لا تشبه الحرب الدائرة في الخرطوم منذ 15 نيسان/ أبريل الماضي، الحروب السابقة التي شهدها السودان منذ الاستقلال عام 1956. نشبت الحروب السابقة في مناطق الهامش -وفق قسمة تيارات سياسية؛ الهامش والمركز- مثل حرب الجنوب التي انتهت بانفصاله وتكوين دولة جنوب السودان في عام 2011، وحرب إقليم دارفور التي اندلعت عام 2003، وحرب النيل الأزرق وجنوب كردفان منذ عام 1983، واتسمت بتبنيها قضايا الهامش الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بينما بقيت ولايات المركز، خصوصاً العاصمة الخرطوم، بعيدةً عن تبعات تلك الحروب المباشرة.
ولا تتوقف أهمية مدينة الخرطوم على مكانتها السياسية كعاصمة السودان الحديث، بل تمتد إلى كونها العاصمة الاقتصادية والثقافية، وتُعدّ بمنزلة القلب لولايات السودان، ولهذا حين انطلقت الحرب الأخيرة بين الجيش والدعم السريع من داخلها، وتحولت إلى موطن لها، أُصيبت بقية مناطق السودان بالشلل الإداري.
حكومة بلا رئيس
وما زاد الطين بلةً، أنّ السودان لم تكن لديه حكومة كاملة الصلاحيات والأعضاء، أو رئيس للحكومة، لمدة عام ونصف العام حتى تاريخ اندلاع الحرب الأخيرة، منذ انقلاب (يصفه الجيش بالإجراءات التصحيحية) 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، الذي أطاح فيه العسكريون بالقوى السياسية الشريكة في الحكم، وفق الوثيقة الدستورية الانتقالية التي كُتبت بعد الثورة على الرئيس المعزول عمر البشير.
تُعدّ الخرطوم العاصمة الاقتصادية والثقافية، وبمنزلة القلب لولايات السودان، ولهذا حين انطلقت الحرب الأخيرة بين الجيش والدعم السريع من داخلها، وتحولت إلى موطن لها، أُصيبت بقية مناطق السودان بالشلل الإداري
وبعد شهرين من اندلاع القتال في الخرطوم، صدر قرار مجلس الوزراء في حزيران/ يونيو الماضي، بتشكيل اللجنة العليا لإدارة الطوارئ والأزمات، لإدارة البلاد برئاسة وزير شؤون مجلس الوزراء المكلف بمهام رئيس المجلس عثمان حسين عثمان، وعضوية عدد محدود من الوزراء الباقين من حكومة عبد الله حمدوك الثانية، ومسؤولين عسكريين وأمنيين، تعاونهم لجنة فنية من كبار المسؤولين الحكوميين.
في تصريح لرصيف22، يقول وزير الثقافة والإعلام السوداني، جراهام عبد القادر، إنّ "الحكومة الآن تباشر عملها بصورة منتظمة، وتعمل في تناغم تام، منذ تكوين اللجنة العليا لإدارة الطوارئ وإدارة الأزمات في البلاد، بالإضافة إلى اللجنة الفنية التي تختص بتقييم القضايا الأساسية كافة ودراستها، ثم رفع المقررات والتوصيات كافة إلى اللجنة الإدارية التي تتولى تنفيذ مهام مؤسسات الدولة".
ويضيف الوزير أنّه "جرى توزيع وزراء على ولايات عدة، ذات علاقة مباشرة بطبيعة اختصاص وزاراتهم، مثل وزير الزراعة ووزير الري"، لافتاً إلى أنّ ذلك يساعد في تحقيق أهداف إنتاجية في النشاط الزراعي الحيوي للاقتصاد والمداخيل الحكومية من الضرائب، خاصةً بعد فقدان الحكومة الجزء الأكبر من إيراداتها، وهو ما حدّ من قدرتها على القيام بمهامها.
وفي ما يتعلق بقضية رواتب الموظفين، يشير إلى أنّ هناك اتجاهاً لحل المشكلة، ومنحهم راتبي شهرين، متعهداً بمواصلة الحكومة العمل لينال جميع الموظفين رواتبهم.
بورتسودان: العاصمة المؤقتة
عقب أسابيع قليلة من اندلاع القتال في الخرطوم، وتعرّض العديد من المؤسسات الحكومية والمالية للتخريب، ووقوع العديد من المقار في مرمى نيران المتقاتلين، بدأ انتقال الوزراء وكبار المسؤولين وقادة العمل السياسي إلى مدينة بورتسودان، عاصمة ولاية البحر الأحمر. كما تحولت المدينة إلى مركز لعمليات إجلاء المواطنين الأجانب، ومقرّ للبعثات الدبلوماسية، وانتقلت إليها وزارة الخارجية، لتتحول إلى عاصمة مؤقتة للبلاد. وكانت المدينة قد شهدت اشتباكات محدودةً بين الجيش والدعم السريع في الأيام الأولى للحرب، قبل أن يسيطر الجيش عليها بالكامل، وتنضم فرق من الدعم السريع إليه.
وتبعد مدينة بورتسودان نحو 803 كم عن العاصمة الخرطوم، وتضم أهم موانئ البلاد البحرية، وموانئ تصدير النفط، والعديد من كبريات الشركات والهيئات الحكومية. وبحسب آخر إحصاء حكومي لسكان المدينة، في عام 2008، بلغ عددهم نحو 800 ألف نسمة، ويتوقع خبراء أنّ يكون العدد قد وصل إلى مليون نسمة بحلول عام 2023. وشهدت المدينة حركة نزوح كبيرةً أدت إلى الضغط على الخدمات العامة وارتفاع أسعار السكن.
يقول الباحث والمحلل الاقتصادي، هيثم محمد فتحي، إن "الحكومة نقلت مهامها إلى بورتسودان كما فعل ممثلو بعثات الدول التي تربطها مصلحة مع السودان، فضلاً عن القنصليات التي كانت موجودةً في المدينة، وتحديداً المصرية والخليجية. لكن، المدينة تعاني من مشكلات في البنية التحتية والخدمات العامة، فضلاً عن مشكلة ندرة المياه، وضعف التغذية الكهربائية التي تعتمد على إمدادات من بارجة تركية، تقدَّر فاتورتها بنحو ثلاثة ملايين دولار شهرياً".
ويلفت إلى أنّ الأزمة الحالية أظهرت أنّ بقية المدن في السودان لديها القدرة على استضافة قطاعات إنتاجية واقتصادية واجتماعية كبيرة، مستشهداً بوجود طاقم وزارة التجارة والصناعة في مدينة مروي، في الولاية الشمالية، ما يستوجب مراجعة مركزية التنمية في البلاد بعد انتهاء الحرب.
وإلى جانب مدينة بورتسودان، اتخذت وزارات من مدن في ولايات أخرى مقار لها، ومنها وزارة الزراعة في ولاية القضارف، وزارة الثروة الحيوانية في ولاية النيل الأبيض، وزارة المعادن في ولاية نهر النيل والولاية الشمالية، ووزارة التجارة والصناعة في الولاية الشمالية، وتعمل وزارة الحكم الاتحادي من فروعها كافة في الولايات.
تُعدّ قضية الحكم إحدى القضايا المهمة في تاريخ الدولة السودانية الحديثة، وإحدى القضايا الأساسية في الفترة الانتقالية منذ الإطاحة بالنظام السابق في نيسان/ أبريل 2020
قدرات محدودة للولايات
وطرحت تبعات الحرب سؤالاً حول قدرة الولايات في البلاد على إدارة شؤونها في ظل أزمة العاصمة، خصوصاً أنّ تلك الولايات لديها حاكم عام (الوالي) ولديها مجالس تشريعية وحكومات، وفق نظام الحكم ذي المستويات الثلاثة؛ القومي والولائي والمحلي.
يقول مستشار وزير التنمية الاجتماعية السوداني، محمد يوسف، إنّ ولايات عدة تعاني من مشكلات تقنية، تتمثل في التوقف التام للبنوك وهو ما فاقم من أزمة صرف رواتب الموظفين، حيث أن معظمهم لا يملكون حسابات بنكيةً. ويضيف في حديثه لرصيف22، أنّ قطاع الصحة على سبيل المثال يشهد انهياراً كبيراً بسبب وجود كل أركان الوزارة في الخرطوم؛ من مصانع ومخازن ومشافي ومعدات طبية وكوادر.
وتُعدّ قضية الحكم إحدى القضايا المهمة في تاريخ الدولة السودانية الحديثة، وإحدى القضايا الأساسية في الفترة الانتقالية منذ الإطاحة بالنظام السابق في نيسان/ أبريل 2020. ومنذ الاستقلال عرف السودان العديد من تجارب الحكم؛ كانت البداية مع تقسيم البلاد إلى أقاليم جغرافية في عهد الرئيس الراحل جعفر نميري (1969-1985)، وهي؛ الشمال والوسط والشرق والجنوب ودارفور وكردفان، بالإضافة إلى العاصمة الخرطوم.
واعتُمد تقسيم الولايات في عام 1996، في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، ما أدى إلى حدوث تحسن في لا مركزية الحكم، خصوصاً في الأطراف بعيداً عن المركز. وفي دراسته بعنوان "السودان بين اللا مركزية والفيدرالية: كيف يتم الإصلاح في مختلف مستويات الحكم؟"، تناول الأكاديمي السوداني المختص بالإدارة العامة، حسن حامد مشيكة، تاريخ نظم الإدارة الحكومية في السودان، وتطورها من المركزية إلى اللا مركزية، والمشكلات التي تواجه فعالية الإدارة العامة في السودان.
وأهم العقبات التي واجهت تعزيز كفاءة الحكم الولائي والمحلي، توجيه الإنفاق العام إلى رواتب المسؤولين الذين تعددت مستوياتهم، وإلى الجوانب الأمنية والعمل السياسي لخدمة النظام السابق وتكوين الولاءات، فضلاً عن الفوضى التي اتسمت بها قوانين الحكم المحلي نتيجة التنازع في الاختصاص بين المركز والولايات، ما أدى إلى ترهّل الحكم المحلي في نهاية المطاف.
وفي عهد البشير، ألقت الأزمات السياسية الداخلية والتمرد المسلح وسيطرة حزب المؤتمر الوطني الشعبي على السلطات العامة ومستويات الحكم المتعددة والضغوط الاقتصادية، بظلالها على قدرة الدولة على إحداث التنمية، ليكون غياب التنمية والتهميش أهم أسباب التمرد المسلح والاضطرابات العرقية والقبلية التي تشهدها البلاد منذ ما بعد الاستقلال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون