شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
نعرف أنهم

نعرف أنهم "هُم" في "قمصان زكريا"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

منذ الخطوات الأولى في رواية "قمصان زكريا" لمنذر بدر حلوم (مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، إسطنبول، الطبعة الأولى تموز/ يوليو 2023)، نجد أنفسنا محاطين بعالم منسوج من خيطَين يحاول كلّ منهما التحرّر من الآخر: خيط الطيبة والحبّ والخير، وخيط التسلّط والعنف والإكراه.

في الرواية لا يخالط أيٌّ من هذين الخيطين الآخر، وإن كانا سيشكلان معاً نسيج الرواية. كأن الكاتب، لشدة رفضه التسلطَ والشرَّ، ولشدة تقديره الحبَّ والخير، لا يستطيع قبول أن يُدخل شيئاً من هذا إلى ذاك، فشخوص الرواية مندوبة بالكامل لهذا أو ذاك.

الكاتب، لشدة رفضه التسلطَ والشرّ، ولشدة تقديره الحبَّ والخير، لا يستطيع قبول أن يُدخل شيئاً من هذا إلى ذاك، فشخوص الرواية مندوبة بالكامل لهذا أو ذاك

يحرص حلوم على أن يحشد، منذ البداية، وبكثافة، العناصر التي ترسم معالم مجتمع تستبيحه سلطة خفية وصريحة في الوقت نفسه. حين تهمّ بالدخول إلى الرواية تواجهك كلمة واحدة: "يختفون". إنها الكلمة الأولى، وهي بصيغة المضارع الذي يعطي للأحداث سخونة التتالي، ويحرّض في القارئ التوتر. وقبل أن تفتح أول أبوابها، تقرأ "ماتت سلافة". باختفاء سلافة تبدأ الرواية، وسلافة تختفي على يد الموت، المُخفي الأعظم.

الاختفاء يملأ الرواية، فهو مصير التلميذة الجميلة ذات الجديلتين التي سخرت أمام معلمها من الكلام عن وجود الحاكم "عوف" على وجه القمر، وهو مصير معلمها أيضاً. وهو مصير بعض رجال العلم الذين رأوا خللاً في بناء السد "سد عوف"، وخطراً في وضعه فوق المدينة، وسوءاً في تنفيذه ورداءةً في مواده، ومن لم يختفوا منهم ارتسمت ابتسامة بلهاء على وجوههم إلى أن ماتوا. كان الاختفاء مصير لينا ومصطفى وفادي أولاد حسين الذي كان معلم عوف في المدرسة، قبل أن يصبح هذا حاكماً للبلاد، وقبل أن يستقر في القمر، بحسب الرواية. هكذا "يختفون"، اختفاءً ملتبساً على يد سلطة خفية، واختفاءً صريحاً بالموت.

ثم تتلاحق العناصر السوداء: حمامة حيّة منتوفة الريش ملقاة على شرفة بيت زيدون، الأستاذ الجامعي النزيه الذي اضطر إلى أن يستقيل من الجامعة تحت ضغط فضيحة جنسية مدبّرة لا علاقة له بها. قطعة لحم مسمومة تودي بحياة بازو، كلب زيدون وصديقه الوفي. مداهمة بيت أخته سلافة في الفجر، الأمر الذي ينتهي بموتها، ليس في غرفة التحقيق في الجامعة إلى حيث استُدعيتْ، بل على الأريكة في بيتها "بعد غصة وشهقة" عقب الاستدعاء. إنهم يقتلونك حتى إذا لم يقتلوك.

لا يحتاج القرّاء إلى البحث أو التساؤل عمن يقوم بمثل هذه الأفعال "الشريرة". كقراء في بلداننا نعرف تلقائياً أنهم "هُم"، والكاتب يكتفي بالإشارة إليهم بضمير جمع الغائب الذي يعود إلى جهة واضحة بقدر ما هي خفية. "طلبوا سلافة لمراجعتهم"، "ألقوا للكلب بقطعة لحم مسمومة"، "إذا كانوا سيرفضون منحي الدرجة بسبب دعوتي لك، فهذا وسام شرف لي"... ضمير جمع الغائب معروف الدلالة هنا، إنه ضمير غائب ولكن ثقل حضوره يقضّ مضاجع الحاضرين، تماماً كما يتفاهم الناس على الإشارة إلى مرض السرطان دون استخدام اسمه.

تنطلق الرواية من صراع لا يحتاج في مجتمعنا إلى نقطة بداية. إنه صراع ثابت إلى حدود البداهة، ولا يحتاج إلى شرح؛ صراع بين محكومين مغلوبين وبين حاكم مستبد لا يتورع عن فعل شيء لقهر محكوميه وتطويعهم. هذه خلفية ثابتة في وعينا العام، ذلك أن بلداننا لم تعرف في تاريخها سوى الاستبداد، سواء أكان على يد أجنبي أو على يد أبناء البلد. استبداد أبناء البلد هو هاجس مقيم لدى صاحب "أولاد سكيبة"، ففي معظم أعماله نجد انقلاب متسلق السلطة انقلاباً جذرياً على أهله ومجتمعه وتنكره للصداقات والقيم المشتركة التي تنظم الحياة والكرامات بين الأهالي. على هذا تكون أجواء أعمال حلوم ثقيلةً على القراء، ولا يمكن اعتبار قراءة رواياته نزهة ترويح عن النفس أو قضاء وقت جميل ورائق. إنها تحفيز على الفهم وإثارة القلق بالأحرى، كما يلاحظ بحق الشاعر منذر مصري، صديق كاتبنا، في تعليقه على رواية حلوم الأولى "سقط الأزرق من السماء". لنلاحظ مثلاً، في روايتنا، هذا الوصف الذي يثقل على القلب: "هبط الضباب وسكن الهواء واختفى الحمام وملأت سماء المدينة الغربان وليل شوارعها الجرذان".

تنفتح في الرواية العوالم على بعضها البعض، عوالم الناس والجان، البشر والحيوانات، الأحياء والأموات. الكثير من الناس يختفون على يد رجال "عوف"، وهكذا يتحول المختفون إلى فئة جديدة في الواقع، إن لهم أسماءً في سجلات النفوس، ولا وجود ظاهراً لهم. قد يكون هذا ما دفع حلوم إلى المضي أبعد. وربما اقتبس من ظاهرة المختفين الذين بين الموت والحياة، هذه الظاهرة التي نمت إلى حد فظيع في سنوات ما بعد ثورة 2011، في سوريا، فكرة فتح السبيل بين عالمي الموت والحياة عبر التقمص وعبر الحلول والأحلام.

البطش الرهيب يحيل الناس إلى فئتين؛ مختفين أو خائفين، ولذلك يؤكد زكريا في حديثه مع زيدون: "ما عاد أحد يستطيع قول الحقيقة سوى الأموات". زكريا الذي يفكر، على نحو غريب، بانطلاق ثورة أموات. وبرغم أن الرواية تتوسع في الحديث عن الأموات وعن قوانين عالمهم وعن الانتقال المستمر بين العالمين، إلا أن في الرواية ما يدعو للاعتقاد بأن حلوم يستخدم الموت للدلالة على نقيضه. حين يتحول الأحياء إلى "موتى على الدروب تسير"، فإن من يرفض هذه الحياة و"يموت" يكون أكثر حياةً. هذا ما يمكن فهمه من قول زكريا إنه يبحث "عن طريقة لجعل الموتى يحلّون في الأحياء". ألا يعني هذا أنه يريد أحياءً أكثر حياةً؟ الفكرة نفسها تظهر في الرواية في غير مكان، منها ما يرد في فصل "ثورة الموتى"، حين يتقاطر الموتى عبر الشوارع من أطراف المدينة "حاملين فروعاً أخذوها يابسةً ميتةً مثلهم فاخضرّت في أيديهم". إنه الموت الذي يبعث الحياة إذاً.

هل يختار حلوم لشخصيته الرئيسية اسم زكريا اعتباطاً؟ زكريا هو إسماعيل وقد عاد بعد الموت بقميص جديد، فهل للأسماء مدلول؟ لا نعتقد أن حلوم اختار الأسماء اعتباطاً. إسماعيل هو جدّ العرب، إنه إذاً الكناية عن قوم بلغ بهم الضعف والانحطاط والتشتت كل مبلغ، وزكريا هو الكاهن الذي تحققت له بشارة الملاك، ورُزق، برغم شيخوخته وعقم زوجته، بولدٍ "لم نجعل له من قبل سمياً". فكان اسمه يحيى، مشتقاً من الحياة. كأن في اختياره الأسماء، يؤكد كاتبنا على الضوء الكامن في قلب العتمة، فيقول إن ما يبدو مستحيلاً (ولادة العاقر)، سوف يتحقق، وما يبدو موتاً إنما يكتنف الحياة ويضمرها.

تنطلق الرواية من صراع لا يحتاج في مجتمعنا إلى نقطة بداية. إنه صراع ثابت إلى حدود البداهة، ولا يحتاج إلى شرح؛ صراع بين محكومين مغلوبين وبين حاكم مستبد

تخترع "قمصان زكريا" عالماً يجمع العوالم، كما أشرنا، عالماً لا يطابق ما نألفه من العالم، ولكن عالم الرواية يحافظ، في الوقت نفسه، على ما يطابق عالمنا المعيش، وعلى ما يشكل عصب الرواية، نقصد لا محدودية الشر الذي يجسده "الحاكم" والسلطة المستبدة، ولا محدودية الحب في قلوب الناس. سيلاحظ القارئ كيف يتغلغل الحب في كل مفاصل الرواية، وكيف ينتصر الكاتب للحب بلغة وإحساس عاليين.

يصل الشر إلى حدود القضاء على فقراء المدينة بطوفان ناجم عن انهيار سد عوف، ومحو حارة الجورة، حي الفقراء الذين "جمعهم الفقر خارج مللهم وطوائفهم وعشائرهم". ولكن قسوة عوف ورجاله وتمادي شرورهم، لا يتمكنان من الحب، فيبقى ضوء ثابت يخفف من كثافة ما يشتمل عليه واقع الرواية من أجواء قاتمة.

وبرغم القدرة اللافتة لكاتبنا على رصد وتصوير جوانب القسوة والبؤس المتراكم في واقعنا، فإن الرواية يملأها الإيمان بقدرة الحب على اختراق الظلم مهما تراكم، تماماً كقدرة الضوء على اختراق العتمة مهما أظلمت. يعبّر هذا الإيمان عن ذاته في العبارات الأخيرة في الرواية حين يرقص المشلولون و"السنديان ينشر الضوء بلا نار، والصنوبر يرسل رائحة البخور إلى بيوت الأهلين، والنارنج يوقظ حنينهم... وأيوب يخرج من مزاره، ويعبر عتبة مقامه، نحو شروق الشمس". 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard