما تعتقد هي والكثيرات من شبيهاتها.
لا أنسى المرارة التي تسببن بها لي على مدار أول عامين، وكيف أثّر ذلك على مستواي الدراسي وصحتي النفسية، بل إن الأمر تجاوزني إلى أمي التي كانت أيضاً تتألم من شكواي من زميلاتي، رغم أنها كانت تشجّعني ألا أسكت لمثل أولئك المسعورات، كما كانت تشبههن.
لا أبالغ حين أقول إن هذه الزميلة، وزميلة أخرى، نصبن لي مقصلة إعدام، لا يكتفين من جرّي لها كل نهار، بكلماتهن وهمزهن ولمزهن، شيء في الوجه وشيء بالتلميح وآخر يصلني عبر زميلات أخريات. في إحدى المرّات وضعت طلاء أظافر أسود وخاتم ذهب، كانت هذه الزينة الوحيدة بالنسبة لشابة ترتدي العباءة والبرقع، وبينما أتحدث إلى إحدى الزميلات من بنات دفعتي، جاءت بنت خالتها، وهي معي أيضاً في نفس الدفعة والقسم، لتمنع قريبتها عن التحدّث مع هذه "البنت غير المحترمة".
لا أنسى أسلوبها وصوتها المرتفع وهي تقول: "لا تتكلمين مع بنت مش محترمة جايه الكلية كنها تبا تروح زواج". قلت لها: "ليه ايش فيني؟"، قالت: "شوفي لنفسك المحترمة ما تروح تدرس وبأظافرها مناكير!". دارت بي الدنيا، ليس إحراجاً من أسلوبها وصوتها الحاد الذي جمع بنات الكلية حولنا فحسب، لكن من اليقين الذين لبّستني إياه بأني غير محترمة لمجرد زينة يومية بسيطة أكافئ بها نفسي.
اعتاد المجتمع اليمني على نصب خيمة لتقييم الناس والحكم عليهم، بل وبذل الجهد لأذيتهم وتتبّع تفاصيل حياتهم، والذي كنت أعيشه في الجامعة كان فصلاً مصغراً من منهج كبير يتعلّمه الناس ويتربون عليه وتشرعنه السلطات المتعدّدة في البلاد في وقتنا الحالي، ولكن إلى أي حد صار هذا وباء، وكيف أصبح سلوكاً اعتيادياً لدى الأغلبية؟ لذلك كنت أحاول أن أتفهّم السلوك الذي تم التعامل به معي، مبرّرة ذلك بأنه نمط جديد يعيش عليه الكثيرون، مع ازدياد حدّة التديّن والغلوّ في إظهاره على الملأ، ولا يجب السكوت عنه.
بداية الوباء
لا تخلو أرض من عيوب، لا سيما سلوك الناس وتصرفاتهم فيما بينهم على مر العصور، بل إن كل زمن يجد له ذريعة لانتهاك حياة الآخرين، وبناء سلسلة من التصورات والأحكام التي بمقدورها أن تقلب كل شيء وتغيره بحسب أهوائها، لكن أيضاً بداية النكسة التي نعيشها اليوم، والتي جعلت الحياة هنا من قبل سنوات قليلة عالماً مختلفاً، يستعرّ منه أولئك الذين امتلأت قلوبهم بالتقوى، ويتبع شعورهم بالعار سيل من الاستغفار، وكأنهم كانوا قد اقترفوا جرماً، بينما في الحقيقة لا شيء يعنيهم.
قبل سنوات قليلة فحسب، لم يكن لبس العباءة والبرقع شيئاً رسمياً في أغلب محافظات اليمن، بل على العكس تماماً، كانت النساء ترتدين الزي الشعبي لكل منطقة، قبل اتساع رقعة التديّن، خاصة بعد ثمانينيات القرن الماضي وعودة المغتربين من السعودية، المتأثرين بنظام الحياة الديني هناك، ثم انتشار الإخوان المسلمين بعد الوحدة اليمنية، والتأثير الكبير الذي أحرزوه داخل المجتمع اليمني، وبدون شك، المرأة ولباسها هو الهدف الأول الذي من خلاله يحقّق الجميع دائماً انتصاراتهم الدينية والفكرية، واليمن مطحنة كبيرة تطحن النساء، ومن هنا تأتي التصرفات التي تشجع الأفراد على التدخّل والأذية على أساس ديني وتقليدي وتصنيف سلوك النساء، محترمة كانت أو منحطة لا تستر نفسها، وكما يقول الشارع اليمني "ماشي وراها رجال"، أي لا رجل في بيتها يكبحها عن لبس أو طريقة حياة معينة تفضل أن تتبعها، وكأن للرجل الحق فيما تكونه نساء بيته، وذلك سائد جداً في اليمن.
ومع أن العباءة والبرقع شيئان قد يكونا كافيين للملتزمات اللواتي يرتدينه والمجبرات إتباعاً للعرف السائد، إلا أن الجلباب صار يحدّد إذا كانت المرأة شريفة أم لا، وما هو إلا قطعة قماش، قد ابتكر أصحاب محلات خياطة العباءات أشكالاً عديدة له، وأضافوا له الزينة المزركشة والملونة تخفيفاً من قتامته، لكن ويا للغرابة لم يزعج "المطاوعة" وحراس أخلاق الناس كثيراً، بل المهم أن هناك امرأة مغلّفة به والسلام.
قبل سنوات قليلة فحسب، لم يكن لبس العباءة والبرقع شيئاً رسمياً في أغلب محافظات اليمن، بل على العكس تماماً، كانت النساء ترتدين الزي الشعبي لكل منطقة، قبل اتساع رقعة التديّن، خاصة بعد ثمانينيات القرن الماضي وعودة المغتربين من السعودية، المتأثرين بنظام الحياة الديني هناك
توجه المشرع
غياب الدولة في اليمن، خاصة من بعد الحرب، شجّع الأطراف السياسية التي تسيطر على بعض المناطق بالتحكّم فيها، وتشريع قوانين وأنظمة ليس لها مسوّغ قانوني في الدستور اليمني، وهذا التحريض المعلن على النساء في الجامعات اليمنية والشارع وغيره لم يصب مناطق الجماعات المتشدّدة، بل وجد له مكاناً في البيئات التي تعرف بأنها منفتحة، حتى أن السلطات المتعدّدة في البلاد وجدت مجتمعاً جاهزاً ليدافع عن قراراتها، لتكون التوجهات الجديدة لها سلوك مستفحل يكبر حجمه حتى صار متبنى من الأغلبية ويدافعون عنه، كأنهم يقولون إن تصنيف البشر بحسب أهوائهم ليس جرماً، على الرغم من أن هذا التصنيف قد يحدّد مصير حياة الآخرين، وعلى أقل تقدير قد يتأذون نفسياً.
ليس هنالك شيء في اليمن يدعى "لا أهتمّ بكلام الناس"، مع هذه الرعونة والتوحّش والسيطرة التي باتت أمراً طبيعياً، لأن كلام الناس وتقديرهم لمَا أنت عليه قد يكون مصيري يجب على الفرد مراعاته مرغماً، لا أشجّع على ذلك أو أن هذا ما أؤمن به مطلقاً، ولكني وقعت تحت سلطة التوحّش الذي قوبلت به في الجامعة، وارتديت الجلباب لدرأ المصاعب الجمّة التي واجهتني، وكنت أشعر بالعار من نفسي كل يوم. ولا يغيب عني الشعور اللذيذ حين حضرت آخر محاضرة ورميته إلى الأبد، لم أرتده من يومها إلى الآن، ولم أتصدّق به كما نصحني البعض لكسب الثواب، أحسست بأني تحرّرت من عبء عظيم، كيف استرخصت نفسي وتحمّلته على كتفي طوال هذه السنوات؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه