منيرة المهدية - أو السلطانة - تربعت على عرش الغناء في مصر والوطن العربي لسنوات طويلة قبل أن "تُطيح بها" أم كلثوم في ثلاثينيات القرن العشرين.
سبقت أم كلثوم في كل شيء، إلى النجومية المحلية أولاً، وإلى الحفلات الكبرى خارج مصر حيث غنّت في ليبيا والمغرب وتونس، وصولاً إلى تركيا وإيران، ووصلت سوريا والعراق سنة 1919 في حين أن "الست" لم تأتيهما إلا في مطلع العقد الثالث من القرن العشرين.
لم يكن في سوريا آنذاك لا راديو ولا تلفاز؛ وحدهم الأثرياء كانوا يعرفون صوتها عن طريق أسطوانات الغرامافون، ولكن الجمهور السوري تدفق إلى حفلاتها بعد الترويج بأنها "مطربة مصر الأولى".
وقد حققت نجاحاً مدوياً وصل إلى إطلاق اسمها ورسمها على ماركة سجائر "منيرة" المحلية السورية، وزاد من نجوميتها في سوريا ما أشيع عن دعمها لثورة سعد زغلول ضد بريطانيا، وخروجها مع أعضاء فرقتها في شوارع القاهرة في مظاهرة تأييد له بعد اعتقاله ونفيه، متحدياً أعقاب البنادق الإنكليزية.
بين بغداد والبصرة
من دمشق توجهت منيرة إلى حلب وبعدها إلى بغداد، حيث كانت على موعد لإحياء عدة حفلات في "سينما سنترال" (سينما الرافدين لاحقاً). وفي كتابها عن حياة "السلطانة" تقول مغنية الأوبرا المصرية رتيبة الحفني إن منيرة قررت القيام بجولتها العربية الطويلة هرباً من خلافات عميقة مع زوجها في القاهرة، وبحثاً عن جمهور أوسع من جمهورها المصري، وهو ما يُفسر استعدادها لمواجهة مخاطر شتى في طريق حلب–بغداد البري، المليء باللصوص وقاطعي الطّرق، الذي لم يكن يُنيره يومها إلّا ضوء القمر.
تروي منيرة تجهيزاتها لهذه السفرة وتقول: "كان مسدسي محشواً وكانت بندقيتي معمرة والخنجر الذي أحمله حاد النصل، قاطع الشفرة. وكان معي كمية كبيرة من الرصاص".
حققت نجاحاً مدوياً وصل إلى إطلاق اسمها ورسمها على ماركة سجائر "منيرة" المحلية السورية، وزاد من نجوميتها في سوريا ما أشيع عن دعمها لثورة سعد زغلول ضد بريطانيا
مضت الرحلة بصعوبة، وكانت فنانة مصر الأولى تبات في الجلاء عندما يأتي الليل وتبكي من الخوف، وتحديداً بعدما شاهدت عربة تهوي بالوادي أمام أعينها وتودي بحياة كل من فيها من ركّاب.
وفي بغداد، استقبلها حاكم المدينة ونزلت في "أوتيل مود" التي وصفته بأفخم "لوكندة" في العراق، حيث تعرفت إلى مغنية مصرية تُدعى بهية، قالت لها إن الوصول إلى العراق شيء، والحصول على ترخيص لإقامة الحفل فيه شيء آخر، نظراً للقلاقل الأمنية التي كانت تمر بها البلاد في ما بعد الحرب العالمية الأولى.
قالت بهية إنها تقدمت بطلب إقامة حفل منذ أربعة أشهر ولم تحصل على إذن حتى الآن، ولكن شهرة منيرة الكبيرة كانت فوق كل اعتبار أمني وسياسي، ورخصت لها السلطات العراقية في غضون 48 ساعة، وغنّت في بغداد وأذهلت الجمهور، ما جعل شاعر العراق معروف الرصافي يقول فيها أبياتاً من الشعر:
"هلمّ إلى الغناء الذي منيرة منه أتت بالعجبِ/ أليست منيرة في عصرنا ملكية في غناء العرب".
توجهت المطربة بعدها إلى البصرة، حيث أقامت أسبوعاً كاملاً ضيفةً على أمير "عربستان" (محافظة خوزستان الحالية في إيران)، خزعل الكعبي، وكانت البصرة تتبع له. غنت له منيرة وأطربته، وكان في المقابل سخياً معها للغاية، يعطي الموسيقيين المرافقين لها كل ليلة قبضة من الذهب، ثم، وبحسب قولها، "يطلب شنطتي فيملأ حفنتيه ذهباً، ولا يزال كذلك حتى تمتلئ الشنطة".
ظلّ جمهورها العربي وفياً لها لسنوات طويلة، وكانت عروضها في ملهى نزهة النفوس في منطقة الأزبكية تغص بالسياسيين العرب المنفيين في القاهرة، وفي مقدمتهم الزعيم السوري الدكتور عبد الرحمن الشهبندر.
عادت إلى المنطقة في آب/أغسطس 1928، وغنّت أمام الرئيس التركي كمال أتاتورك في إسطنبول، الذي كان قد سمع صوتها وأحبه أثناء إقامته القصيرة بين دمشق وحلب سنة 1905. غنت قصيدة كاملة في مدحه يومها وعند انتهاء الحفل، تقدمت منه لتسلّم عليه، فدعاها للغناء بلغة أجنبية، وقال:"بهذا الصوت يستمع إليكِ العالم كلُّه، لتكن شهرتُكِ كاملة".
العودة إلى دمشق
ولكن رغبة أتاتورك لم تتحقق، ومرت الأيام وكبرت منيرة في السنّ، وأُنزلت عنوة عن عرش الغناء العربي لصالح أم كلثوم، التي خطفت القلوب والعقول معاً منذ مطلع الأربعينيات. وأكبر دليل على تراجع شعبيتها هو الحفل الأخير الذي أحيته في أوبرا العباسية بدمشق في كانون الثاني/يناير 1947، بعد تجاوزها سن الستين. ترددت منيرة في تلبية الدعوة، بعد تعرض زميلها محمد عبد الوهاب إلى منع رقابي لثاني حفلاته المخصصة للنساء في دمشق سنة 1930.
شهرة منيرة الكبيرة كانت فوق كل اعتبار أمني وسياسي، ورخصت لها السلطات العراقية في غضون 48 ساعة، وغنّت في بغداد وأذهلت الجمهور
منعت حفلته الثانية لأن الحاضرات في عرضه الأول (وكان عددهن 1500 سيدة) قمن بالتمايل طرباً على ألحانه، ما أثار حفيظة رجال الدين الذين ضغطوا على رئيس الحكومة حينها، الشيخ تاج الدين الحسني لمنعه من الغناء مجدداً. وعلّق عبد الوهاب على الحادثة في حديث له مع إحدى المجلات المصرية، وتساءل عن موقف حكومة دمشق من حفلته: "إذا كان الحيوان يرقص ويهز رأسه من طرب الموسيقى التي يعتقد العالم أجمع أنها سحر سماوي، فكيف يمكن أن يقف شعور المرأة أمامها صلباً وجافاً؟".
خافت منيرة من حدوث أمر مشابه معها، ولكنها جاءت إلى دمشق لتشعر أنها ما زالت نجمة عربية. وحصلت معها حادثة مشابهة عندما أثار أحد مدرسي الجامع الأموي أمام طلابه موضوعها وقال: "كيف ترقص هذه المرأة أمام الرجال وهي كاشفة جسدها، مبدية مفاتنها؟ أين الدين وأين النخوة؟". الغريب بالأمر أن الطلاب –وجميعهم كانوا في مطلع الشباب– لم يكونوا قد سمعوا باسمها من قبل، ولم يصلهم شيء عن ماضيها الحافل.
ردوا عليه: "أعوذ بالله...وكيف يكون هذا؟ وأين يا سيدنا، ومتى؟".
أجابهم: "في العباسية، في الليل بعد صلاة العشاء".
كانت المفاجأة هذه المرة، وبحسب رواية قاضي دمشق الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته، أن القاعة امتلأت كلها بالطلاب، الذين هبّوا لحضور منيرة المهدية ترقص على المسرح، لا لاعتراضها أو إسكاتها. علّق الطنطاوي على هذه الحادثة: "فلينتبه الواعظون، فكثيراً ما تكون المبالغة في وصف المنكر دعاية له".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...