كانت أم كلثوم متخوفة مما ينتظرها في بغداد عندما وصلتها للمرة الأولى قادمة من القاهرة لإحياء أمسية طربية في تشرين الثاني/نوفمبر 1932.
على الرغم من أنها جالت على الكثير من العواصم العربية في مرحلة متقدمة من مسيرتها إلا أنها وفي بداية العقد الثالث من القرن العشرين، لم تكن قد زارت إلا دمشق قبل أشهر، وفيها كانت تجربة قاسية يوم اعترضها بعض الشبان المتشدّدين على مدخل فندق أمية، وقاموا بشتمها ورشقها بنترات الفضة، وأضرموا النار في طرف ثوبها الأخضر الطويل، وصاحوا بغضب: "احتشمي يا ست"، علماً أن أم كلثوم، البالغة من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً حينها، كانت مُلتزمة دينياً ومحتشمة جداً مقارنة بمطربات ذلك الزمان، وكل زمان.
غضبت أم كلثوم من الجمهور السوري يومها ولم تعد إلى دمشق حتى منتصف الخمسينيات، وهو ما يُفسر توجسها من حفلتها الأولى في بغداد. صحيح أن الدعوة جاءت من الملك فيصل الأول شخصياً، ولكنه اعتذر عن الحضور لأسباب صحية (وتوفي بعدها بأقل من عام)، وهو ما زاد من تخوفها أن يحدث معها شيء مشابه لما حدث في سوريا.
صداقتها مع الأميرة عابدية
تفاجأت أم كلثوم بالحفاوة الاستثنائية التي تلقتها من الجمهور العراقي، وبقيت في العراق شهراً كاملاً، أحيت فيه 12 حفلة على "مسرح الهلال" في خان المدلل (الربع الشمالي من شارع الرشيد).
هنا قال الوصي للملك: "لو أني وزعت كيساً مملوءاً بالذهب لما استطعت أن أدخل السرور على قلوب أهل العراق كما فعلت بهم الليلة أم كلثوم"
تعرفت "الست" يومها إلى الأميرة عابدية بنت علي، التي كانت تصغرها بتسع سنوات، وولدت صداقة بينهما استمرت طويلاً. وفي ربيع العام 1941، استضافتها أم كلثوم في مصر عندما جاءت مع أميرات الأسرة الهاشمية للنقاهة. وعندما عادت الأميرة عابدية إلى الإسكندرية سنة 1944، برفقة الملك فيصل الثاني هذه المرة (حفيد الملك المؤسس)، خصص لهما الملك فاروق شاطئاً خاصاً، وكانت تزورهما فيه أم كلثوم بشكل يومي لتناول القهوة الصباحية معهما. أحبت أم كلثوم الملك الفتى الذي لم يكن قد تجاوز التاسعة من عمره، وكانت تمازحه دوماً وتقول إنها ستغني في عرسه عندما يكبر.
يا ليلة العيد
ولكن قبل حلول عرس الملك جاءت مناسبة عيد ميلاده الحادي عشر في 2 أيار/مايو 1946، ودُعيت أم كلثوم لإحيائها. وجاءت الدعوة هذه المرة من خاله الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله (شقيق صديقتها الأميرة عابدية).
لبّت أم كلثوم الدعوة بسرور، وحطّت طائرتها في مطار الجبّانية، وكان في استقبالها ياور الوصي وكبار رجال الدولة العراقية. توجهت إلى القصر الملكي لمقابلة الأميرة عابدية والملكة الأم عالية، زوجة الملك الراحل غازي الأول. وفي المساء كانت الحلفة في حدائق قصر الرحاب المزينة بالمصابيح الكهربائية، والتي وصفتها أم كلثوم "كقطوف دانية من فاكهة الربيع".
نصّب الأمير عبد الإله نفسه عريفاً للحفل وقدّم أم كلثوم بنفسه. وكانت وصلتها الأولى أغنيتها الشهيرة "يا ليلة العيد". ختمتها بفقرة خاصة بالعراق ومليكها الشاب وقالت: "يا دجلة ميتك عنبر وزرعك عالعراق نور... يعيش فيصل ويتهنى ونحيي له ليالي العيد".
وكانت هذه الأغنية مأخوذة من فيلم "دنانير"، هو من بطولة أم كلثوم سنة 1939 وتدور أحداثه في العراق زمن هارون الرشيد.
وفي الأغنية الأصلية كانت الكوبليه تقول "يعيش هارون ويعيش جعفر (البرمكي) ونحيي لكم ليالي العيد". عدلتها أم كلثوم لصالح الملك فيصل مستوحية الكلام من ارتجال مسبق قامت به في حفلتها بمصر يوم 14 أيلول/سبتمبر 1944 عندما دخل الملك فاروق عليها فجأة فغنّت: "يعيش فاروق ويتهنى ونحيي له ليالي العيد".
وبعدها غنت ثلاث وصلات: "غنيلي شوي شوي" و"كل الأحبة تنين تنين"، قبل أن تختم بقصيدة أحمد شوقي "سلوا كؤوس الطّلا" التي استمرت ساعتين كاملتين بين الإجادة والاستعادة.
كتب مجلّة الراديو المصري في عددها الصادر في 18 أيار/مايو 1946: "غنت أم كلثوم فسهر العراق كله ليسمعها إذ كانت الحفلة مذاعة في أرجاء البلاد مباشرة".
وجاء في التقرير أن الأمير عبد الإله انسحب من الحفل ومعه الملك فيصل، وخرجا يطوفان شوارع بغداد لمشاهدة الناس متجمهرين حول المذياع في المقاهي وعلى الشرفات وفي الميادين، يستمعون طرباً إلى كوكب الشرق. وهنا قال الوصي للملك: "لو أني وزعت كيساً مملوءاً بالذهب لما استطعت أن أدخل السرور على قلوب أهل العراق كما فعلت بهم الليلة أم كلثوم".
انتهت الحفلة مع ساعات الفجر الأولى، فنهض رئيس الحكومة توفيق سويدي لتحيتها وقال كلمته الشهيرة: "يا آنسة من حقنا أن نقبض عليك بتهمة سرقة قلوبنا".
وفي اليوم الثاني دُعيت أم كلثوم لتناول الغداء على المائدة الملكية، وأقيمت لها مأدبة في منزل رئيس الحكومة نوري السعيد وردت المفوضية المصرية بحفل مماثل على شرفها دعيت إليه الملكة الأم مع كل الأميرات.
ذهبت أم كلثوم إلى دار المفوضية المصرية مدعوة ولكنها ما لبثت أن أصبحت داعية لغياب زوجة المندوب المصري في القاهرة، قامت باستقبال المدعوين وعدت نفسها صاحبة الدار.
طافت على مجالسهم وسكبت لهم الطعام بنفسها، إمعاناً بالضيافة والكرم، وعند الانتهاء من العشاء غنت "سلو قلبي" و"أهل الهوى". وفي ختام الحفلة تقدم الأمير عبد الإله وقدم باسم الملكة عالية عقداً فاخراً من اللؤلؤ وقلّدها وسام الرافدين الذي عُدل مرسومه خصيصاً لأجلها لأنه كان تشريعياً لا يُمنح إلا للرجال ولم تحملها سيدة من قبلها قط.
ثورة 14 تموز/يوليو 1958
ومرّت الأيام... وكبر الملك فيصل واقترب موعد زفافه التي كانت أم كلثوم قد وعدت حضوره وإحيائه منذ سنة 1944. تواصلت معها الأميرة عابدية وأعلنت أم كلثوم أنها ستحضر العرس وتغني فيه، ولكن ثورة 14 تموز/يوليو 1958 أطاحت بكل ذلك.
انتهت الحفلة مع ساعات الفجر الأولى نهض رئيس الحكومة توفيق سويدي لتحيتها وقال كلمته الشهيرة: "يا أنسة من حقنا أن نقبض عليك بتهمة سرقة قلوبنا"
قُتل الملك فيصل الثاني ومعه خاله الأمير عبد الإله وبنته الأميرة عابدية، صديقة أم كلثوم. لا نعرف حقيقة مشاعر الست حول ما حدث في العراق في هذا اليوم الدامي، في حديقة قصر الرحاب التي غنت بها اثني عشر سنة. المؤكد الوحيد هو أن الرئيس جمال عبد الناصر رحّب بالثورة وعدّها انتصاراً على الغرب و"الرجعية"، نظراً لعلاقته السيئة جداً مع حكام بغداد، وتحديداً الأمير عبد الإله ونوري السعيد، الذي سحل في شوارعها.
هذا ما قد يُفسر موافقة أم كلثوم على إطلاق أغنية حماسية تأييداً للثورة العراقية "شعب العراق الحر ثار" والتي لحّنها رياض السنباطي. البعض قال أنها أجبرت على الغناء للثورة، نزولاً عند رغبة عبد الناصر، ولكنها كانت معروفة بالتأقلم الفوري مع كل التغيرات السياسية، وفي مصر وبعد أن سجّلت 14 أغنية للملك فاروق (أطلقت في أسطوانة واحدة باسم "الفاروقيات") غنّت بكل حماس وحب لعبد الناصر ولثورة 23 تموز/يوليو التي أطاحت بفاروق الأول وعرشه.
وفي مذكراتها المنشورة في لندن سنة 2002، تقول الأميرة بديعة (أخت الأمير عبد الإله والأميرة عابدية): لم تسأل عنّا أم كلثوم بعد مقتله (الملك فيصل الثاني)، ولم تتابع أخبارنا بالرغم من أننا قضينا فترة من حياتنا في مصر بعد الانقلاب. ربما ألتمس لها الأعذار، في أنها لم تعزيني بمقتل صديقتها (أختي الأمير عابدية)، لكني لا أجد لها عذراً في أنها غنت لعبد الناصر قصيدة الجواهري في مدحه بعد مقتل أهلي ولهذا انكمشت نفسي منها.
أما مسرح الهلال، الذي وقفت على خشبته أم كلثوم لأول مرة سنة 1932 فقد انهار جزئياً في مطلع العام 2023، ولم يبق منه إلا ذكرى "الست" في لياليها البغدادية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع