"أياً كان ما تقدّمه على الشاشة، احرص على أن يكون ممتعاً عند مشاهدته"؛ هذا ما يقوله المخرج عمر هلال في أحد الحوارات التي أجريت معه، قبل عامين، بصفته اسماً بارزاً في عالم صناعة الإعلانات، تُوّج بالعديد من الجوائز المرموقة في هذا الصدد. بدا في اللقاء شغوفاً بالسرد البصري، يعدّ إعلاناته بمثابة أفلام قصيرة تحكي قصصاً قبل أي شيء آخر، وكلما كانت القصة جذابةً أحبّ المشاهد العلامة التجارية تلقائياً.
قدّم هلال عشرات المواد الدعائية، لكن لطالما كانت عيناه على السينما، الحلم القديم الذي لازمه منذ الصبا وتعثر في تحقيقه على أرض الواقع، وقد أصبح من المُلحّ إدراكه بعد العثور على الحكاية التي يريد سردها على الشاشة الكبيرة. حدث ذلك بمحض الصدفة في أثناء تصفّحه فيسبوك، حيث قرأ خبراً عن فضيحة هروب فريق مكفوفين مزيّف إلى بولندا، تظاهر أعضاؤه بفقدان البصر للمشاركة في بطولة دولية مخططين لترك البلاد. عندها، شرع في كتابة سيناريو فيلمه الأول "فوي فوي فوي"، مطلقاً العنان لمخيلته تمزج بين جدية القضية وعبثية الموقف، وتغوص في دوافع الشخصيات وأزماتهم الدرامية دون أن تغفل الشقّ الهزلي للفعل نفسه.
يمثّل الحلم أهميةً كبرى في هذه الحكاية، ويشغل مساحةً من الحوار بين الشخصيات. يسخر عادل من سعيد لكونه قابعاً في مكانه مستسلماً لقدره، ويحثّه على الحلم، فيردّ الأخير: "أحلم! دا هيعملي فيها مدحت صالح"
تشتبك الحكاية مع أزمة الهجرة غير الشرعية ذات الحضور العالمي على مائدة مهرجانات السينما، بينما تولي اهتماماً أكبر للواقع المتأزم والرغبات المقهورة في بيئة خانقة، لكن بخفة تتناسب مع حبكات الاحتيال والنصب المُسلية. وصحيح أن العمل يتماسّ مع أفلام مصرية عدة تبنّت سردياتها الأحلام العاجزة خصوصاً في حقبتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وتستدعي أحداثه مشاهد مثل ادّعاء سيف ورفاقه أنهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، للمشاركة في مهرجان غنائي ضمن فيلم "أيس كريم في جليم"، إلا أنه يحمل الكثير من الطزاجة شكلاً ومضموناً.
عندما تصبح النجاة في الخديعة
قائمة طويلة من صنّاع الأفلام العالميين كانت بداياتهم في مجال الإعلانات، وبعضهم لم ينقطع عنه برغم تحقيق الشهرة السينمائية، ومع ذلك يتحفز كثيرون تجاه المخرجين المصريين ذوي الخبرات العملية المماثلة خوفاً من الانشغال بالإبهار البصري على حساب الدراما.
يحسم عمر هلال هذا الأمر من البداية مخلصاً لطبيعة حكايته وشخوصها المهمشين، ويقرر تقديم صورة صادقة تستمد جمالياتها وثراءها من الواقع نفسه، إذ نشاهد على الشاشة بيوتاً صغيرةً ذات أثاث بسيط، وطرقات ضيقةً يشغل الباعة نواصيها، وساحات كاشفةً لأحياء مصر القديمة بأسوارها وجدرانها المتآكلة.
يعيش داخل هذا العالم حسن السيد علي (محمد فراج)، باحثاً عن سبيل للفرار من حياة تعسة تصعب مجاراتها، فما بالنا بتغييرها. لا يرى جدوى من العمل في وظيفة تُبقي الوضع على ما هو عليه، فالحل هو الرحيل عن أرض لا تسع أحلامه. ومهما كان الثمن، وأياً كانت الوسيلة، لن يتردد في اقتناص فرصة تنتشله من واقعه. ومثلما عثر المخرج على حكاية فيلمه في خبر صحافي، تتراءى ضربة الحظ أمام حسن حينما يقرأ في جريدة عن فريق المكفوفين المسافر إلى أوروبا. يقرر أن ينتحل صفة كفيف، ويورّط نفسه والمحيطين به في سلسلة من الأكاذيب والجرائم حتى يصل إلى مراده.
يرافق حسن في رحلته صديقاه عمرو (أمجد الحجار)، وسعيد (طه الدسوقي). يبدو الأول متوافقاً مع نهجه في الحياة، يشاركه باستمرار في خططه وحيله آملاً في الخلاص من الفقر. أما الثاني، فهو عكسهما، يرضى بحاله وظروفه رافضاً تعليق نفسه بأمنيات بعيدة المنال. يتكتل الثلاثة في تكوينات بصرية عديدة على مدار الأحداث، يتقاسمون الطعام والحكايات وينخرطون معاً في المصائب. تتأسى لمعاناتهم حينما يُحطَّم قلب سعيد على حبيبته التي لم يستطع الزواج منها، وتضحك على تصرفاتهم الساذجة وهم يشاهدون فيلم "الكيت كات" لداود عبد السيد، ويقلّدون حركات بطله الكفيف في أثناء استعداداتهم لعملية الاحتيال.
يمثّل الحلم أهميةً كبرى في هذه الحكاية، ويشغل مساحةً من الحوار بين الشخصيات. يسخر عادل من سعيد لكونه قابعاً في مكانه مستسلماً لقدره، ويحثّه على الحلم، فيردّ الأخير: "أحلم! دا هيعملي فيها مدحت صالح". وكأن الأحلام غير مسموح بها هنا، وربما كانت حاضرةً مع قيام ثورة كانون الثاني/يناير 2011، لكن بعد مرور عامين (زمن أحداث الفيلم)، تبيّن أنها لا تزال بعيدة المنال برغم وعود التغيير. يتشارك المدرب عادل (بيومي فؤاد) معهم الهموم نفسها، فقد ظل لسنوات يطمح إلى تدريب فرقة مهمة بعدما عجز عن الاحتراف بسبب الإصابة، لكن الحال انتهى به مدرّساً للتربية الرياضية براتب هزيل لا يكفي احتياجات أسرته. وعندما يعلم بأمر فريق المكفوفين ويشجعه نجله على الانضمام إليهم مدرباً على أمل كسب البطولة ولفت أنظار الأندية، يخبره بأن يكفّ عن الوهم.
يحاول الفيلم رسم لوحة كاملة لأناس منسيين ضمن سرديته، تتعرض فيها النساء للانتهاك بأشكال مختلفة ويعجز الرجال عن تأمين حياة تستحق العيش، إذ يسهل السقوط أمام اختبارات الزمن برغم أن النتيجة غير مضمونة أيضاً
تبدو الشخصيات متخبطةً في تعريفها لماهية الحلم والوهم، وعاجزةً عن التفريق بين ما يمكن السعي وراءه وما يجب التراجع عنه. وسط كل هذا التيه، تصبح بطولة المكفوفين هي فرصتهم في النجاة ويتواطؤون جميعاً على الكذب وإن تباينت الدوافع، لأن الحلم بات أخيراً ممكناً. تعبّر الصور السينمائية عن التباين بين واقعهم الذي يتمتعون فيه بالبصر وأوقات الخداع حيث يدّعون العمى لهثاً وراء مستقبل قد يحمل تغييراً حقيقياً، حيث الواقع تطغى عليه درجات باردة تمزج بين البني والرمادى والأزرق وتصبح باقي الألوان أقل وضوحاً، فيما تبرز درجات دافئة من الأحمر والأصفر في مشاهد الاحتيال تناسب حالتها الهزلية وتعكس أثر الحلم في نفوسهم، وإن تراجعت تدريجياً مع الانغماس في الحكاية.
يحاول الفيلم رسم لوحة كاملة لأناس منسيين ضمن سرديته، تتعرض فيها النساء للانتهاك بأشكال مختلفة ويعجز الرجال عن تأمين حياة تستحق العيش، إذ يسهل السقوط أمام اختبارات الزمن برغم أن النتيجة غير مضمونة أيضاً. تأتي النهاية ساخرةً وذكيةً تدفعنا للتساؤل: هل ينال المحتالون جزاء فعلتهم أم أن هؤلاء حُكم عليهم بالبؤس في الداخل والخارج؟
خيارات السرد الممتعة
اكتسب عمر هلال خبرات متعددةً في مجال الإعلانات، نظراً إلى عمله في وظائف إبداعية مختلفة منها الكتابة، وقد أفاده ذلك في كيفية صناعة عمل مشوق ومقنع ذي إيقاع متماسك. يمكن ملاحظة ذلك، بدايةً من المشهد الافتتاحي الذي يتضمن لمحةً عما آلت إليه حياة البطل قبل أن نتعرف على حكايته، إذ نرى حسن جالساً في موقع تصوير يضع بعض مساحيق التجميل على وجهه، فيما يخبرنا صوت الرواي بأننا أمام شخص شديد الذكاء والوضاعة. هذا المشهد يتشابه مع قاعدة "الخطاف" في الإعلان التي تنشغل بلفت انتباه المشاهد بأقصى سرعة، حيث يثير فضول المتلقي نحو البطل ويدفعه للتساؤل حول ما فعله ليصل إلى هذه النقطة.
ثمة اهتمام واضح أيضاً بطريقة سرد المعلومات على الشاشة يخلق حالةً من التناغم بين ما نسمعه وما نشاهده. على سبيل المثال، يتضمن الفيلم مقطعاً متخيلاً لقوارب الهجرة غير الشرعية حينما يذهب حسن إلى أحد المهربين ليخبره بما سيواجهه في هذه الرحلة المميتة. يأتي هذا الخيار بدلاً من الاكتفاء بالحوار بين الشخصيات. لكن يتجلى تميّز النص السينمائي في المشاهد التي تصطحبنا إلى عالم كرة الجرس للمكفوفين وتحمل تعريفاً بلعبة يجهلها كثيرون، حيث يبدو عملاً منتمياً إلى أفلام الرياضة بقدر ما ينتمي إلى أفلام المحتالين.
تتباين السياقات التي تُمرر من خلالها قواعد هذه اللعبة، وبعضها نعرفه من خلال الحوارات الدائرة بين المدرب ونجله وهما يشاهدان إحدى المباريات، والبعض الآخر من خلال الصحافية (نيللي كريم)، التي تحاول استكشاف هذا العالم مثلنا. وفي كل الأحوال، لا تأتي المعلومات بشكل مُقحم درامياً.
وبما أن الفعل نفسه لا يخلو من الفكاهة، قرر هلال أن ينتزع الضحكات معتمداً على كوميديا الموقف أكثر من "الإيفيهات"، النابعة من الكذبة المتضخمة التي يتورط فيها البطل والمحيطون به، وكذلك تيمة الانتحال والتبديل، وهما الشكلان الأكثر حضوراً في أفلامنا المضحكة، وفقاً لدراسة "علامَ يضحك المصريون؟ الأشكال الأربعة عشر للكوميديا المصرية"، التي أعدّها الناقد أحمد شوقي. وقد برز استخدام هلال لهما في المشهد الذي تُفاجأ فيه والدة حسن بأن ابنها يدّعي فقدان البصر خلال لقائها الأول مع الصحافية.
برغم جاذبية السرد، بدت بعض الخطوط الدرامية ضعيفةً عن غيرها كالخط المتعلق بشخصية الصحافية، خصوصاً حينما تتخذ علاقتها بحسن بُعداً رومانسياً، إذ جاء هذا التحول غير مبرر بشكل كافٍ ومقحماً على الأحداث. ومع ذلك، تطغى قوة العناصر الأخرى على هذا المأخذ.
تمكّن عمر هلال من أن يصنع فيلماً ممتعاً، كما أحب أن يفعل دوماً، يجمع بين القيمة الفنية وعوامل الجذب الجماهيري. وقد قدّم نفسه للجمهور عبر حكاية جذابة تمس الواقع في قالب سينمائي هو الأفضل بين إنتاجات العام، لكن الأهم أن "فوي فوي فوي"، يتمتع بالكثير من المقومات التي ستمنحه البقاء في ذاكرتنا السينمائية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...