شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
جزيرة المساجد والحج اليهودي والإباضية... لماذا اختيرت جربة التونسية إرثاً عالمياً؟

جزيرة المساجد والحج اليهودي والإباضية... لماذا اختيرت جربة التونسية إرثاً عالمياً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

الأربعاء 20 سبتمبر 202304:04 م

أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، يوم الإثنين 18 أيلول/ سبتمبر الجاري، إدراج جزيرة جربة التونسية ضمن قائمة التراث العالمي، وذلك عقب اجتماع لجنة التراث العالمي في دورتها الـ45 في الرياض. وتُعدّ جربة أكبر جزيرة في تونس وثاني أكبر جزيرة في البحر المتوسط بعد جزيرة صقلية.

وعلّقت وزارة الثقافة التونسية، على القرار بقولها في بيان لها "إن التصويت على إدراج جزيرة جربة ضمن لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو جاء لينصف الجهود الوطنية المشتركة بينها وبين عدد من الأطراف المتدخلة من وزارات ومصالح معنية ومكونات المجتمع المدني، خلال السنوات الأخيرة للتحسيس بهذا الملف والتحفيز على التفاعل الدولي معه واعتماد الحشد له أو ما يُعرف باللوبيينغ السياسي والديبلوماسي الذي أتاح فرص التبادل المعرفي المختصّ بين الوفد التونسي والوفود العربية والأجنبية التي اطّلعت على هذا الملف الثري عن قرب".

مدينة بيوت الدين

وتضمن ملف الجزيرة 31 عنصراً، هي 24 معلماً منها 22 مسجداً وكنيس الغريبة اليهودي وكنيسة أرثوذكسية، فضلاً عن سبعة مواقع ذات سكن متفرق، هي صدغيان ومجماج وتملال وقشعيين وخزرون، والموقعين الحضريين حومة السوق والرياض (الحارة الصغيرة).

وينسجم ملف إدراج جزيرة جربة مع المعيار الخامس بين المعايير العشر لتقدير القيمة الاستثنائية التي على أساسها تدرج منظمة اليونسكو المواقع على قائمة التراث العالمي.

وخرج أهالي جربة مساء الإثنين إلى الشارع وسط حومة السوق للاحتفال بإدراج جزيرتهم على قائمة اليونسكو عادّين أنها خطوة مستحقة وستعود بالفائدة عليهم.

إن التصويت على إدراج جزيرة جربة ضمن لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو جاء لينصف الجهود الوطنية 

فوزي محفوظ، المدير العام السابق لمعهد التراث وأحد الأطراف التي عملت على إعداد ملف جربة، يرى أن الخبراء التونسيين نجحوا في إيصال القيمة الاستثنائية لجربة على مستوى نوعية السكن ونوعية حفظ المعمار ونوعية التصرف في المجال برغم خصوصيته، وفي إبراز حالة التعايش السلمي بين أديان عدة من المسلمين السنّة والإباضيين واليهود والمسيحيين في الجزيرة، مشدداً على أن ذلك ما يفسر إدراج معبد الغريبة والكنيسة الأرثوذكسية وعدد من المساجد بين ما تم تسجيله في اليونسكو.

وقال محفوظ لرصيف22: "هذا الإدراج خطوة مهمة جداً بالنسبة لتونس وللجزيرة، وستكون له فوائد عدة أولاها افتكاك اعتراف العالم باستثناء جربة في العمارة وبقية المعايير التي قُبلت من أجلها، وهذا من شأنه أن ينعكس على السياحة خصوصاً. الأكيد أننا سنسجل زيادةً مهمةً في أعداد الوافدين على الجزيرة بعد هذا الإدراج، ولكن شرط أن تكون الدولة واعيةً ومدركةً لما ينتظرها من جهود وخطط لتدعيم الصورة الجميلة لجربة أمام العالم".


وأضاف: "الفائدة الثانية هي أن هذه الخطوة ستحمّل الدولة مسؤولية الحفاظ على هذه المعالم في ظل التزامها ولو معنوياً أمام اليونسكو، وهذا من دون أن ننسى كلفة التهاون أو الإهمال التي قد تصل إلى سحب الإدراج وهذا حتماً لن ترغب فيه الدولة التي سعت إلى تسجيل جربة على لائحة اليونسكو".

اختيرت جزيرة جربة التونسية ضمن التراث العالمي لليونسكو. ومردّ ذلك إلى رمزيتها الثقافية كمدينة للسلام ومعمارها العريق الذي يضم المساجد والمعابد اليهودية وحتى الكنائس

أما روني الطرابلسي، وزير السياحة الأسبق وأحد أبناء الجزيرة الذين بذلوا مجهوداً كبيراً من أجل قبول ملف جربة لدى اليونسكو، فقد أعرب عن سعادته الكبرى بهذا الإنجاز لكنه شدد بدوره على ضرورة العمل من أجل ترسيخ ونشر صورة أجمل للجزيرة.

وقال لرصيف22: "ما جرى مهم ولكن لا بد أن يبدأ العمل منذ الآن، ولا بد أن تكون جربة على الدوام جميلةً ونظيفةً حتى تكون مؤهلةً لاستقبال السياح في كل وقت، لأن هناك نوعاً من السياح يختارون التوجه حصراً إلى المناطق المدرجة على لائحة اليونسكو. الطرقات لا بد أن تتغير والأسواق كذلك، لتكون دائماً في أجمل صورة لأن الإدراج هو التزام مدى الحياة وليس مجرد تشريف".

واستقبلت جربة هذا الصيف آلاف السياح على الرغم من الهجوم الذي وقع خلال رحلة الحج اليهودية في الغريبة وخلّف خمسة قتلى في أيار/ مايو الماضي.

جزيرة المساجد

وتقع جزيرة جربة في خليج قابس على الساحل الجنوبي لتونس، ويبلغ إجمالي مساحتها 514 كيلومتراً مربعاً، ويقدَّر طول شريطها الساحلي بـ 125 كيلومتراً، وهي منفتحة على البحر المتوسط وعلى الصحراء. يوجد مضيق يفصل الجزيرة عن القارة الإفريقية، يبلغ اتساعه كيلومترين، أما الثاني فهو برّي تعود جذوره إلى العهد الروماني. بالإضافة إلى موانئ عديدة كانت منذ القديم وإلى اليوم نقاطاً رئيسيةً لإرساء البواخر، وتمرّ بالقرب من هذه الموانئ أودية تحت مائية تسمح بوصول السفن، ولذلك أنشئت حول هذه الموانئ تحصينات دفاعية لمنع الأعداء من اختراقها.


ويطلَق على جربة "جزيرة المساجد" لاحتوائها على 366 مسجداً معظمها يتميز بالبساطة وصغر المساحة وهي موزعة داخل الأحياء والغابات على طول الشريط الساحلي وتحت الأرض. وهذا التمركز المكاني للمساجد لم يكن اعتباطياً بل حكمته جملة من الأهداف والوقائع على مرّ التاريخ. فالمساجد الواقعة على شواطئ الجزيرة أقيمت لأغراض دفاعية بالأساس إذ كانت بمثابة أبراج مراقبة أو مراكز حراسة مهمتها إشعار المدينة بتحركات القادم من وراء البحر وإشعار سكان المدينة بالخطر حتى يستعدوا لمواجهته. أما المساجد الواقعة على السواحل والظاهرة للعيان، فتتميز بمتانة البناء وتوفر تجهيزات دفاعية ضد الأعداء، وهي لا تختلف عن المواقع العسكرية. المساجد داخل الأحياء غالباً ما تكون محدودة المساحة وموجهةً بالأساس لتلبية الحاجيات المباشرة لسكان الحي، كما لها أدوارها التربوية التعليمية ولا تقتصر على ذلك فحسب، وقد استقطبت طلبةً من داخل الجزيرة ومن خارجها ولهذا تحتوي على أجنحة للإقامة والعديد من المتطلبات الحياتية وتخرّج منها شيوخ مشهورون في تاريخ تونس.


أما المساجد "تحت الأرضية" فتشيّد على عمق بضعة أمتار تحت الأرض في مساحة مرتفعة تسمّى باللهجة المحلية "الظهرة"، محاطة بأشجار النخيل حتى لا تبدو إلا من مسافات قريبة، وبباب وحيد وإضاءة جيدة. وتتميز بكثرة الأعمدة وبشكل معماري يجعل كل المصلّين يشاهدون محراب الإمام أينما جلسوا، هذا فضلاً عن كونها دافئةً شتاءً وباردةً صيفاً. وكانت عملية بناء المساجد في البداية تجري تحت الأرض تماماً، باستثناء قبابها الصغيرة وأبراجها. ولا يُعرف العدد الرسمي للمساجد المبنية تحت الأرض في جربة، ولكن الأرقام المتداولة بين سكان الجزيرة تفيد بأنه قد تم بناء 20 مسجداً من هذا النوع، لكن صمدت منها حتى اليوم خمسة، اثنان منها في حالة جيدة.

يطلَق على جربة "جزيرة المساجد" لاحتوائها على 366 مسجداً معظمها يتميز بالبساطة وصغر المساحة وهي موزعة داخل الأحياء والغابات على طول الشريط الساحلي وتحت الأرض

ولعب هذا النوع من المساجد أدواراً عسكريةً واجتماعيةً ودينيةً، إذ يوجد خارج هذا المعلم درج في ظاهره مكان المؤذن للأذان، ولكنه كان خلال قرون خلت نقطةً لمراقبة تحركات الأعداء من جهة البحر، خاصةً في فترة الهجمات الإسبانية في القرنين 14 و15، أيام الحكم الحفصي لتونس. كما يتم فيها إبرام عقود الزواج والبيع والشراء والأهم أن هذه المساجد كانت ملاذ الإباضيين لنشر مذهبهم.


وحسب المؤرخين، يعود تاريخ وجود الفرق الإباضية في جزيرة جربة إلى بداية القرن الثاني للهجرة/ الثامن ميلادي، عندما اعتنق عدد من السكان الأصليين المبادئ الإباضية التي جاء بها الداعية سلمة بن سعد. وبدأ عدد الإباضيين في جربة بالتراجع منذ ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، عندما بدأت الجزيرة تتحول إلى وجهة سياحية مهمة في البلاد، وتوافد الكثيرون عليها واستقروا فيها وهم من غير المنتمين إلى هذا المذهب. وبعد الثورة حاول الإباضيون الاستفادة من مناخ الحرية في البلاد فقاموا بتحركات عدة تحت يافطة الجمعيات للتوعية بوجودهم والترويج لكونهم أقليةً تسعى إلى العيش بسلام مع بقية الأديان والمذاهب، وذلك لمحدودية عددهم في تونس عموماً ولجهل قسم كبير من التونسيين بوجودهم.

الغريبة أقدم كنيس يهودي في إفريقيا

إلى جانب المساجد، تُعرف جربة بكنيس الغريبة اليهودي الذي يُعتقد أنه شُيّد قبل نحو 2500 عام، ما يجعله واحداً من أقدم أماكن العبادة اليهودية في العالم، ويمتاز بطابعه المعماري التونسي التقليدي، وبالزخارف الذهبية والزرقاء على جدرانه. وتحجّ إليه جموع من اليهود من مناطق شتى من العالم في أيار/ مايو، ويقيمون شعائر دينيةً ومراسم وطقوساً متنوعةً تستمر يومين وسط إجراءات أمنية مشددة. وتوجد في الغريبة أقدم نسخة معروفة من التوراة وفق الروايات اليهودية.

ويتكون الكنيس من بنايتين كبيرتين الأولى خاصة بالعبادات ويغلب عليها اللون الأبيض والأزرق، ويوجد في داخلها بيت الصلاة وهو المكان الذي تؤدى فيه أهم طقوس الزيارة، أما البناية الثانية فتُستعمل لإقامة الاحتفالات بالأهازيج والموسيقى التونسية وتوزيع الأكلات التونسية أيام زيارة اليهود.

وتقول لافتة معلقة داخل الكنيس مكتوبة بأربع لغات (العربية والإنكليزية والفرنسية والألمانية): "يرجع عهد هذا المقام العتيق والمقدس المعروف بالغريبة إلى عام 586 قبل الحساب الإفرنجي (التقويم الميلادي)، أي منذ خراب الهيكل الأول لسليمان تحت سلطة نبوخذ نصر، ملك بابل وقد تم ترميمه عبر العصور".

الطريق الرومانية

ولأن العديد من الحضارات على غرار الرومانية والفينيقية والبيزنطية قد مرت بجربة، فإن آثارها باقية حتى اليوم منها "الطريق الرومانية" التي تربط مدينة جرجيس بجزيرة جربة، وتمتد على طول ثمانية كيلومترات. شيّد الرومان هذه الطريق في القرن الثالث ميلادي، بأمر من الإمبراطور الروماني "ثيودوسيوس الأول"، لربط الجزيرة وفك عزلتها. وكانت حينها أحد أهم المشاريع الإنشائية التي أنجزتها الإمبراطورية الرومانية.

وحتى بعد وصول العرب المسلمين إلى جزيرة جربة لم يغيّروا اسم الطريق، لكن قاموا ببعض الإصلاحات الكبرى عليها إذ سقطت بعض أجزائها بفعل الزمن، بين سنتي 1431 و1432 ميلادي خلال العهد الحفصي. بعد الاستقلال أجريت أيضاً بعض الترميمات في أكثر من مناسبة، ولكن ظل اسمها "الطريق الرومانية"، كشاهدة على أولئك الأوائل الذين لا تزال آثارهم صامدةً منذ قرون طويلة. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard