استمر حكم البايات في تونس لفترة طويلة دامت 252 عاماً، وقد تم تأسيس المملكة التونسية الحسينية على يد حسين بن علي، سنة 1705، ليتداول حكم البلاد 19 باياً حسينياً آخرهم محمد الأمين باي، الذي زعزع كرسيّه بعد حصول تونس على استقلالها عن فرنسا سنة 1956، وذلك بإصدار قرار بإلغاء النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري سنة 1957، والذي أُجبر بموجبه آخر البايات الحسينيين على التخلي عن جميع ممتلكاته لفائدة الدولة التونسية، ووُضع في الإقامة الجبرية مع ثلة من عائلته وأقربائه.
إن أُسدل الستار على حكم البايات، فإن الحكم الملكي والحقبة الملكية برمتها كانت مليئةً بالأحداث التي حدّدت مصير تونس في كثير من المحطات، وتركت إرثاً تاريخياً ظل طوال عقود محور بحوث علمية ودروس أكاديمية ومصدر إلهام للعديد من المخرجين الذين أنتجوا أعمالاً فنيةً متميزةً.
إرث البايات... معمار مهدّد في تونس
خلافاً للإرث السياسي، تمكّن البايات الذين تداولوا على الحكم في تونس من تخليد ذكراهم عبر إرث معماري عريق، إذ شيّدوا نحو 500 قصر في مختلف مناطق البلاد، اندثر جلّها وتعرض البعض الآخر للتخريب والاعتداء وأصبحت أوكاراً ومراتع للمنحرفين، فيما حافظت قصور أخرى على رمزيتها ومكانتها إلى الآن، على غرار القصر الملكي في باردو الذي يعود بناؤه إلى القرن السادس عشر، ويضم حالياً مقرّ مجلس نواب الشعب ومتحف باردو وكذلك قصر قبّة النحاس في منوبة، وهو من أفخر القصور في تونس، وتحوّل حالياً إلى فضاء يحتضن حفلات الزواج والعديد من المناسبات الأخرى.
نجد كذلك قصر السعادة في المرسى، الذي شيّده الناصر باي، سنة 1914، إكراماً لزوجته "قمر"، وقد تحول القصر حالياً إلى مقر لبلدية المرسى. كما نذكر قصر زروق الذي أنشئ في مدينة قرطاج، وقد كان آخر القصور التي سكنها البايات قبل الاستقلال وإقرار تونس جمهوريةً.
تدمير إرث البايات... سياسة بورقيبية؟
استُعملت التركة الحضارية للبايات خلال فترة الاستقلال كمراكز للحكم، لكن إهمال جزء كبير منها واندثاره يُعدّان بمثابة تهميش لمعالم تاريخية كان يُفترض أن تتحول إلى منارة ثقافية وسياحية عوض خراب وحطام على غرار قصر أحمد باي في المرسى، الذي يواجه خطر الانهيار، وكذلك قصر دار الباي في حمام الأنف الذي أصبح مهجوراً وتم الاستيلاء عليه من قبل العديد من العائلات التي تقطنه دون وجه حق.
يرى العديد من المؤرخين أن إهمال العديد من القصور والمعالم التاريخية التي شيّدها البايات، هدف إستراتيجي للجمهورية الأولى، وتحديداً رمزها الحبيب بورقيبة الذي سعى إلى طمس تاريخ البايات عبر تهميش آثارهم.
يُظهر أستاذ التاريخ المعاصر في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في صفاقس عبد الواحد المكني، أن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة هو رمز العهد الجمهوري، لكن الجمهورية تم إعلانها من قبل المجلس القومي التأسيسي ولا يمكن تحميله كامل المسؤولية.
وأضاف أن "الدروس" في إعلان الجمهوريات وإسقاط الملكيات، لم تخترعها تونس فهناك جمهوريات قامت بأخطاء فظيعة تجاه العائلات المالكة على غرار البلاشفة في روسيا الذين أبادوا عائلة رومانوف، ويرى أن التجربة الأفضل هي الفرنسية لأن جميع ممتلكات العهد الملكي تم الحفاظ عليها وأشهرها قصر فرساي.
قصر المحمدية أحد رموز إهدار المال العمومي??
— ??? مجلة تاريخ تُونس ??? (@HistoireTn) August 20, 2020
أمر بنائه مصطفى باي لكن بعد تولى أحمد باي الحكم و زيارته لفرنسا في 1846 أمر بتوطيره و توسيعته على شاكلة ما شهده في فرنسا ،رصدت له أموال ضخمة من قروض خارجية فجُلب الرخام من نابولي و المرايا من البندقية... #تونس #Tunisie #FFTUN #Tunisia pic.twitter.com/yTCQWuoBDA
وتحدث المكني إلى رصيف22، عن وجود خلط سابق في تونس عن سوء تقدير أو عن قلة مصالحة مع التراث، لأن جميع المعالم الدينية والتاريخية والمعمارية ليست ملكاً لمن ينشِئها بل هي ملك البلد الذي أنشئت فيه، وهو ما ينطبق على قصور البايات في حمام الأنف والمرسى ومنوبة وباردو وغيرها، والتي كان من المفترض الحفاظ عليها لكن بسبب عدم صيانة البعض منها تم الاعتداء عليها.
وأضاف أن ملف حليّ البايات ومجوهراتهم بدوره يلفّه الغموض، والعديد من الشهادات والوثائق تؤكد أن ما تم إيداعه في خزينة الدولة ليست مجوهرات أصليةً، بل مجرد نسخ منها.
شيّد بايات تونس نحو 500 قصر في مختلف مناطق البلاد، اندثر جلّها وتعرض البعض الآخر للتخريب والاعتداء وأصبحت أوكاراً ومراتع للمنحرفين
كما أشار المتحدث إلى أنه حسب شهادات أحفاد البايات، فقد سُلبت الحليّ والمنقولات ونُهبت، وجُرّدت العائلة الملكية من كل ما تملك ولم يُترك لها الحد الأدنى من "المعاش" حتى أن الباي أمضى ما تبقى من حياته في شقة في حي "لافايات"، ناهيك عن المضايقات التي تعرضوا لها ومحاكمة البعض منهم بتهمة الكسب غير المشروع.
وتابع: "أما ما يقلقني كمؤرخ، فهو أن تصريحات أحفاد العائلة المالكة تقتصر فقط على الممتلكات الخاصة والحليّ في غياب تام للحديث عن إنجازات العرش وعن الشرعية وعن المظالم التي تعرض لها المنصف باي، وهو باي شريف وشهيد، وعن بعض البايات الذين قاموا بإصلاحات مثل محمد باي في عهد الأمان. في تقديري هذا يُنقص من تاريخ العرش الحسيني الذي حكم البلاد طوال 252 سنةً. من حقهم الدفاع عن ذاتيتهم وربما عن أملاكهم المشروعة، ولكن حصر التأسف في الممتلكات وتجاهل الشرعية والمظالم التي وقعت للمنصف باي، أعدّهما انتقاصاً من قيمة العرش الحسيني".
ويرى المؤرخ أن العرش الحسيني فقد بريقه منذ إجبار المنصف باي، على الاستقالة في 13 أيار/ مايو 1943، والوحيد الذي أعاد إليه الشرعية هو فرحات حشاد الذي رفع الحصار عن الأمين الباي سنة 1947، وتعامل معه وكلّفه موقفه الصراع مع الشيخ الفاضل بن عاشور، الذي كان يطالب بالإبقاء على عجز هذا الباي شعبياً وعدم التعامل معه لأنه ورث السلطة بصفة غير شرعية بعد إزاحة المنصف باي، مضيفاً أنه منذ الدعوة لانتخابات المجلس التأسيسي بعد الاستقلال الداخلي لتونس، بدا واضحاً أن العرش الحسيني آيل إلى الزوال خاصةً أن الشعب التونسي آنذاك كان يبحث عن الاستقلال ونظام الحكم لا يهمه كثيراً.
كما يرى عبد الواحد المكني، أن أي نظام قائم سيحاول أن يؤسس لشرعيته عبر ضرب مكانة النظام السابق وتقليصها، وأكبر دليل على ذلك هو الخطاب الطويل الذي أقامه بورقيبة يوم 25 تموز/ يوليو، داخل قبة المجلس القومي التأسيسي والذي عدد فيه مساوئ نظام البايات من الاستبداد والفساد واتهامهم بغياب الوطنية.
ويرى المكني، أن الحفاظ على المعالم التاريخية التي لها علاقة بالبايات ليس فقط مسؤولية النظام البورقيبي، بل كذلك بقية الأنظمة المتعاقبة، خاصةً المسؤولين على صيانة التراث والمعالم الأثرية. لكن العديد من المعالم وعلى رأسها قصر حمام الأنف وقصر المحمدية وغيرهما من المعالم التي آلت إلى الاندثار، كان يفترض أن تتم صيانتها لأنها ذاكرة الشعب.
تهميش المعالم التاريخية التونسية... حالة عامة؟
في الوقت الذي يُتّهم فيه النظام البورقيبي، بمحاولة طمس أثر أسلافه من البايات الذي حكموا تونس لفترة طويلة، تساءل المؤرخ محمد ضيف الله، عن وقوع تهميش للمعالم الأثرية المتعلقة بالبايات في تونس من عدمه لافتاً إلى أن العديد من القصور على غرار قصر السعادة في المرسى يحتضن حالياً مقر بلدية المدينة، وسبق أن اتخذه الحبيب بورقيبة مقر إقامة له ثم أصبح مقراً لاستقبال الملوك والأمراء الذين تستضيفهم تونس. وبالنسبة إلى قصر قرطاج، فقد أصبح حالياً بيت الحكمة. أما قصرا باردو والقصبة، وهما من أقدم القصور في العالم، فقد استمرا في الاضطلاع بالدور السياسي نفسه، إذ استُعمل قصر باردو مجلساً للأمة وحالياً مقراً للبرلمان، والقصبة مقراً لرئاسة الحكومة.
يُتّهم النظام البورقيبي، بمحاولة طمس أثر أسلافه من البايات الذي حكموا تونس لفترة طويلة
يرجّح المؤرخ في حديثه إلى رصيف22، أنه حتى لو كان البايات على قيد الحياة لتمّ الاهتمام ببعض القصور وتُركت قصور أخرى، وأن الاهتمام بالمعالم الأثرية وتثمينها يختلفان من فترة إلى فترة، ومن زمن إلى زمن، ومن منطقة إلى أخرى، مضيفاً أن منطقة حمام الأنف كانت ضاحية البايات في وقت ما، وبتراجع مكانتها وتراجع جودة شاطئها انعكس ذلك على حالة المعلم التاريخي فيها، وهو قصر "دار الباي" الذي تدهورت وضعيته وأصبح آيلاً إلى السقوط.
يرى ضيف الله، أن تهميش بعض المعالم التاريخية لم يكن موجهاً فقط إلى تراث البايات، بل حتى الزوايا والجوامع التي تُعدّ من الأماكن المقدسة تحولت إلى "وكايل" يقطنها من لا مسكن له.
كما شدّد على ضرورة التعامل مع القضية بنسبية، لأن التهميش لا يستهدف قصور البايات وليس ردة فعل ضدهم أو انتقاماً منهم، بل هو مسألة تخص جميع المعالم التاريخية كـ"المبيتات الطلابية" الموجودة في نهج تربة البايات في تونس العاصمة التي تم استغلالها للسكن في حين أن بعضها يعود إلى العهد الحسيني الأول والعهد الحفصي والعهد المرادي.
ولفت المؤرخ إلى أن المبالغة في تحميل النظام البورقيبي مسؤولية ما آلت إليه وضعية بعض قصور البايات، تُعدّ موقفاً من الحبيب بورقيبة، في حين أنه كان قد قام بتعليق صور جميع البايات في ممرّ في قصر قرطاج وكان يعدّ أن صورته ستكون مواليةً لهم وهو دليل على إيمانه باستمرارية الدولة ورموزها.
وتعليقاً على المطالب الأخيرة التي يرفعها أحفاد البايات بخصوص ميراث أجدادهم، يرى محمد ضيف الله أنه من العبث المطالبة بها خاصةً أن جلّ الأملاك تم تأميمها أي أصبحت تابعةً للدولة، عادّاً أنه كان يُفترض استعمال المجوهرات والقطع الأثرية والفنية والمتحفية في تأثيث متحف من المتاحف، والمحافظة عليها، لأنها تكتسي قيمةً تاريخيةً كبيرةً وتعود لقرون مضت، لكن للأسف تم التفريط فيها واستُّغلت من قبل زوجات الرؤساء وسيلة بورقيبة وليلى بن علي وغيرهما وكأنها ملك شخصي وليست إرثَ بلد بأكمله.
جدير بالذكر أن العديد من أحفاد البايات كانوا قد طالبوا في لقاءات إعلامية باسترداد حقوقهم المتمثلة في إرث أجدادهم، وتوجهوا إلى إدارة الملكية العقارية للحصول على مؤيّدات قانونية (وثائق) تنصفهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون