شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
محجّبات ينتظرن طعاماً يعدّه طاهٍ يهودي… جماليات التعايش بين الأديان في جِربة

محجّبات ينتظرن طعاماً يعدّه طاهٍ يهودي… جماليات التعايش بين الأديان في جِربة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!
Read in English:

The island of coexistence: Religious harmony and tolerance in Djerba, Tunisia

رأيتها للمرة الأولى على الشاشة الكبيرة، كنظيراتها من الأماكن البعيدة التي تأخذنا إليها السينما، فنشعر بأننا صرنا نألف شوارعها وناسها. منذ البداية، يتولد لدينا شعور إيجابي نحوها. نعرفها باسم "جزيرة الغفران"، ذلك العنوان الذي أطلقه المخرج رضا الباهي، على شريطه السينمائي الأخير، ويعود فيه إلى فترة خمسينيات القرن الماضي الفارقة في تاريخ وطنه تونس. يفتتح الفيلم بمشهد وسط مياهها المطلة على خليج قابس، ومنه ينتقل إلى البر المصبوغة بناياته باللونين الأبيض والأزرق غالباً، لكن مساراته فضاء ملوّن بثقافات متعددة ومتمازجة.

يسرد الباهي حكايةً تُنسَج خيوطها من ذاكرة كاتب خطّ الشيب رأسه، وقرر العودة إلى المكان الذي تفتحت فيه عيناه على العالم، أي جزيرة جربة، لينثر رماد جثة والدته ويلقي نظرةً على ماضي عائلته الإيطالية المسيحية التي امتدت جذورها في الأراضي التونسية. تتشكل أمامه صور من طفولته الشاهدة على عصر تجاورت فيه الديانات السماوية الثلاث المسيحية واليهودية والإسلام، وتلاشت الحواجز بين أهل الجزيرة والجاليات الأجنبية المقيمة فيها. فقد تكاتف الجميع ضد مصاعب الحياة وتعايشوا برغم الاختلافات الكثيرة. صحيح أن المناخ العام لم يكن مثالياً بفعل الاستعمار الفرنسي والتيارات المتطرفة، إلا أن المُنغّصات لم تسلب جربة قدرتها على التسامح وتقبّل الآخر.

يرجع المخرج إلى الماضي، محمّلاً إياه إشارات تمسّ الحاضر الذي يعاني من توغل أصحاب الفكر الرجعي المتعصب في مجتمعاتنا العربية. لكن جربة التي يقدّمها الفيلم، لا تختلف كثيراً عن الواقع الذي لمسته في زيارتي لها، لأنها لا تزال محتفظةً باستثنائيتها وجمالها برغم مرورها بتحولات عدة على مرّ الأزمنة.

جربة ملتقى الحضارات

حينما وطأت قدماي منطقة "حومة السوق"، عاصمة الجزيرة ومركزها التجاري الرئيسي، وأخذت أتجول بين طرقاتها التي ينتصب فيها التجار يبيعون ما تشتهر به أرضهم من منسوجات ومصوغات وجلود، بجانب الفواكه الجافة والتوابل، لاحظت تنوع الوجوه والملامح بين ما هو عربي وإفريقي وأوروبي، وتباين أنماط الملابس التي يتمسك بعضها بالزي التقليدي (البسكاري والجباب)، وتجنح غالبيتها إلى الأزياء العصرية، وكأن عوالم بأكملها تتداخل في هذه البقعة من الأرض.

لاحظت تنوع الوجوه والملامح بين ما هو عربي وإفريقي وأوروبي، وتباين أنماط الملابس التي يتمسك بعضها بالزي التقليدي (البسكاري والجباب)، وتجنح غالبيتها إلى الأزياء العصرية، وكأن عوالم بأكملها تتداخل في هذه البقعة من الأرض

كانت القبائل الأمازيغية، التي استوطنت بلاد شمال إفريقيا، أول من استقرّ على هذه الجزيرة وبسطت ثقافتها وعاداتها عليها في هدوء وسلام. لكن جربة التي تبلغ مساحتها 514 كم، كانت دوماً جميلةً ومغويةً، وقد لفتت أنظار الكثير من الطامعين في الواقع والأساطير، إذ يُعتقد أنها الجزيرة التي اكتشفها القائد "أوليس" في ملحمة "الأوديسة"، عندما تاه في البحر بعد خديعته لأهل طروادة بحصانه الخشبي المحمّل بالجنود.

سمع نداءها من بعيد، لكنه تردد في النزول إلى شاطئها المظلل بالنخيل، وأرسل اثنين من البحارة لاكتشاف المكان. رحّب سكان الجزيرة بهما، وقدّموا لهما واجب الضيافة على أكمل وجه، وعندما أكل البحّاران من ثمرة "اللوتس"، وهي نوع من التمور، انشغلا عن المهمة المكلفَّين بها، والسفينة التي تنتظرهما، وفضّلا البقاء في المغارات المسماة بـ"كهوف النسيان". قرر أوليس أن يبحث عنهما، وخلال رحلته كاد ينسى نفسه هو الآخر. لكن بمساعدة أهل الجزيرة غادر القائد ورجلاه اللذان بكيا في أثناء رحيلهما عنها.

"هي جزيرة ككل الجزر المتوسطية، عرفت العديد من الحضارات العظيمة بفعل الغزوات، وكان ذلك السبب في تنوعها الثقافي والديني والعرقي وانفتاحها على الآخر"؛ يقول رئيس جمعية صيانة جزيرة جربة ناصر بوعبيد لرصيف22. إذ توجد فيها مواقع أثرية عدة تعود إلى التاريخ القديم. وذلك لأنه مرّ على حكمها الفينيقيون والرومان والبيزنطيون والعرب المسلمون أيضاً. كما تورطت في الكثير من الحروب والمعارك إلى أن وقعت تحت الانتداب الفرنسي، ونالت حريتها باستقلال تونس في 1956.

لكن الصراعات لم تغيّر من طبائع أهلها المسالمين الذين أخذوا يعمرون الأرض بالفلاحة ويمارسون الصيد والتجارة، مرحبين بكل من يرغب في مشاركتهم الحياةَ. وقد فتحوا أبوابهم أمام المضطهدين من كل مكان، فكانت الجزيرة ملاذاً للأقليات عبر التاريخ، إذ استقبلت مجموعات من اليهود الذين فرّوا من بطش البابليين، ثم توالت الدفعات من الشرق والغرب. كذلك احتضنت معتنقي المذهب الإباضي الذي يُعدّ "أقليةً" بين مذاهب الإسلام، إلى جانب استيعابها للكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية على أرضها، اللتين صارتا مقصداً أساسياً للسياح في ما بعد.

هذه القدرة على التعايش التي كانت يوماً ميزةً لمدن مصرية، مثل القاهرة والإسكندرية، غاب عنها التنوع تدريجياً عقب ثورة 1952، لا تزال مستمرةً في جربة تونس. يوضح ناصر: "من الطبيعي أن تصادفوا في طريقكم شخصاً يعتنق أياً من الديانات الثلاث، فالبيوت والمحال التجارية متلاصقة، فضلاً عن تواجد دور العبادة داخل الحي الواحد من دون حساسيات".

جزيرة المعابد

من بين الألقاب المتعددة التي توصف بها جربة، يُعدّ لقب "جزيرة الأحلام"، الأكثر تداولاً عند الحديث عنها كمقصد سياحي، نظراً إلى أنها تمتاز بشواطئ جميلة ممتدة على طول شريطها الساحلي البالغ 125 كم، بالإضافة إلى طابعها العمراني الفريد وإرثها التاريخي. لكن هذه التسمية في نظري هي الوصف الأدق لقدرتها على إتاحة فرصة اللقاء والتواصل مع الآخر أياً كانت ميوله أو معتقداته على أرض عربية، خصوصاً ذاك الذي يؤمن بدين النبي موسى، ويرفض ترك المكان الذي لم يعرف غيره وطناً.

يرتكز وجود يهود جربة في منطقتين، هما "الحارة الصغيرة" والحارة الكبيرة"، وبحسب التقديرات، يصل تعدادهم إلى نحو 1،200 شخص. كانت تونس قديماً تضمّ أكثر من مئة ألف يهودي، ولكن بدأت الهجرات بعد احتلال فلسطين عام 1948، ثم ارتفعت نسبة المغادرين بعد استقلال البلاد وانتهاج الحكومة للسياسة الاشتراكية.

تبدو "الحارة الصغيرة" اليوم أكثر من كونها مجرد حي يتشارك فيه المسلمون واليهود. فعندما نسير بين ممرّاتها المشعة بالضوء، نشعر أننا في معرض تشكيلي مفتوح، بفضل جداريات البيوت الملونة التي رسمها فنانون من مختلف جنسيات العالم منذ 2014. صار المكان مرتبطاً باسم مشروع "جربة هود"، الذي يُعدّ امتداداً للثراء الفكري والوجداني لهذه الأرض، كما أنه يمنحنا فرصة التقرب من ساكنيها الذين يفتخرون بكلِّ من ذاع صيته من أبناء خارج حدودها، حيث تتزين جدرانهم بلوحة للمدوّنة الراحلة لينا بن مهني، التي كانت من أبرز الناشطين المشاركين في ثورة الياسمين، وبجانبها أخرى للممثلة الكوميدية سامية أورسمان.

وعلى بعد خطوت يظهر كنيس "الغريبة"، أقدم معبد في شمال إفريقيا وأحد أهم المعابد اليهودية في العالم. ترتبط سيرته بحكاية مثيرة تعود إلى زمن مغادرة اليهود للقدس في فترة السبي البابلي، إذ يُعتقد أنهم رحلوا حاملين حجارةً من هيكل سليمان المُهدّم، وقد وضعوها في قبو هذا المعبد قبل نحو 2500 عام. يُعدّ "الغريبة" واحداً من بين 11 معبداً في جربة، وهو قِبلة اليهود التي يأتون إليها في شهر أيار/مايو من كلّ عام لأداء شعائر الحج وممارسة الطقوس الدينية في أجواء احتفالية يشاركهم فيها أبناء الديانتين الأخريين، فرحين بانطلاق الموسم السياحي. صحيح أن الحج تأثر هذا العام بحادث الهجوم المسلح الذي قاده رجل أمن، وراح ضحيته عدد من القتلى، إلا أن أهل الجزيرة يعدّونه عملاً فردياً وشاذاً عن طبيعة المكان، هذه الطبيعة التي لم أستشعرها بشكل حقيقي إلا عند زيارة "الحارة الكبيرة".

من بين الألقاب المتعددة التي توصف بها جربة، يُعدّ لقب "جزيرة الأحلام"، الأكثر تداولاً عند الحديث عنها كمقصد سياحي، نظراً إلى أنها تمتاز بشواطئ جميلة ممتدة على طول شريطها الساحلي.

سمعت عنها للمرة الأولى من سائق سيارة أجرة أوصاني بألا أغادر الجزيرة من دون تذوق أكلة "البربك" التونسية من مطعم "إسحاق" في "الحارة الكبيرة". وحينما ذهبت إلى المكان الصغير ذائع الصيت، وقعت عيناي على سيدتين محجبتين تنتظران طعامهما الذي يعدّه شاب يضع غطاء الرأس اليهودي (الكيباه)، وكأنني أمام لقطة "كليشيهية" عن الوحدة الوطنية في فيلم سينمائي. لكن خارج المطعم كان الأمر حقيقياً بصورة لا يمكن إنكارها، حيث أطفال يضعون غطاء الرأس ويتسابقون بالدراجات، ويمازحون جيرانهم من المسلمين.

لا يعيش يهود جربة في عزلة عن مجتمعهم، بل ينخرطون في الحياة اليومية وإن كانوا متحفظين قليلاً مع الغرباء. البعض منهم يتلقون تعليمهم في المدارس الحكومية المختلطة، والبعض الآخر يختارون الالتحاق بصفوف المدرسة الدينية. يقول عبده درزة، الطاهي المسلم في المدرسة الدينية اليهودية في جربة: "كل عائلة تختار ما تراه مناسباً لتعليم أبنائها، ولكن بشكل عام، كلّ منّا يحترم عادات الآخر وتقاليده، والعلاقات تنمو بيننا كما تتطور في أي مكان في العالم ما دمنا نتقبل بعضنا بعضاً، لأننا في النهاية كلنا أولاد إبراهيم".

جزيرة المساجد

يمثّل المسلمون الأغلبيةَ في جربة، وقد دأبوا على بناء المساجد على مرّ الأزمنة حتى أصبح عددها يتراوح بين 250 و300 مسجد. وقد كانت للمساجد وظائف عدة داخل المجتمع الجربي، فبالإضافة إلى وظيفتها التعبدية الأساسية، كانت بمثابة حصون دفاعية لمراقبة الشواطئ والتحذير من الأخطار الداهمة، حيث يتم إشعال النيران عند ملاحظة أي حركة غير اعتيادية لإعلام سكان الجزيرة بخطر وصول الغارات.

شُيّدت المساجد بطريقة مدروسة على امتداد الشريط الساحلي، وكذلك داخل الأحياء والغابات. لكن اللافت في مساجد جربة هو أن بعضها منحوت تحت سطح الأرض، متأقلماً مع طبيعة الجزيرة وتضاريسها، ولكي يكون ملاذاً للعائلات من الغزاة مثل جامع الوطي أو البرداوي. وقد اعتادت المساجد على استقبال الجميع دون تمييز في وقت الحروب.

ربما يظن البعض أن حالة الانسجام بين أصحاب الديانات الثلاث عموماً، وبين المسلمين واليهود خصوصاً، على أرض هذه الجزيرة، يمكن تعكيرها بسهولة في هذه الأيام، لكن أهل جربة يرفعون شعار المشاركة في الوطن بصرف النظر عن الانتماء الديني.

يقول ناصر بوعبيد: "العالم أصبح محبّاً للمسميات الكبرى، لذلك يطلق على الممارسات الإنسانية العادية توصيفات رنانةً، مثل التعايش السلمي والتسامح. هذه الجزيرة كانت ولا تزال ساحةً للتلاقي بين الجميع، ترحّب بكل محبّ للتنوع والاختلاف، وتلفظ أصحاب العقول المتطرفة الذين يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard