كنت في السادسة من عمري، عندما وضعتُ أسرتي تحت الأمر الواقع، في عام 2001 تقريباً، كنت أصغر من الشابة الإيرانية مهسا أميني، بثمانية عشر عاماً. وقفت أمام مرآتي بجسدي الضئيل، وضعت على رأسي حجاباً يغطي شعري، بينما كنت أرتدي تنورة قصيرة وسترة بلا أكمام، تكشف يدي وقدمي بينما ألفّ الحجاب وأخبئ شعري. كانت أمي تعمل كضابط في صفوف الأمن العام النسائي حينها، وكان من الضروري للاستمرار في العمل هو عدم ارتداء الحجاب آنذاك، قليل من نساء العائلة كنّ يغطين شعورهن في تلك الآونة.
كانت أمي امرأة جميلة، تصحو صباحاً وتواجه مرآتها في لباس الأمن العام، تنورة قصيرة لون كحلي وقميص أزرق سماوي، وتضع على كتفيها أربع نجوم، تكوي شعرها القصير، وتوضب أنوثتها ليوم عمل حافل بالإنجازـ
كان الجواب الأولي لعائلتي على مظهري الصادم بالحجاب الرفض والاستنكار، لم يكن يبدو لي حينها أنّ بعض النساء يطمحن لأن يتحررن من الحجاب الذي يقيد أعناقهن، النساء اللاتي غطوا الرجال رؤوسهن وأدمغتهن منذ الصغر كيلا يطرن بعيداً، ولا تدخل أفكار التحرّر إليهن. اليوم، بعد اثنين وعشرين عاماً من ارتداء الحجاب، من المستحيل، في عائلتي، التمرّد على العادات والتقاليد، وأن أطالب بحقي بالاختيار، فأنا من أجبرت الرجال من عائلتي على إجبار إناثها على تغطية رؤوسهن.
أكثر من عشر فتيات من عائلتي أجبرن على الحجاب بسبب طفلة قاصر لا تفقه بالحياة شيئاً، أرادت تجربة تغطية رأسها، فحكمت على فتيات العائلة بالقيد للأبد. أعتذر لذلك
أكثر من عشر فتيات من عائلتي أجبرن على الحجاب بسبب طفلة قاصر لا تفقه بالحياة شيئاً، أرادت تجربة تغطية رأسها، فحكمت على فتيات العائلة بالقيد للأبد. أعتذر لذلك.
أنا السجين الذي سلم نفسه للسجان
اليوم، بعد اثنين وعشرين عاماً من السجن الذي حكمت به على نفسي، وأصدرت به حكم مماثلاً على غيري، صار من المستحيل إقناع أبي وأمي وأخوتي بأنني ضيّعت طفولتي سدى، كان قراراً خارجاً من رنيم الطفلة لا من رنيم الناضجة، فأي قرار هذا يخرج من طفلة قاصر كل ما كانت تريده هو التجربة، فدخلت كالفريسة للمصيدة ثم طلبت النجاة.
اليوم، ثمن الشجار مع من أعيش تحت سقف واحد، أي أسرتي، باهظ جداً، لا أستطيع تحمله. من ناحية أخرى، لا أستطيع تخيّل أنني لا أملك صورة طفولة واحدة بشعري الأسود الطويل، وأن صباي أيضاً سيذهب سدى مع ارتداء وشاح يغطي شعري الذي أحببته كثيراً. أبكي كثيرا طوال الليل، ولا شيء يسكت أنين رنيم، الطفلة التي قرّرت مصيري للأبدـ
اليوم، ما سيمنحني الحرية هو استقراري المادي، أو الزواج من رجل يرضى بما أطمح له، لأنّ الوظيفة أو الزواج هو السبيل الوحيد للتخلص والتحرّر من سيطرة العائلة، المجتمع الذكوري.
دافع والدي يبدو معروفاً. لم يكن أبي يوما رجلاً متديناً، لكنها العادات والتقاليد التي رسمها المجتمع الأبوي. أبي لا يرفض حريتي، لكن رأي أمي التي ارتدت الحجاب في عام 2004، أي بعدي بثلاث سنوات، يطفو فوق رأيه، وأخي الذي يرى بأنه ليس خروفاً ولا ديوثاً، وبأن نساء عائلته عليهن ألا يكشفن رؤوسهن كي لا تجرح رجولته، فيبتعد أبي قليلاً ويلتزم الصمت، ثم يوشوشني بوجه حنون: "يا بابا أنا مش طالع بايدي شي. بس تتزوجي تشرطي على زوجك ما بدك حجاب. ما بدنا مشاكل مع إخوانك الله يرضى عليك".
تحجبي ومش مهم الصلاة
لم يجبرني والداي على الصلاة أو العبادة مثلاً، فعلاقة كل منا مع ربه شيء خاص به، لا يمكن لأي منا أن يعتدي على خصوصية الآخر وإجباره على التعبد، ربما ما يحدّد هذه المسألة هو أن علاقتنا مع الرب والصلاة وإقامة مناسك التعبد، بعيدة عن أعين المجتمع والقيل والقال، فكل ما هو داخل المنزل وبعيد عن أعين المحيط كان مسموحاً لنا في العائلة.
ارتديت قطعة القماش على رأسي لأكثر من اثنين وعشرين سنة. ورغم خفّتها كنت أشعر بها بثقل يقيدني ويثقل جسدي عن الحركة والتفكير والحياة، أضعها على رأسي كلّ يوم، من الصباح حتى لحظة عودتي ودخولي البيت. كلّ محاولاتي للتأقلم معها فشلت، أشعر برغبة في التقيؤ وإخراج ما في أحشائي. كراهيتي للحجاب تحولت من شعور نفسي إلى أزمة جسدية.
إحساسي بأنّ الحجاب يلتف حول عنقي مثل حبل الإعدام، وأنا من حكمت على نفسي بالسجن، فكنت السجين الذي سلّم نفسه للسجان، يضيّق تنفسي، ولا أشعر بالراحة إلا بعد أن أرميه بعيداً عني، هذا العذاب اليومي أعيشه كلّ يوم، كل يوم على مدار سنوات، ومهما كانت تلك القطعة جميلة وثمينة، تظل رمزاً للألم والإكراه والتسلط والعبودية.
اليوم، أعتبر القضية بالنسبة لي قضية إجبار وقسر، فقدت حقي في الاختيار. رنيم الطفلة التي اختارت لي، أي طفل هذا الذي يحدّد مصيره ويؤخذ برأيه؟
اتركوني أعبد الله كما أريد، لا كما تريدون لي
لم يكن الحجاب رادعاً للذئاب البشرية في الشوارع، أو كابحاً لشهوتهم المفرطة لكل ما هو مؤنث، فكل المرات التي تجرّأ بها أحدى الوحوش على التحرّش بي كنت أرتدي ذلك الحجاب الذي يحثني عليه الدين والعائلة لحمايتي، فما جعلني أيضاً أكره هذه الفكرة التي يحاولون زرعها في رأسي، بأن السترة تمنعنا من اعتداء غيرنا علينا، فيشبهوننا بالقوارير والحلوى المكشوفة وحبة البرتقال المقشرة، والعديد من التشبيهات السطحية التي لا يشبهون الذكور فيها، فالرجل لا عورة ولا عيب ولا فعل يعيبه، حتى وإن كان متحرّشاً أو مغتصباً، فلا غشاء بكارة تحرص عليه العائلة.
سأصل الى حريتي يوماً ما، وأحضن رنيم الطفلة كل ليلة وأوشوشها بأنني أسامحها وبأنني أحبها، وأقول لنفسي القديمة والحالية والمستقبلية: سوف أجاهد لأكون امرأة حرة، وسأخرج من هذا السجن الذي لن يكون مؤبداً أبداً، من دون أن أضطر لدفع أثمان مقابل حريتي، سأكون ملك نفسي، وسأملك حرية في الحجاب والحب والجنس والعمل واختيار الشريك. لكن ماذا عن حرية أن أكون رنيم من دون الآراء المسبقة عني، من دون وضعي في صندوق العورة الضيق، المحجبة التي تكتب الشعر، المحجّبة التي تقص الحكايات الجريئة مثل الرجال؟
إحساسي بالحرية الكاذبة أيضاً قُيّد بتحيّزات المجتمع المسبقة عن النساء المحجبات، وعن الشاعرات اللاتي لا يقبلن السجن والقيود. أنا عالقة في سجن أبوابه مفتوحة، لكن ليس لديّ الحق في الخروج منه خوفاً من الخسارة، لأنني لا أريد أن أخسر عائلتي.
أصبح واقعي كابوساً وحلماً مفاده الحياة خارج أسوار سجن التعاسة الذي دخلته بأقدام طفولتي، بمقاس 34 وعمر ست سنوات، وطول لا يتعدى 130 سنتمتر فوق سطح الأرض. أعيدوني طفلة لأسامح نفسي
الحقيقة أن البشر يحاكمون بعضهم البعض كقضاة عن الرب، نعم من حقنا جميعاً أن نكون أحراراً، رجالاً ونساء، أحرار بأن نلبس أي قالب نريده، نجرب ونخسر، نصيب ونخطأ، نتعلم ونسقط في امتحانات الحياة، طالما أننا لا نلحق الأذى بغيرنا. لا أطالب فقط بحريتي في خلع الحجاب أو اللباس فقط. إنها حرية الاختيار، وحرية أن نتساوى مع الرجال بالتحليق، السماء ليست للرجال وأجنحتهم فقط، لا تقصوا أجنحتنا كنساء. لنحرّر صوتنا المستلب، صوتنا المحتل من قبل السلطة والذكورةـ، لأن نخلع لاصق تكميم أفواهنا ونصرخ بعلو أصواتنا.
تلك الرجفة والخوف والرغبة بالتقيؤ والإحساس بالضعف والمهانة والهزيمة، فقط لأنني أريد أن أقول لا، لا التي ستكلفني حلمي وحياتي، ما يجعلني اليوم أردّد على مسامع كلّ امرأة في هذا العالم: على كلّ امرأة التحرر من قطعة القماش تلك، من الظلم والاستبداد والضعف وكذبة غشاء البكارة، من سلطة الرجل مهما اختلف.. أب، زوج، أخ، ابن.
حلمت كثيراً بأنني سأعود لطفولتي واخلع الحجاب عن رأسي، وأعيش حريتي بكامل براءتها، ولكن سرعان ما أصحو من منامي لكابوس الواقع، لأجد نفسي في واقعي الذي خسرت وهدرت اثنين وعشرين عاماً من حياتي فيه مقيدة بحجابي الذي منعني من الحياة والطفولة.
فرغبتي اليوم أن أعيش حرة ولا ينعتني أحد بالعهر والانحلال، أصبح واقعي كابوساً وحلماً مفاده الحياة خارج أسوار سجن التعاسة الذي دخلته بأقدام طفولتي، بمقاس 34 وعمر ست سنوات، وطول لا يتعدى 130 سنتمتر فوق سطح الأرض. أعيدوني طفلة لأسامح نفسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...