لسنوات طويلة كتبت النصوص والقصائد دون أن تحوي كلمة حب واحدة، قصائد تقول كم أنا تائهة في الحياة، ولا أعرف نفسي، ولا أعرف ماذا أريد، كأن الحياة تجرّني من رقبتي لأكبر وأصبح زوجة وأماً مسؤولة عن منزل وفتيات صغار، وأنا مازلت في مرحلة الطفولة، فما عرفت كيف أكون أمّاً ولا عرفت من الأمومة سوى القبلات والأحضان التي أوزعها على بناتي دون أن أكون قادرة على قول "لا"، في الوقت الذي ينبغي أن أقولها فيه.
كتبت نصوصاً وقصائد عن بيتي، أو ما كنت أظنه بيتي، دون أن أجد نفسي به ودون حتى أن أختار أثاثه، بيتي الذي كان قارباً صغيراً يسبح ضد تياري الخاص وضد كل ما أحب وأتمنى.
سنوات وأنا أتهكّم في داخلي على قصائد الحب والكليشيهات التي تفيض بها، وأقول لنفسي: ألم يكتف الشعراء من قصائد الحب؟ العالم الذي نعيش فيه لم يعد يحتمل كل هذه العواطف، نحن نعيش في ديستوبيا تقودنا إلى النهاية بأي طريقة من الطرق. كانت نصوصي محملة بمخاوفي وهواجسي وكوابيسي دون افتعال. ذلك كان العالم الذي يدور في رأسي بالفعل، مخاوف من الوحدة والشيخوخة والألم وعدم التحقق وعدم اليقين والاكتئاب والكآبة والألم.
صرت أسأل نفسي: لماذا يحدث كل هذا لي؟ هل لصالح بناتي؟ أم لصالح المنزل؟ أم لصالح زوجي و إرادته و رغبته في استمرار الزواج؟ لكن أين أنا من كل ما يحدث؟ أنا لا أرغب سوى في الطلاق. لا أقول الانفصال ولكن أؤكد على رغبتي في الطلاق كمن يرغب في إطلاق سراحه بالفعل
عندما ثار جسدي علي
يقول الأطباء إن الجسد يثور علينا عندما نكبته مرات ومرات، وكلما حاولت كبت نفسي وإجبارها على البقاء حيث لا تريد، كان جسدي يثور بالفعل، لم يحتمل ما كنت أجبره على احتماله، وبدأ يصرخ بثقوب في بطني وفخذي وذراعي، ثقوب تبدأ صغيرة ثم تكبر وتنتفخ وتتقيّح، وأذهب إلى الجراح ليفتحها دون أن أعرف السبب، سوى أن بعض الجراحين كان يقول لي "حالة نفسية"، ولا مزيد من التوضيح.
كنت أتناول العقاقير وأضمّد جروحي وأستمر في حياة لا أحبها ولا أرغب بها، ظناً مني أنني سأهزم نفسي، لكن مع الوقت والكبت واستمرار القهر والتهديد والعنف الزوجي غير المرئي وغير المبرر، استمر جسدي في الصراخ وتوالت الثقوب حتى وصلت إلى حلقي وحنجرتي. كنت أرى الثقوب متجاورة، ولا أقدر على شرب شربة ماء ولا حتى على بلع ريقي.
عذاب مقيم في كل ثانية، وأنا أراقب ثقوب حلقي وحنجرتي وهي تتسع وتتعمّق مع كل تهديد وتعنيف، ولا أحد يعرف ماذا يحدث لي، يقولون فقط: "لديها التهاب في الحلق". مجرّد التهاب في الحلق ولا أحد يعلم ما بي، وأنا أخسر وزني كل يوم وأصبح أقرب لهيكل ممصوص.
تعلمت أن التضحية المطلقة شر مطلق
عندما نرفض الاستماع إلى أجسادنا فهي لا تتوقف عن الزنّ علينا حتى نلتفت لها، ولطالما تجاهلت جسدي وعلاماته وإشاراته لسنوات، حتى ضاج مني وبدأ يلتهمني كما قال لي الطبيب: "جسدك يلتهم نفسه".
ماذا يفعل جسدي أكثر من ذلك ليقول لي توقفي عن هذه الحياة وارفضيها ولا تستجيبي للتهديدات والوعيد من الزوج بالحرمان من الأطفال أو الامتناع من الصرف عليهم وعواقب لقب مطلقة؟
لسنوات خشيت من كل هذه التهديدات، وبقيت بداخل المركب حتى تسير ولا تتوقف، لكنني كنت أخالف نفسي وكل ما أشعر به وأفقد نفسي وروحي وكدت أفقد عقلي، وفي كل عام أقول ربما العام القادم بعد أن تكبر بناتي قليلاً... بعد أن أحصل على وظيفة ثابتة... بعد أن أبيع بعض اللوحات، لكن جسدي لم يعرف كل ما كان عقلي يفكر به، وقرّر أن ينهي الأمر بطريقته ويثور على كل القواعد والثوابت التي حاصرته داخلها، لكنني عرفت أنني في النهاية أصبحت مريضة بمرض مزمن وهو الذئبة الحمراء.
أنا مريضة ذئبة حمراء وبحاجة إلى التعاطف
بكيت وصرخت واكتأبت فوق اكتئابي عندما عرفت بمرضي، وعندما أصبحت أبدأ يومي بمجموعة كبيرة من العقاقير، منها الكورتيزون والفيتامينات ومثبطات المناعة إلى جانب أدوية الاكتئاب ومثبتات المزاج، وصرت أسأل نفسي: لماذا يحدث كل هذا لي؟ هل لصالح بناتي؟ أم لصالح المنزل؟ أم لصالح زوجي و إرادته و رغبته في استمرار الزواج؟ لكن أين أنا من كل ما يحدث؟ أنا لا أرغب سوى في الطلاق. لا أقول الانفصال ولكن أؤكد على رغبتي في الطلاق كمن يرغب في إطلاق سراحه بالفعل.
لم يعد هناك شيء يرضيني سوى إطلاق سراحي من تلك العلاقة مهما كانت العواقب الاجتماعية أو الاقتصادية أو المعيشية. رفضت كل طرق الصلح والتواصل بعد سنوات من الخوف والقلق والهواجس السيئة، وقرّرت أنه لا مزيد من فرض العقوبات على نفسي وجسمي لأي سبب أي كان، حتى لو كان السبب هو بناتي ورغبتهن في بقاء أبيهن معهن، لا يمكن أن أبادل حياتي ووجودي برغبة بناتي مهما كانت رغبة قوية مؤججة وضاغطة.
اتساقي مع ذاتي لا مفر منه
هل يمكن أن أكون أماً كفئاً لتربية ثلاث فتيات في أعمار مختلفة وأنا أقهر نفسي وأجبرها على تقبّل ما لا تحتمل؟ هل يمكن أن أكتب الشعر وأنا أكذب على نفسي؟ أنا لا أصدّق الشعر الكاذب ولا أؤلف الشعر، لكنني أكتبه، ولم أعد قادرة على ابتلاع القهر ولم أعد أصدّق نفسي عندما أطلب من بناتي رفض الظلم وقول "لا" في الوقت المناسب.
أصبحت أكثر وعياً بحقوقي وحقوق جسدي علي، تعلمت أن التضحية المطلقة شر مطلق، وأن جسدي ليس مجرد وعاء، لكنه جزء من كينونتي وهويتي، وبقائي بصحة جيدة مرتبط بحفاظي على هذا الجسد وهذه الروح التي هي بحاجة إلى التدليل والهدوء والراحة والمساحات الحرة من الحياة على كل الأصعدة
تصارعت بداخلي قوى الأمومة التي تسحبني للبقاء في كنف البيت، ورغبة سارة الفردية في الحرية والاحتكام إلى ضميري لا أكثر في حياتي دون أي حاكم آخر. قالت لي أمي مرة: "عاوزة تطلقي عشان تبقي من غير حاكم؟". نعم أحب أن أبقى بلا حاكم ومن يحب أن يكون له حاكم؟ حاكمي سيبقى ضميري وإنسانيتي ومعرفتي القصوى بنفسي التي بذلت من أجلها مجهود كبير حتى أعرف تماماً من أنا وماذا أريد.
بعد مرور ما يقرب من خمس سنوات على أول هجمة ذئبة حمراء على جسدي، مازلت أذكرها كأنها بالأمس لأنها مازالت تتكرّر كلما حدث عارض ما يثيرني بقوة أو كلما شعرت بظلم ما، لكنني أصبحت أكثر وعياً بحقوقي وحقوق جسدي علي، تعلمت أن التضحية المطلقة شر مطلق، وأن جسدي ليس مجرد وعاء، لكنه جزء من كينونتي وهويتي، وبقائي بصحة جيدة مرتبط بحفاظي على هذا الجسد وهذه الروح التي هي بحاجة إلى التدليل والهدوء والراحة والمساحات الحرة من الحياة على كل الأصعدة.
نعم، كنت بحاجة إلى حريتي حتى أتمكن من البقاء على قيد الحياة. نعم أنا مطلقة وأتحمل مسؤولية عاتية، لكنني أشعر بالحرية والقدرة والتمكين داخلي، وهي مشاعر لا يمكن أن يقدرها إلا من حرم منها لسنوات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوميناوجدتي أدلة كثيرة للدفاع عن الشر وتبيانه على انه الوجه الاخر للخير لكن أين الأدلة انه فطري؟ في المثل الاخير الذي أوردته مثلا تم اختزال الشخصيات ببضع معايير اجتماعية تربط عادة بالخير أو بالشر من دون الولوج في الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والمستوى التعليمي والثقافي والخبرات الحياتية والأحداث المهمة المؤسسة للشخصيات المذكورة لذلك الحكم من خلال تلك المعايير سطحي ولا يبرهن النقطة الأساسية في المقال.
وبالنسبة ليهوذا هناك تناقض في الطرح. اذا كان شخصية في قصة خيالية فلماذا نأخذ تفصيل انتحاره كحقيقة. ربما كان ضحية وربما كان شريرا حتى العظم ولم ينتحر إنما جاء انتحاره لحثنا على نبذ الخيانة. لا ندري...
الفكرة المفضلة عندي من هذا المقال هي تعريف الخير كرفض للشر حتى لو تسنى للشخص فعل الشر من دون عقاب وسأزيد على ذلك، حتى لو كان فعل الشر هذا يصب في مصلحته.
Mazen Marraj -
منذ يومينمبدعة رهام ❤️بالتوفيق دائماً ?
Emad Abu Esamen -
منذ 3 أياملقد أبدعت يا رؤى فقد قرأت للتو نصاً يمثل حالة ابداع وصفي وتحليل موضوعي عميق , يلامس القلب برفق ممزوج بسلاسة في الطرح , و ربما يراه اخرون كل من زاويته و ربما كان احساسي بالنص مرتبط بكوني عشت تجربة زواج فاشل , برغم وجود حب يصعب وصفه كماً ونوعاً, بإختصار ...... ابدعت يا رؤى حد إذهالي
تامر شاهين -
منذ 4 أيامهذا الابحار الحذر في الذاكرة عميق وأكثر من نستالجيا خفيفة؟
هذه المشاهد غزيرة لكن لا تروي ولا تغلق الباب . ممتع وممتنع هذا النص لكن احتاج كقارئ ان اعرف من أنت واين أنت وهل هذه المشاهد مجاز فعلا؟ ام حصلت؟ او مختلطة؟
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممن المعيب نشر هذه الماده التي استطاعت فيها زيزي تزوير عدد كبير من اقتباسات الكتاب والسخرية من الشرف ،
كان عيسى يذهب إلى أي عمل "شريف"،
"أن عيسى الذي حصل على ليسانس الحقوق بمساعدة أخيه"
وبذلك قلبت معلومات وردت واضحة بالكتاب ان الشقيق الاصغر هو الذي تكفل بمساعدة اهله ومساعدة اخيه الذي اسكنه معه في غرفه مستأجره في دمشق وتكفل بمساعد ته .
.يدل ذلك ان زيزي لم تقرأ الكتاب وجاءتها المقاله جاهزه لترسلها لكم
غباءا منها أو جهات دفعتها لذلك
واذا افترضنا انها قرأت الكتاب فعدم فهمها ال لا محدود جعلها تنساق وراء تأويلات اغرقتها في مستنقع الثقافة التي تربت عليها ثقافة التهم والتوقيع على الاعترافات المنزوعه بالقوة والتعذيب
وهذه بالتأكيد مسؤولية الناشر موقع (رصيف 22) الذي عودنا على مهنية مشهودة
Kinan Ali -
منذ 4 أيامجميل جدا... كمية التفاصيل مرعبة...