"الست منيرة"، "مطربة الأزبكية الأولى"، "سلطانة الطرب"... ألقاب ارتبطت بالسيدة التي تربعت على عرش الغناء العربي ما يزيد عن 30 عاماً، وانتشرت أغنياتها في ربوع الوطن العربي من المحيط إلى الخليج في عشرينيات القرن الماضي، وعشق صوتها ملوك ووزراء وأدباء. إنها منيرة المهدية. 52 عاماً مرت على وفاة مطربة العهد القديم، في 11 مارس 1965، التي تركت خلفها سيرة فنية غنية ومواقف وطنية كثيرة، نتذكر بعضها استناداً إلى كتابيّ "السلطانة منيرة المهدية والغناء في مصر قبلها وفي زمانها" لرتيبة الحفني، و"المنسي في الغناء العربي" لزياد عساف.
في البدء، زكية حسن منصور
وُلدت عام 1885 في بيت متواضع بقرية "مهدية" بمحافظة الشرقية، في ظروف صعبة. توفيت والدتها وهي طفلة رضيعة، وبعد سنتين توفي والدها، لتنتقل إلى الإسكندرية إلى منزل أختها الكبرى. أعلنت زكية تمردها المبكر على المدرسة، وكثيراً ما اشتكت منها المعلمات لغيابها المتكرر. وبعد أن كبرت قليلاً عادت إلى قريتها الأم، وبدأت تغني في القرى والمدن المجاورة، واضطرت إلى تغيير اسمها حفاظاً على تقاليد العائلة. هكذا، تحولت إلى "منيرة المهدية". وفي إحدى حفلاتها تصادف حضور صاحب مقهى صغير في حارة "بير حمص" قرب باب الشعرية بالقاهرة، يُدعى "محمد فرج" فعرض عليها الانتقال إلى القاهرة، وهكذا كان. هناك ذاع صيتها وحققت شهرة كبيرة، وبحلول عام 1905 بدأ يتوافد عمالقة الغناء على حفلاتها ومنهم "سلامة حجازي"."نزهة النفوس" وأشهر أغاني السلطانة
مع الإقبال المتزايد للجمهور، افتتحت منيرة مقهى خاصاً بها أطلقت عليه اسم "نزهة النفوس" بحي الأزبكية، وسرعان ما حقق شهرة خيالية حتى أصبح ملتقى رجال الفن والفكر والسياسة. وتحولت "الست منيرة" بمرور الوقت إلى "مطربة الأزبكية الأولى"، حتى أضحت عام 1914 فنانة الشعب وسلطانة الطرب.تميّزت منيرة بأسلوب خاص في الغناء، فكانت صاحبة صوت قوي وصافي وطبيعي، وهي أول مطربة تغني في الإذاعة المصرية حفلات وأسطوانات، ومن أشهر أغاني السلطانة: أسمر ملك روحي، أشكي لمين ذل الهوى، يمامة حلوة، تعاليلي يا بطة، حبك يا سيدي، عالماني الماني، يصح يا قلبي تعشق، يا بنت يا بتاعة النرجس، صبرت ونلت، دور أنا عشقت، يالا نملى القناني، والنبي يامه تعذريني، وغيرها. كما غنت منيرة أيضاً العديد من القصائد منها: يا فاتن الغزلان، إن كان عذابي في هواك، ألا ليت لم أعرفك يوماً، سلو حمرة الخدين، ويا فريد الحسن. وللسلطانة أغاني أحدثت جدلاً إلى وقتنا الحاضر، بسبب إباحيتها أو كلماتها التي تتحدث عن الكوكايين، مثل: "إشمعنى يا نُخ الكوكايين كُخ":
و"ارخي الستارة":
و"بعد العشا":
أول امرأة مصرية تقف على خشبة المسرح
تعتبر منيرة المهدية أول سيدة مصرية تقف على خشبة المسرح كممثلة، متحدية تقاليد الزمن التي كانت تُحرّم على المرأة آنذاك التمثيل على المسرح، فكان ظهورها عليه بمثابة ثورة كبرى أحدثت ضجيجاً ساهم في توهج شهرتها الفنية. قدمت السلطانة 32 عملاً مسرحياً، وشارك في تلحين مسرحياتها عمالقة أمثال سيد درويش، محمد القصبجي، رياض السنباطي، زكريا أحمد، داود حسني، كامل الخلعي. وفي السينما، قدمت فيلماً وحيداً قامت ببطولته بعنوان "الغندورة" (1935) وهو مأخوذ عن عمل مسرحي بنفس العنوان."إرخي الستارة"، و"بعد العشا"... للسلطانة أغاني أحدثت جدلاً إلى وقتنا الحاضر بسبب جرأتها وإباحيتها
كيف تحايلت منيرة المهدية على منع الإنغليز ذكر اسم سعد زغلول وتحدّتهم بأغنية ألهبت حماسة المصريينيُنسب إلى منيرة المهدية أنها صاحبة الفضل في اكتشاف موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. فبعد أن داهم الموت سيد درويش دون أن يكمل لحن الفصل الثالث من مسرحية "كيلوبترا"، أسندت منيرة مهمة إتمام اللحن لمحمد عبدالوهاب، وأعطته دور البطولة في العرض، وأدى عبد الوهاب دور "أنطونيو".
سلطانة السياسة أيضاً
تقول رتيبة الحفني في كتابها أن منيرة المهدية تزعمت حركة وطنية عن طريق مسرحها الغنائي، طوال ثورة 1919، مستغلة حب الناس واستسلام الإنجليز أمام شعبيتها، فاستثنوا "نزهة النفوس" من قرار إغلاق المقاهي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فبدأت تغني أغاني وطنية تحث بها الناس على استقلال بلادهم، مثل مصر الجميلة، ان كنت في الجيش، مارش البرلمان، ومصر الجديدة.وفي ذلك الوقت صدر قرار إنجليزي يقضي بحبس أي شخص يذكر اسم سعد زغلول ستة أشهر وعشرين جلدة، فتحايلت منيرة على القرار بأغنيتها الشهيرة شال الحمام حط الحمام التي تقول في مطلعها:
شال الحمام حط الحمام... من مصر لما للسودان
زغلول وقلبي مال إليه... أنده لما أحتاج إليه
وكانت تقصد منيرة بالأغنية سعد زغلول، وذات ليلة استبدلت السلطانة شطر "من مصر لما" بـ"مصر السعيدة"، فألهبت حماسة المصريين، وانتشرت الأغنية وأصبحت على كل لسان، في تحدٍ واضح لقرار الإنجليز بمنع ترديد اسم "سعد". وفي حوار نادر للسلطانة ذكرت أن الحكومة المصرية، في تلك الفترة، كانت تجتمع في عوامتها، برئاسة حسين رشدي باشا، الذي كان دائم التردد على مسرحها، وكان يداعبها بقوله "انتي تقدري تبلفي الإنجليز عال... غنوة منك تجيب الاستقلال لمصر". استغلت منيرة نفوذها عند رجال السياسة في طلب العفو عن كثير من الطلاب المقبوض عليهم في ثورة 19. ويروي زياد عساف في كتابه الحادثة الأغرب في حياة السلطانة، عندما حاولت التوسط لإطلاق سراح شاب يُدعى محمود جبر، كان يداوم على حضور حفلاتها، فأخبرها المعتمد البريطاني استحالة الإفراج عنه إلا إذا كان خطيبها وتريد الزواج منه، فوجدتها حجة لإطلاق سراحه، وأكدت له أمر الخطوبة، وفعلاً أحضر المأذون الشرعي وعقد قرانهما في مكتبه بشهادة اثنين من موظفي دار الحماية البريطانية، وانتهى هذا الزواج بعد أربع سنوات. ويروي مصطفى أمين في مقال له عن منيرة المهدية، قصة خلاف الملك فؤاد مع حسين رشدي، وكان رئيس مجلس الشيوخ آنذاك، عندما قبّل يد منيرة في إحدى الحفلات، فثار الملك فؤاد، واستدعى رشدي وعنفه على تقبيل يد مطربة علناً، فرد عليه قائلاً: "ليس في الدستور المصري مادة تمنع رئيس مجلس الشيوخ من تقبيل يد مطربة، ضعوا هذه المادة وأنا أعدكم بعدم تقبيل يد المطربات والممثلات بعد ذلك".
علاقات منيرة السياسية تجاوزت حدود الوطن، ففي تركيا غنت أمام مصطفى كمال أتاتورك، في حفل كبير استمتع به أتاتورك لدرجة أنه عندما أُسدل الستار طلب ألا تنزل منيرة التي ظلت تغني طوال الليل بعدما أُلغيت بقية برامج الليلة. وهذا لم يكن اللقاء الأول لهما، فقد سبق أن حضر مصطفى كمال إلى مصر عندما كان عضواً بجمعية "تركيا الفتاة"، التي أطاحت في ما بعد بحكم العثمانيين، وزار الضابط وقتها "نزهة النفوس" وأعجب بصوت منيرة، وتردد بعدها على المقهى ليجالس راقصة يهودية تُدعى "ليزا"، وعلمت منيرة أنها تزوره بالفندق الذي يتواجد فيه. ذات ليلة صفعت منيرة ليزا على وجهها أمام كمال، وكانت المفاجأة الكبرى أنها عندما ذهبت إلى تركيا فوجئت بأن الأتاتورك هو نفسه البكباشي مصطفى كمال. تروي رتيبة الحفني أنه أثناء إحياء السلطانة حفل بشبه الجزيرة العربية، أمام سلطان "لحج"، غنت "أسمر ملك روحي". تقول الأغنية في نهاية كل مقطع: "تعال تعال... يا حبيبي بالعجل"، وظلت ترددها إلى أن ظنّ السلطان أنها تقصده بندائها، فعرض عليها بعد ذلك أن تصبح إحدى زوجاته. استأذنته أن تذهب لمصر لوداع أهلها، وما أن خرجت من حيز أراضيه تنفست الصعداء. روت منيرة هذه القصة أمام حاكم تونس، عندما كانت تحيي حفلاً هناك، فداعبها قائلاً "لو كنت مكان سلطان لحج ما تركتك تهربي". حصلت منيرة المهدية على وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى 1960، ومنحها عبد الناصر وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى في عيد العلم 1961، كما حصلت على عدة أوسمة من ملك مراكش وحاكم تونس وأقطار عربية أخرى، وأدرج اسمها في الكتاب الذهبي الخاص بملك إيطاليا الذي يُسجِل العظماء في العالم، ومُنحت الوسام الخاص بذلك.
أم كلثوم... بداية نهاية السلطانة
كانت أم كلثوم تحلم في بداياتها بالوصول إلى مرتبة منيرة المهدية في الطرب، وسرعان ما ذاع صيت موهبتها الفنية، حتى شعرت منيرة بأن عرش الغناء بدأ يهتز من تحتها. تحدثت الصحافة كثيراً عن المكائد التي دبرتها السلطانة لأم كلثوم حتى توئد مشوارها الفني في بدايته، إلى أن رضخت للأمر الواقع، وتم الصلح بينهما في عوامتها. تكررت اللقاءات، وذات مرة زارت أم كلثوم منيرة بصحبة القصبجي، وعندما قدمت لهما الكازوز، شربت أم كلثوم من الزجاجة التي أمام القصبجي، فأخذت منيرة الزجاجة التي أمامها وشربت منها لتطمئنها أن الزجاجة لا تحتوي على سم. في هذه الفترة وصلت أم كلثوم إلى أوج عظمتها، فيما تقدم سن منيرة وتراجع فنها، واختفت سنوات طويلة، حتى عادت إلى المسرح عام 1948، غير أنها قوبلت بالإشفاق بعد أن بدا عليها كبر السن، وفعل الزمن ما فعله بصوتها. حرصت أم كلثوم على حضور حفل العودة، وكانت تشجعها وتصفق بحرارة، غير أن ذلك لم يكن حافزاً قوياً للاستمرار في ظل عزوف الجمهور عنها، لتعتزل منيرة المهدية الغناء تماماً، وتتفرغ بعد ذلك لهوايتها وهي تربية القطط والكلاب.
بسؤال الناقد الفني طارق الشناوي عن سبب تراجع واختفاء منيرة المهدية وصعود أم كلثوم، أكد أن السلطانة لم تتطور مع الزمن، وهو ما فهمته أم كلثوم، فظلت تساير التجديد حتى أنها غنت لبليغ حمدي وهو ابن 26 عاماً في وجود الشيخ زكريا والقصبجي، لأنها كانت تدرك جيداً أن الغناء يتطور بتطور اللحن، لذلك لا تزال تحتفظ بمكانة فنية متميزة رغم مرور 42 عاماً على رحيلها. وأضاف الشناوي: "استيعاب الزمن يفسر أيضاً ظاهرة عبد الحليم حافظ، الذي ظهر في الخمسينيات، واستمر حتى رحيله عام 1977، وإذا كان بيننا اليوم لظل مطرب مصر الأول". كما أشارت ماجدة موريس، الناقدة الفنية، إلى أن منيرة المهدية لم تستوعب التغيرات التي طرأت على فن الطرب، وتحوله من الموشحات إلى الفرق الموسيقية، فاندثرت مع اندثار تلك الموشحات.
جنازة لا تليق بالسلطانة
عاشت منيرة المهدية أيامها الأخيرة بمشاركة إبراهيم كمال، آخر أزواجها، إلى أن توفيت في 11 مارس 1965، عن عمر يناهز 80 عاماً. ورغم المكانة الكبيرة التي احتلتها السلطانة في عالم الغناء العربي، لمدة ثلاثين عاماً، لم يحضر جنازتها سوى عدد قليل، لم يكن ضمنه أحد من أهل الفن، رغم أنها كانت حريصة على مجاملة زملاء المهنة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...