شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"وأنت عملت إيه في حياتك بقى؟"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 25 سبتمبر 202311:46 ص

"وأنت عملت إيه في حياتك بقى؟"

استمع-ـي إلى المقال هنا

لا أذكر أنني سألت أحداً في أي يوم: ماذا أنجزت في حياتك، لا لأن رؤيته حياً يعني أنه لم ينضم إلى قائمة المنتحرين أو من أعجزهم المرض، وهذا إنجاز في حد ذاته، ولا حتى لأني أخشى أن يأتي سؤالي في وقت يعاني فيه الآخرون من لحظة إحباط، فتُصبح كلماتي هي القشة التي قصمت ظهر البعير، بصراحة، لا أسأل لأني "مليش دعوة أصلاً".

لكن موقفي هذا لم يمنع من توجيه نفس السؤال إلي، وخلال السنوات الماضية واجهته بصيغ مختلفة، ومؤخراً في حفل زفاف شقيقي الأصغر، كان أكثر ما سمعته بعد الاطمئنان على أحوالي: "وأنت بقى عملت إيه في حياتك؟".

أزعم أن السائلين يحكمهم منطق الحب تجاهي، ويريدونني في أفضل حال، لكني متأكد أن سؤالهم يعني إجابات بعينها، إجابات تُلخّص الإنجاز من وجهة نظرهم، وما دون ذلك سأظل فاشلاً بالنسبة لهم، أول تلك الإجابات هي الزواج والأطفال، ومع رجل مثلي يخطو نحو الرابعة والثلاثين، ولديه عمل منتظم ومعظم أقرانه تزوّجوا وأنجبوا، وبعضهم يقضي نصف يومه أمام محكمة الأسرة في قضية نفقة أو خلع، يصبح سؤالهم منطقياً، أما الإجابة الثانية فهي الثراء الملموس، كأن تشتري منزلاً أو سيارة، أو ما يدل على أنك "ترتقي" اجتماعياً، وقتها فقط يغفرون لك عزوبيتك، أما إن لم تحقق أي من "الحُسنيين"، فستواجه السؤال الثاني "أومال بتعمل إيه في حياتك؟".

أعترف أنني حتى سنوات قليلة كنت مثلهم، أؤمن أن تلك هي الإنجازات الحقيقية، وأسعى من أجلها، ولحين لحظة التحقيق سأظل شخصاً "معملش حاجة". هكذا كانت  قناعاتي التي حوّلتني إلى آلة حرفياً، أركض بأقصى سرعة لادّخار مبلغ يعينني على الزواج أو شراء منزل او سيارة، لكنني اكتشفت أثناء فعل ذلك، أنني نسيت أن أعيش أصلاً.

لم أتوقف لالتقاط الأنفاس ومعرفة ما أريده لا ما يريدوه الآخرون، لم أكتسب خبرات أو حتى أصنع ذكريات، وأبشع ما يحدث في حياة إنسان أن ينظر وراءه فلا يجد ذكريات قادرة على منحه ابتسامة، أو تؤكد له أنه عاش يوماً ما

لم أتوقف لالتقاط الأنفاس ومعرفة ما أريده لا ما يريدوه الآخرون، لم أكتسب خبرات أو حتى أصنع ذكريات، وأبشع ما يحدث في حياة إنسان أن ينظر وراءه فلا يجد ذكريات قادرة على منحه ابتسامة، أو تؤكد له أنه عاش يوماً ما، وحين أدركت ذلك، قرّرت أن أحيا الحياة نفسها، أن أحقق ما أعدّه أنا إنجازاً، وصرت أؤمن أن أكبر الإنجازات التي لا تُرى.

صحيح أن العصر الذي نحيا فيه بحد ذاته إجابة، ففي وقت تتخطى نسبة التضخم 39%، وتفقد العملة المحلية 100% من قيمتها في عامين، وتزداد الأسعار يومياً ونعاني من أزمة سجائر، في أوقات كتلك يصبح وجودك نفسه تحدياً، والقدرة على تلبية احتياجاتك اليومية إنجازاً، وتوفير أدنى قدر من الحياة الكريمة بطولة، وتشبثك بطبقتك الاجتماعية أمراً يستحق أن يذكره المؤرخون، أن هناك بشراً تحمّلوا كل ذلك.

حين عملت مع صحف خليجية صممت على كتابة أسماء ملوكهم كما هي، وتركت لهم مهمة إضافة "حفظه الله"، و"رحمه الله"، و"حصوة في عين اللي شافه ومصلاش ع النبي"

لكن بعيداً عن ذلك، ثمة إجابات أخرى وددت الردّ بها، ولأني عجزت عنها شفهياً لجأت إلى الكتابة، نعم، كم مرّة أردت قول إني "عملت كتير"، مثلاً نجوت من الحب حياً، وتجاوز قلبي أحزانه القديمة، صرت أكثر تعاطفاً تجاه المنبوذين، وأحببت كل من لم يلتزم بـ"كتالوج المجتمع"، عوّدت نفسي على فهم الآخرين لا الحكم عليهم، وتحاشيت كل ما يجعلني وصياً أو كل ما لا يعنيني.

كم مرة أردت القول إنني أنجزت الكثير، طوّرت أفكاري وصرت أعرف ما أريد، لم أعد أعتبر الزواج إنجازاً بل وسيلة للعيش مع ونيس للرحلة، وليس هناك فخر في الإنجاب، بل مسؤولية نتحملها حين نقدر عليها.

أنني ادخرت لمدة عام من أجل السفر، والتقيت بالمختلفين عني، دينياً وجنسياً وفكرياً، وتعلّمت منهم أن الحياة أكبر بكثير مما نتخيل، وأنه من المستحيل أن يخلق الله كل هؤلاء ليصطفي مِلة أو ديناً بعينه ويترك الآخرين للجحيم.

كم مرة تمنيت أن أروي كيف أصبحت لا أكترث بكلام الناس وأحكامهم، فصرت أكتب ما أؤمن به، وكيف واجهت اتهامات التكفير والطعن في ديني لأول مرة بخوف شديد، وكيف بت أسخر منها الآن كلما علّق بها أحد على ما أكتبه، أو فوجئت بها برسالة قرّر صاحبها أن يرسلها إليّ قبل أن يضعني في قائمة "البلوك".

نعم أنجزت الكثير، لم أتورّط في دعم رئيس أو برلماني منذ 10 سنوات، وغادرت موكب وزير لأنه لم يتّبع برنامج اليوم كما أخبرنا، وظنّ أن الصحفيين أتباع يأخذهم حيث يشاء، تعلّمت قول "لا" حين يطلبون مني كتابة غير مقتنع بها، وحين عملت مع صحف خليجية صممت على كتابة أسماء ملوكهم كما هي، وتركت لهم مهمة إضافة "حفظه الله"، و"رحمه الله"، و"حصوة في عين اللي شافه ومصلاش ع النبي".

صحيح لم أتزوج وأنجب أو أشتري منزلاً حتى الآن، وتلك إنجازات فعلاً ومشروعة تماماً، لكني: "أخيراً عرفت أعمل صينية بطاطس بالفراخ حلوة"، والحقيقة أن هذا أحدث إنجازاتي بعد فترة قصيرة من تعلّم الطهي

لقد أنجزت فعلاً، تجوّلت بسيارة فجراً في عمّان مع صديق نسمع أحمد عدوية بصوت يوقظ الموتى، ولولا نفوذ الصديق لما تركنا الضابط الذي استوقفنا، وفي لبنان، وقفت مع صديقتي أمام صخرة الروشة في السادسة صباحاً، مستقبلاً أمطار نوفمبر التي انهالت علينا، فجعلت كل من في الشارع يهرول إلا أنا، وقفت أرقص على أنغام عازف عود يلتقط رزقه من المجانين مثلنا، في نفس اليوم كنت أسهر حتى الصباح في أحد بارات الحمراء برفقة آخرين، وانتهى المطاف لأن أبحث عن سرير الغرفة الذي لم أره.

أقول للسائلين لقد أنجزت، حذفت كل من لا أحب وجودهم من حياتي، لأني لست مطالب أن أتقبلهم بحكم العِشرة والزمالة و...إلخ، ووضعت معظم زملائي بقائمة "البلوك" لأنه يكفي تحمّل رؤيتهم في الجريدة. أصدقاء كثر يتمنون الإقدام على تلك الخطوة بالمناسبة، أما رئيسي في العمل فصار على قناعة أنه "مفيش فايدة فيا"، لكنني صرت أفضل مع دائرتي الصغيرة، وحافظت على صداقة عمرها أكثر من 20 عام، وتحسّنت كثيراً مع  النساء، فأدركت أن الرجولة الحقيقية هي ألا تؤذي المرأة بل تمنحها قبلة لا تُنسى.

صحيح لم أتزوج وأنجب أو أشتري منزلاً حتى الآن، وتلك إنجازات فعلاً ومشروعة تماماً، لكنها ليست الوحيدة، فكل منا لديه إنجاز ما، لكنها إنجازات لا نستطيع مشاركتها عبر "إنستغرام"، أو نتلقي التهاني عليها عبر فيسبوك، لذلك، ولصعوبة شرح كل هذا، رددت على أحدهم مرة: "أخيراً عرفت أعمل صينية بطاطس بالفراخ حلوة"، ورغم أنه ظن أني أمزح، لكن الحقيقة أن هذا أحدث إنجازاتي بعد فترة قصيرة من تعلّم الطهي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image