الموسم الثاني من مسلسل "موضوع عائلي" هو الذي وضعه على قائمة الترند، فرغم إطلاق الموسم الأول عام 2021، لم يلق الاهتمام الواسع، وقد تكون مصادفة عبثية هي التي سلطت الإضاءة عليه، ولكن ذلك لن يكون كافياً للنجاح إلا إذا كان العمل قادراً على الاستحواذ على اهتمام المشاهدين. وقد أفلح المسلسل في ذلك، فإن شاهدت مقطعاً على منصات التواصل الاجتماعي ستجد نفسك متشوقاً إلى مشاهدة العمل، فتبدأ بالموسم الأول المكون من عشر حلقات، وتذوب سريعاً في مشهدية مطابقة للعنوان، في طقوس عائلية مشتهاة، وتقع على صورة العائلة العربية وليس المصرية فحسب.
هذا الاقتران البسيط هو أسُّ النجاح الباهر الذي حققه العمل في موسميه، لأننا -ببساطة- نصدّق العنوان من المشاهد الأولى للحلقة الأولى، فنثق به ونكمله، في وقت جعلت كثافة الإنتاج وتعدد المنصات الواحد منا يستثقل مشاهدة مسلسل خوفاً من السقوط في فخ الغش، وإضاعة الوقت دون الحصول على المتعة التي يلوّح بها العنوان.
"إبراهيم" رجل في منتصف العمر يعيش وحيداً في شقته المقابلة لشقة أخته "زينب" المتزوجة من "رمضان" والتي تعيل معه الشاب "حسن" والفتى "عمر"، كما تعتني بأمها التي تعاني من الألزهايمر، إبراهيم أرمل، وقد خطف زوجتَه والدُها قبل أن تموت، لأنه رجل أعمال جشع لم يقبل بزواج ابنته سراً من شيف يعمل في فندق، أما شقيق زوجته "خالد" فأكثر جشعاً من أبيه، وهو مقامر فاشل يبدد أموال العائلة.
بناء الشخصيات وتقديمها
في المشاهد الأولى، ينجح المسلسل في تقديم هويات شخصياته على نحو سريع لكنه دقيق، فإبراهيم يكره المفاجآت، لدرجة يغضب معها من فكرة عيد ميلاده، لكن الكوميديا اللذيذة التي يصنعها جميع أفراد عائلته بخفّة، تبدد الغضب دائماً بسهولة، ولا تركز الأحداث على كره إبراهيم للمفاجآت عبثاً، إنما تمهيداً لصدمته حين يستدعيه والد زوجته وهو على فراش الموت ويطلب منه التوقيع على وصايته على "سارة"، بعد أن يصعقه بمفاجأة لم تخطر له على بال، وهي أن سارة ابنته هو، وقد وضعتها زوجته قبل أن تموت.هذا مثال على الحكمة في بناء الشخصيات في مجمل العمل، فإبراهيم الحنون اللامبالي في آن واحد، والذي يبغض المفاجآت، لن يستطيع الاعتراف بسهولة لابنته بأنه أبوها، خصوصاً بعد أن أخبره جدُّها بأنه شوّه سمعته أمامها على قدر ما استطاع على مدار عشرين سنة.
ستجد نفسك متشوقاً إلى مشاهدة العمل، فتبدأ بالموسم الأول المكون من عشر حلقات، وتذوب سريعاً في مشهدية مطابقة للعنوان وبكوميديا لذيذة يصنعها الأبطال باتقانيعمد المسلسل طوال حلقاته الاثنتين والعشرين إلى صناعة عقد متوالية تصل بالحدث إلى أعالي الحزن، الذي سرعان ما يتفتق عن حكمة أو رسالة تنطلق على لسان أحد الأبطال، وما إن تترقرق الدمعة أو تكاد، حتى يفجّر أحد أبطال المشهد هذه اللوحة الدرامية بفعلة مضحكة، في قوالب تجعل الكوميديا بنّاءة وخادمة للمشهد والمشاعر، فليس ثمة -في الموسم الأول على وجه التحديد- مشاهد كوميدية مجانية، وليس ثمة إسفاف أو مبالغة في صناعة النكتة على نحو تصبح فيه الضحكة محنّطة أو مجامِلة. وقد يكون النجاح في بناء طقس عائلي حقيقي يشبه بيوتنا وعائلاتنا، هو السبب في ذلك، فهو طقس يستطيع احتواء كل هذه التفاصيل والمشاعر على اختلافها وتناقضها.
ليس ثمة إسفاف أو مبالغة في صناعة النكتة على نحو تصبح فيه الضحكة محنّطة أو مجامِلة. وقد يكمن النجاح في بناء طقس عائلي حقيقي يشبه بيوتنا وعائلاتنا
تمكن فريق الكتابة المكون من أحمد الجندي (صاحب الفكرة والمخرج ومشارك في الكتابة) ومحمد عز الدين وكريم يوسف، من الوصول إلى سوية معاصرة في الكتابة، فثمة اختزال جميل نحتاجه في عصر السرعة، واحترام لنباهة المشاهد، تمثلا بعدم الإلحاح على المعلومة أو الشعور، بل تركهما يتسربان إلى قلب المشاهد وعقله، ليشكّلا موقفه من الأحداث. هكذا استوت ثقة الكاتب بالمشاهد، وثقة المشاهد بالكاتب، فلا تشعر وأنت تتابع الأحداث أن صانع العمل يملي عليك معلومة أو شعوراً، ولا يحاول أن يوجّه موقفك إلى أية منطقة، إنما يتركك تفسر ما يجري وفق أسباب تقترحها بنفسك، وفي الوقت ذاته لا يماطل في منحك المعلومة ولا يبخل في السرد.
المُشاهد بطل من أبطال المسلسل
تذهب شخصيات المسلسل معك في الليل إلى النوم، وترافقك صباحاً إلى العمل، وقد تسهر معك مساءً وتقترح إكمال المسلسل ذاته، وهذه صنعة لا يحوزها كثيرون، لها أركان عديدة، أبرزها عدم المبالغة في رسم الأحداث، فهي أحداث عادية قد تقع لأي منا، وهو ما يفرضه –بالضرورة- عدم المبالغة في بناء الشخصيات، فإن كانت الشخصيات عادية، فستكون مشكلاتها عادية غالباً –باستثناء العقدة الكبرى التي تسوّغ سرد الحكاية دون غيرها- كما أن حلول تلك المشكلات ستكون عبر أدوات عادية أيضاً، فلا شخصياتٍ خارقة تمتلك حلولاً سحرية، وهو ما يجعل الفشل والتخبط جزءاً منطقياً من القصة.تُضاف إلى ذلك بالطبع، البراعة في الأداء الذي قام عليه نجوم من أجيال متعددة، أفلح كل منهم في تقديم الشخصية على أكمل وجه، واللافت أن النص أيضاً راعى تعدد الأجيال على ثلاث مراحل: الأجداد، والآباء، والأحفاد، فلا ينطق الجيل الأول بلغة الثاني ولا ينطق الثاني بلغة الثالث، كما لا يتصرف أحدهم على نحو يشبه الآخر، وهذا سر من أسرار الصناعة الدرامية الناجحة.
يقوم بدور إبراهيم النجم ماجد الكدواني، ولعل الانعطافة الأكثر أهمية في مسيرته، كانت في فيلم "هيبتا"، حيث قدم لأول مرة شخصية ناضجة، كبروفيسور وكاتب وفيلسوف، واستطاع أن يفاجئ الجمهور بخروجه من القالب الكوميدي الذي عوّدنا عليه، وكان ذلك الدور ما نقله من الأدوار المساندة إلى الرئيسية، وسرعان ما تمكن من الاستحواذ على الأضواء، بفرادة أدائه الذي يضاهي تجارب عالمية كبيرة.
يتشرب الكدواني في "موضوع عائلي" ملامح الشخصية دون أن يتخلى عن ملامحه، هذا الصدق الذي يجلل أداءه، يقرّبه إليك على نحو استثنائي، لا تشعر معه أنك تعرف "إبراهيم" وتألفه فحسب، إنما يصعد بك الشعور ذاك إلى مستوى تقتنع فيه أنك أنت "إبراهيم"، فالصدق الممتزج بالتلقائية وتحييد المبالغة، يخلق ألفة تدل على موهبة الكدواني شديدة الندرة.
اللافت أن النص راعى تعدد الأجيال على ثلاث مراحل: الأجداد، والآباء، والأحفاد، فلا ينطق الجيل الأول بلغة الثاني ولا ينطق الثاني بلغة الثالث، كما لا يتصرف أحدهم على نحو يشبه الآخر
يقترب من ذلك أيضاً محمد رضوان بدور رمضان، الرجل المصري التقليدي، الذي يغرق في السذاجة دون التخلي عن الأصالة والشهامة، ودون مبارحة الخطأ المتمثل بسوء التقدير، والسلوك الفضائحي المضحك واللذيذ.
كذلك تفعل سماء إبراهيم بدور زينب، السيدة المصرية البسيطة البكّاءة المضيافة، التي تستطيع أن تنفّرك من الطعام بشدة تمسكها بك وإلحاحها إذا فردَتْ مائدتها، ويستطيع محمد شاهين بدور خالد أن يقنعك بأنه سكير ومقامر وفاشل اجتماعياً.
ومن الجيل الجديد تضرب رنا رئيس مثلاً مدهشاً في تقمص شخصية الفتاة الوافدة إلى مصر من إنجلترا، التي يتنافر سلوكُها والتقاليد المصرية، قبل أن ترتد عن نشأتها، وتصبح فتاة غيورة تنساق أيما انسياق مع البيئة المصرية الشرقية، حين ترتبط بابن خالها "حسن" الذي يقوم بدوره طه دسوقي، صاحب الأداء المبشر، الذي تذكرك ملامحه وروحه ببدايات عادل إمام بعظمته كلها.
الصورة والألوان والصوت
ثمة سر توصلت إليه الدراما العربية متأخرة، يكمن في ضبط الألوان، بالمعنيين الواقعي والتقني، ففي مجمل الكوادر ثمة تناسق ألوان عجيب، يظهر في بيوت العائلة حيث لا تلمس فيها ثراءً فاحشاً، ومع ذلك تلمس أناقة جذابة، تتمثل بتنسيق الألوان والأثاث، كما أن ضبط الألوان "Coloring" الذي تولّاه محمود علي، يضفي اتساقاً ضرورياً يُنضج الصورة ويجمّلها.وعلى عكس أعمال كثيرة، غابت في "موضوع عائلي" مشكلات الصوت، فالحوارات واضحة، وهندسة الصوت دقيقة، وقد تولّاها كل من سامح جمال ويوسف الميهي، أما الموسيقى التصويرية التي قام عليها خالد الكمّار فمنسجمة مع الحوارات والانفعالات وقادرة على تغذية المشاعر وتضخيمها، خدمة للمشهد.
ضيوف شرف ووجوه جديدة
ويستضيف "موضوع عائلي" نجوماً كباراً من مثل عبد الرحمن أبو زهرة بدور جد سارة لأمها، وبيومي فؤاد، وأمينة خليل، وشيرين رضا، ومحمد سلام، وعلاء مرسي، في مشاهد صغيرة تتوزعها الحلقات، كما يتيح مساحة للفنانة لبنى محمود بدور جدة سارة لأبيها، ويمنح الفتى فؤاد محسن فرصة بدور "عمر"، كما يتيح مساحة للمثل السوري محمد القس بدور "غازي" رجل العصابات السوري المقيم في مصر، ويمنح النجمة نور حصة من بطولة الموسم الثاني.ومشكلات كان يمكن تجاوزها
كأي عمل فني، لم يخل "موضوع عائلي" من بعض الزلات، خصوصاً في موسمه الثاني، والمتمثلة بخطوط سرد موازية كان ينبغي ألا يذهب إليها، إذ افتقرت للمسوغ الدرامي، مثل قصة زواج خالد المفاجئ من شقيقة غازي "أم ليث" مهربة الأسلحة، الغوغائية والموغلة في الجريمة، الأخطاء في هذا الصدد تراكمت تباعاً، فغياب زوجة خالد وابنته بعد أن التأم شملهم في نهاية الجزء الأول، لم يبرَّر بشكل منطقي، كما أن دخول "أم ليث" إلى القصة كان فجّاً وفيه شيء من الإسفاف، اضطر معه صناع العمل إلى تحويل شخصية خالد من رجل جشع وقوي ومحتال، إلى مهرج ساذج وسخيف مستسلم لزوجته المجرمة، على نحو غير مبرَّر أيضاً، فضلاً عن خطأ يحدث تاريخياً في السينما والدراما المصريتين، يتمثل في الاعتماد على ممثل مصري أو ممثلة مصرية لأداء دور شخصية سورية أو لبنانية، مما ينتج لهجة مشوهة ومزعجة كما حدث مع الفنانة ياسمين وافي في دور "أم ليث".كأي عمل فني، لم يخل "موضوع عائلي" من بعض الزلات، خصوصاً في موسمه الثاني، والمتمثلة بخطوط سرد موازية كان ينبغي ألا يذهب إليها، إذ افتقرت للمسوغ الدرامي
ما إن انتهى الموسم الثاني حتى بدأ الحديث عن موسم ثالث دون تأكيد منتج العمل أحمد الجنايني ذلك، إلا أن نجاحاً كهذا يمهّد الطريق لنجاح موسم ثالث من هذا العمل، الذي أهداه مخرجُه لروح والده الممثل الراحل محمود الجندي، وبُث على منصة شاهد، كواحد من أعمالها الأصلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين