هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟ قد يكون مخيّراً في مسائل عديدة، ومسيّراً في مسائل وجودية كالولادة والموت وغيرهما. لكن مهلاً، فهذه المقدّمة الاستفهامية لا تصلح للحديث عن المرأة التي تعيش في ظلّ مجتمع، صوّر لها حياتها المثالية وفق مخطط مشوّه، يستند في قبوله وتَبنّيه عبر مئات السنين على جهل سامعيه، ومكوّن من ثالوث مُتملق: تزوجي، انجبي، اربطيه فيكِ أكتر.
مأساة "تزوجي"
ستكبرين، وإن كنتِ محظوظةً ستتعلّمين، ثمّ في حالات قليلة ستختارين دراسة الكلية التي تحبين، وفي حالات أكثر شيوعاً، الكلية التي يحبُّها مجتمعُك، فالمجتمع غالباً يُبارك مهنة التدريس للمرأة، فهي مهنة خفيفة، مناسبة للحياة الزوجية مستقبلاً، تُتيح لك الذهاب إلى المدرسة لعدد ساعات أقلّ من عدد ساعات عمل أيّ مهنة أخرى، وتُمكّنك من الجلوس في المنزل طوال عطلة الصيف التي تصل إلى ما يقارب ثلاثة أشهر، وستنعمين بكلّ الأعطال الرسمية الأخرى.
مهما كانت صفتك الاجتماعية، ستسمعين عبارة واحدة: "البنت نهايتها بيت زوجها". نعم ستكتشفين، سواء أكنت رائدةَ فضاء أم جليسةً للمنزل وجدرانه، أنّ أعلى درجات الطموح التي صُوّرت ببرادايم مجتمعنا هي "الزواج"
وفي حال كنت أكثر حريةً في اختيارك، ستخرجين للعمل كطبيبة أو مهندسة أو مترجمة أو محاميّة، أو أيّ عمل آخر حتّى لو لم يكن مرتبطاً بدراسة أكاديمية، فقد تختارين العمل في تنسيق الزهور أو تصفيف الشعر أو الخياطة أو التطريز أو حتّى الجلوس في المنزل اختيارياً وفي حالات أكثر إجبارياً؛ وفي نهاية الأمر مهما كانت صفتك الاجتماعية، ستسمعين عبارةً واحدةً: "البنت نهايتها بيت زوجها". نعم ستكتشفين، سواء أكنت رائدةَ فضاء أم جليسةً للمنزل وجدرانه، أنّ أعلى درجات الطموح التي صُوّرت ببرادايم مجتمعنا هي "الزواج".
فالزواج هو الخلاص والزوج هو المخلّص؛ والزواج هو الملجأ الآمن والزوج هو الأمن والأمان؛ مهما كان اختيارك سيّئاً وخاطئاً، أو حتّى كان أمراً إجبارياًّ ومفروضاً عليكِ، لأنّه، وكما يقول المثل الشعبيّ الأحمق: "الرجّال رَحمة ولو كان فَحمة"، وفي رواية مصرية: "ظِل راجل، ولا ظِل حيطة"؛ والحق أن يُقال ويُشاع: "استقلالك الاقتصادي رَحمة، والزوج الخائب فَقمة"، وأن يُقال أيضاً: "ظِل وظيفة، ولا ظِل أمثال عبيطة".
مأساة "انجبي"
تزوجتِ؟ مبارك لكِ، لكن تمهلي، لا مجال للراحة أو الخلاص، فالآن عليكِ الاستعداد لسلسلة تدخلات جديدة ستبدأ بسؤال وجوديّ خطير يتزامن طرحُه مع غمزة عين بلهاءَ فضولية: "طمنينا، شو الأخبار؟"، لتقَعي هنا في كارثة الجواب، فإن لم يكن هناك حَمْل، سيبدأ تدريجياً يتملكُك، نتيجة التكرار اليومي لهذا الاطمئنان الزائف وغير المسؤول، شعور بأنّ هناك خطأ ما فيكِ، وبأنّ خطراً حقيقياً يُحدق بكِ، لتكتشفِي بذلك أنّ الفكرة ليست في الزواج وحسب، بل في الإنجاب.
وبغض النظر عن استعدادكما كزوجين، مادياً ونفسياً، لهذه الخطوة المصيرية، يتوجّب عليكِ الإنجاب فقط؛ إنجاب طفل يحمل اسم والده ويضمن استمرارية سلالة العائلة العظيمة. لذلك، اسرعي لزيارة الأطباء والعرّافات والمشايخ ليضمنوا لك، مجتمعين، إنجاب ذكر عظيم يُشكّل قيمةً مضافةً للبشرية البلهاء، فالإنجاب وحده من يضمن لكِ ارتباط زوجك وتمسّكه بكِ، وذلك حسب منطق نسوي مُعلّب ومتوارث بجهل عبر أجيال، يُباح دائماً بصوت أقرب للهسيس: "جيبي ولد، يربط هالرجّال فيكِ"، وكأنّ المجتمع الذي اخترع هذه العبارة يقول لك بطريقة غير مباشرة: الرجل أقرب لأن يكون دابةً، إن لم تعقليه بشكل جيد، سيشرد في البراري بحثاً عن أخرى تربطه.
إذن، اربطي دابتك بالإنجاب، حتّى ولو كان مصيركما الطلاق بسبب عدم انسجامكما، والتسرع يوماً في اختيارك، خوفاً من أن يفوتك قطار الزواج الوردي. انجبي ولا عليكِ، فمن السهل جداً إغراق المجتمع بمزيد من المنتجات البشرية المعقّدة والمكبوتة، فالعملية لا تستغرق نشوتها سوى تسع ثوان، وبعدها ستضمنين ربطاً متيناً للزوج، وحياةً كارثيةً لطفل تعيس.
مأساة "اربطيه فيكِ أكتر"
تزوجتِ؟ أنجبتِ طفلك الأول؟ ولم يحدث طلاق، كونكما منسجمين؟ إنّه لأمر مذهل، لكنّك وبالرغم من ذلك لن تخلصي، فهناك المزيد من التدخّلات في حياتك وخياراتك، ففي أحسن الاحتمالات التي تحدث لك بأن يكون مولودك الأول ذكراً، الآن هو يحتاج لأخ يلعب معه، يكبران معاً فيكونان لبعضهما سنداً. لكن ثمّة احتمال آخر أقل حظاً، بأن تكون تجربتك الأولى بالإنجاب تكلّلت بإنجاب طفلة، الأمر الذي يعني بقاءك في دائرة الخطر، إذن عليكِ الآن أن تسعَي وبكامل جهودك لإنجاب الذكر الذي يربط زوجك بكِ أكثر، وبغض النظر فيما لو كان العلم قد أثبت أنّ نطفة الرجل هي التي تُحدّد جنس الجنين، فالعلم، بأُسسه المُثبتة، مشبوه ونظريّ ولا يعنينا، عليكِ فقط أن تسعَي - ومن تِمْ ساكت- لإنجاب ذكر.
كما يقول المثل الشعبي الأحمق: "الرجّال رَحمة ولو كان فَحمة"، وفي رواية مصرية: "ظِل راجل، ولا ظِل حيطة"؛ والحق أن يُقال ويُشاع: "استقلالك الاقتصادي رَحمة، والزوج الخائب فَقمة"، وأن يُقال أيضاً: "ظِل وظيفة، ولا ظِل أمثال عبيطة"
طفلان، ثلاثة، ذكور، إناث، المزيد من الأطفال... هذا هو الحل الأمثل لتضمني استمرار زواجك وديمومته، وبغض النظر إن كان هناك مقدرة مادية تسمح لكما بتربية هؤلاء الأطفال، وبتقديم الرعاية والغذاء والشروط السليمة لعيشهم أو لا، لأنّ ببساطة، الزواج والإنجاب هما سُنّة الكون.
"المحظوظون لم يصلوا إلى البويضة أصلاً"
من غير الطبيعي أن يكون خيارك بالزواج مبنياً على عرف مجتمعيّ ينعتك "بالعانس" إثر توقف عملية بيولوجية في جهازك التناسلي الأنثوي "الحيض/الطمث"، أو خوفاً من خرافات مجتمعية تقول إنّك لن تكوني بخير وأمان إلّا من خلال زواج يجلب لك الاستقرار والحماية؛ وخرافات أخرى كارثية تحكي أنّ زواجك لن يدوم إلّا من خلال تعدّد الإنجاب، حتّى ولو كان الأمر على حساب صحتك وحلمك وعملك ورغباتك، لتكون النتيجة أُمّاً تعيسةً، وفي حالات كثيرة، مُعنّفة وعاجزة عن إشباع أطفالها بعاطفة صحيحة، ليكون انعكاس الأمر على المجتمع مزيداً من التشوه، وأفراداً يشتمون بسخط وهم يردّدون قول سيوران: المحظوظون لم يصلوا إلى البويضة أصلاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...