إن كنت من أبناء جيلي فحتماً سوف تتذكر هذه العبارة: "إني أتنفّس تحت الماء... وهل لك خياشيم يا بن حافظ؟"، وتتعرّف على قائلها، وربما تسمعها تتردّد في أرجاء ذاكرتك بصوته الرنان المميز، كما حدث معي الآن.
فها هو صوته يأتيني من مكان بعيد بداخلي، يتصاعد تدريجياً فيرتجف جسدي نفس الرجفة التي أصابتني حينما اخترق مسامعي لأول مرة، في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. إنه أول داعية إسلامي أتعرّف عليه.
الشيخ كشك
طفلة صغيرة كنت، أحمل بين يدي دميتي القطنية التي صنعتها لي أمي الجالسة على مقربة تصفف شعرها، بينما يمسك أبي بين يديه شريط كاسيت، يضعه في جهاز التسجيل فيتصاعد منه صوت يتحدّث بإيقاع أقرب للصراخ.
"دي آخر خطبه للشيخ عبد الحميد كشك": هكذا أخبر أبي أمي عن صاحب الصوت بكل حماس، وجلس ينصت باهتمام وعلى وجهه ابتسامة الفائز بكنز ثمين، فقد كان الشيخ كشك مثلاً أعلى لوالدي، ابن الأزهر الذي قرّر أن يسير على نهجه ويتبع أسلوبه الخطابي المميز، فصارت خطب الشيخ مقرّرة علينا يومياً، يتردّد صداها في أرجاء منزلنا، ليل نهار، كفروض الطاعة.
يردّد أبي خلفه جمله الشهيرة التي انتشرت في ذلك الزمان بين جمهور مستمعيه بسرعة البرق. جمل كانت تتعالى معها ضحكات أبي، مشيداً بسرعة بديهة الشيخ وخفة ظلّه النادرة، بينما كنت أراها تطاولاً وسبّاً، ليس مكانه بالتأكيد خطاب ديني مبجل.
صوته يردّد بتهكم واضح: "بيقول إني أتنفس تحت الماء... وهل لك خياشيم يا بن حافظ"، فتتعالى ضحكات أبي لتملأ المكان. أقبض بأناملي على دميتي وأهمس في أذن أمي: "مين ابن حافظ ده"، فتجيب: "ده عبدالحليم حافظ. حتى الغلبان ما سلمش من لسانه"
حليم وثومة
صوته يردّد بتهكم واضح: "بيقول إني أتنفس تحت الماء... وهل لك خياشيم يا بن حافظ"، فتتعالى ضحكات أبي لتملأ المكان. أقبض بأناملي على دميتي وأهمس في أذن أمي: "مين ابن حافظ ده"، فتجيب: "ده عبدالحليم حافظ. حتى الغلبان ما سلمش من لسانه".
أسال نفسي بدهشة: لماذا يسخر الشيخ من ذلك الرجل الأنيق الذي شاهدت فيلمه "الخطايا" ذات خميس باستمتاع واضح، ورأيته يشدو بكل رقة وحب: "الحلوة الحلوة برموشها السودة الحلوة"، فرحت أرسم قصة حب حتماً تنتظرني في المستقبل عندما أصير شابة في عمر نادية لطفي.
أسال والدي ببراءة: "هو ماله ومال عبدالحليم.. ده حتى طيب. بيتريق عليه ليه؟"، فلا تأتيني إجابة سوى كلمتين: "اسمعي واسكتي".
فأكمل اللعب ويواصل الشيخ كلامه الذي لا أفهم أغلبه. أتوقف فقط عندما تتعالى ضحكات أبي والشيخ يردّد عبارة جديدة: "امرأة في السبعين من عمرها تقول خدني لحنانك خدني... يا شيخة خدك المولى عز وجل".
فأسال أبي تلك المرة عن المرأة التي يقصدها شيخه، فيقول وضحكاته تجلجل في قلب الغرفة: "قصده الست أم كلثوم".
أندهش. أليست هي تلك المرأة الوقور التي يستمع إلى أغنياتها الطويلة كل ليلة عبر الراديو، ويهتف بكل حب: "الله يا ست"؟.
"طب هو بيدعي عليها ليه وازاي انت بتضحك أوي كده وانت بتحب تسمعها": أسأل أبي ببراءة، فيصمت ولا يجيب، لكنه يواصل ضحكاته مع كل "إفيه جديد" للشيخ الجليل الذي قرّر أن تكون شادية الضحية التالية، فقال: "بتقولك... غاب القمر يا بن عمي يلا روحني، وإيه اللي قعدك مع راجل غريب لما القمر يغيب يا عديمة الرباية؟".
فأجدني أسأل أبي بحدة: "هو بيسمعهم ليه طالما مش عاجبينه؟ ما يروح يعمل حاجة تانية ويبطل تريقة ع الناس".
أسأل أبي بحدّة: "هو بيسمعهم ليه طالما مش عاجبينه؟ ما يروح يعمل حاجة تانية ويبطل تريقة ع الناس"
فتتسع عينا والدي، ويمد يده ليضغط على زر الجهاز فيتوقف الصوت فجأة، ويقول: "انتي هاتعدلي على الشيخ كشك يا بنت الكلب ؟"، لأحمل دميتي وأفر هاربة قبل أن تنزل كفه المرفوعة على خدي.
أجلس على عتبة الدار، أفكر وأسأل نفسي: كيف يفتن أبي بالست وأغنياتها ليلاً، ويردّد الدعوات عليها وراء شيخه هكذا بكل بساطة نهاراً؟ لتمرّ السنوات واكتشف أنها الازدواجية التي لم تكن داء تأصل في أبي وشيخه المفضل فقط للأسف، فالبقية في انتظاري.
محمد حسان
تمر السنوات وأخوض معارك الحياة معركة تلو الأخرى، كي أخرج من حيز قريتي الصغيرة لشوارع المدينة الواسعة، فيبتعد صوت الشيخ كشك ليختفي في زاوية بعيدة من ذاكرتي.،فأظن أنني نجوت، لكن سرعان ما يحل محلّ صوته صوت آخر أصبح بسرعة البرق نجم الشارع في نهاية التسعينيات، لكن بهيئة جديدة ونبرة صوت مختلفة.
إنه الشيخ محمد حسان الذي أصبح نجم المرحلة في غضون سنوات قليلة. يداهمني صوته من حيث لا أدري، يهاجمني في ميكروباص استقله، ويفاجئني في محل ملابس أدخله، أو في مقهى شعبي أمر عليه في طريقي. يحاصرني بلا رحمة. يصرخ بعبارة واحدة: "الحجاااااب يا أختتتااااه".
يرددها بأداء خاص يزلزل الأرجاء، أداء يجعلك تتأكد أن حجاب المرأة هو سر اتزان الكون، واختفاءه هو سبب الفقر والجهل ونشوب الحروب.
اختصر تأخر الأمة في حجاب المرأة، وحدّد إيمانها وتدينها في قطعة قماش تغطي شعرها. أفكار كانت تصيبني بالاشمئزاز، على الرغم من كوني محجبة، لكنني لا أنظر له نظرة أكثر من كونه ساتراً لجسدي، فلا هو سبب لدخولي الجنة ولا مفتاح لرميي في النار.
لكن كان لرفيقتي في الجامعة رأي آخر، فعلى الرغم من أنها كانت محجبة حجاباً عادياً، مثلي وغيري من بنات الطبقة المتوسطة المعتدلة دينياً، إلا أنها بين عشية وضحاها أصبحت من جمهور "الشيخ محمد حسان". تأتي بدروسه وتوزعها علينا مجاناً، مسجلة على شرائط كاسيت. ترجونا أن نستمع إليها قبل فوات الآوان، فما نرتديه ما هو إلا قطعة قماش لا تليق بالمسلمات حاملات لواء الجهاد، ولابد من أن نرتدي الخمار الفضفاض والنقاب الساتر ونخبأ أيدينا بالقفازات السوداء، فنحن كالغرابيب السود، يجب أن نترك متاع الدنيا ونفوز بالجنة.
عبارات كانت تردّدها بلا وعي، وبين كل جملة وأخرى تؤكد أنها ضمنت الجنة حينما ارتدت نقابها، وتريد أن تنقذنا من ضلالنا لنكون صحبتها في الفردوس الأعلى. نظرة تعالي وغرور لم أعهدها فيها. أصبحت تنظر إلينا على أننا أقل إيماناً وتقى، وأننا إن لم نتبع نصائح شيخها لن نرتقي لمكانتها.
هل منحك نقابك مفتاح الجنة؟ هل يقف شيخك على بابها ينتقي من يفوز بها؟ هل أصبحت أفضلنا لأنك فقط أخفيت ملامح وجهك خلف نقاب أسود؟ هل يليق بالمسلم الغرور والتعالي على الآخرين حتى لو كانوا أقل منه علماً أو تديناً؟
أسئلة وجهتها لها وأنا أحاول فهم ما يدور حولي، لكنها لم تجب سوى بعبارة واحدة: "خليكي في ضلالك"، وتركتني وهي تجزم للجميع أن عقلي سوف يدخلني النار حتماً، بينما أجزم أن الازدواجية داء يتفشى وينتشر بلا هوادة.
فالشيخ التقي كانت عيناه طوال الحوار تتفحصان جسدي. شعرت أنها تنزع عني ثيابي قطعة قطعة، لينهشني بنظراته، ولم ينه حواره معي إلا وهو يسألني: "إنت متجوزة"، فاندهشت وأجبت: "لأ .. ليه؟"، ليكمل بكل وقاحة: "لو بتفكري في عريس، أنا موجود، بس بشرط تلبسي النقاب"
الداعية المعتدل
تمر الأيام وأعمل بالصحافة، وأقرّر ذات يوم أن أحاور أحد الدعاة الجدد الذين ذاع صيتهم في نهاية العشرية الأولى من الألفية الثانية، والذي أصبح، بعد سنوات قليلة، أحد رموز الإخوان في ميدان رابعة.
كانت أمي تتابع برنامجه على قناة اشتهرت بكونها "إسلامية"، وتصفة دائماً بأنه الوحيد المعتدل بين كل من يظهر على شاشتها من شيوخ، فتابعته لفترة لأتعرّف على أفكاره، فوجدته كما وصفته أمي، معتدلاً فيما يردّد، منطقياً في تناوله للقضايا المختلفة، فقررت أن أمنحه مساحة لا بأس بها على صفحات الجريدة التي كنت أنتمي إليها، وأن يصبح نجماً لغلاف أحد أعدادها في شهر رمضان.
والتقيته بالفعل، لاكتشف بعد دقائق من حوارنا، صدق مقولة أيمن بهجت قمر، التي رددها حسين الجسمي في تتر مسلسل "أهل كايرو": "ياما البدل بتداري، سلطة وماحدش داري".
فالشيخ التقي كانت عيناه طوال الحوار تتفحصان جسدي. شعرت أنها تنزع عني ثيابي قطعة قطعة لينهشني بنظراته، مع العلم أنني ارتدي الحجاب منذ أن بلغت سن التكليف، ولا أرتاح أبداً للضيّق من الملابس، ولا أخضع بالقول فيطمع الذي بقلبه مرض، لكنها الازدواجية يا عزيزي، فلم يمنعه تدينه من اشتهائي، بل والتصريح بذلك بكل جرأة، فلم ينه حواره معي إلا وهو يسألني: "إنت متجوزة؟"، فاندهشت وأجبت: "لأ .. ليه؟"، ليكمل بكل وقاحة: "لو بتفكري في عريس، أنا موجود، بس بشرط تلبسي النقاب".
وردّد ضحكات سمجة لم أبادلها إلا بنظرة حادة أنهيت بها الحوار، وطلبت الانصراف والمغادرة، لأتيقن أنه، ومن سبقوه، مدعون وليسوا دعاة. يرتدي كل منهم الثياب التي تليق بعصره، ويختار ما يناسب زمنه لا دينه، فالمهم هو الانتشار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه