في تونس، وتحديداً في جزيرة جربة، تختلف الصورة ويتباين وضع اليهود عن سائر المدن العربية. هنا لليهود مكانة مختلفة... هنا تجد حراس المعبد.
على مدار قرون طويلة وحضارات مختلفة، استقر اليهود في تونس في مختلف مدنها ومناطقها تاركين بصمتهم وأثرهم على أكثر من صعيد، حتى شهد العالم العربي الظهور الرسمي لدولة إسرائيل وما صاحبه من هزائم عربية بدأت عام 1948، وتفاقمت عام 1967.
ومثل سائر أقطار العرب، تعرّض يهود تونس خلال تلك الفترة لاعتداءات على يد مسلمين رأوا فيهم امتداداً لإسرائيل، فهاجروا إلى خارج البلاد تاركين كل شيء وراء ظهورهم.
لكن وعلى الرغم من رحيل عشرات الآلاف منهم من مدن تونسية مختلفة، إلّا أن يهود جزيرة جربة تشبثوا بالبقاء في مدينتهم. وللاستثناء اليهودي "الجربي" في تونس عوامل دينية واجتماعية واقتصادية كانت رافداً قوياً لهؤلاء حتى لا ينساقوا خلف الهجرة كما فعل أبناء ديانتهم من بقية المحافظات.
وأما بالنسبة إلى اليهود الذين توافدوا على جزيرة جربة، فإن قدومهم بأعداد كبيرة قد جرى منذ سنة 500 قبل الميلاد، ووفق التقاليد المحلية يرى يهود جربة أن وصولهم إلى الجزيرة جرى منذ عهد الملك سليمان بعد خراب المعبد اليهودي الأول في القدس عام 586 قبل الميلاد. وحسب ما يُتداول عن يهود جربة، فإن أباءهم القدامى الذين هربوا من القدس بعد أن دمّرها ملك بابل نبوخذ نصر، قد أحضروا معهم إلى الجزيرة باباً من أبواب المعبد اليهودي الأول الذي بناه الملك سليمان.
يهود جزيرة جربة تشبثوا بالبقاء في مدينتهم. وللاستثناء اليهودي "الجربي" في تونس عوامل دينية واجتماعية واقتصادية كانت رافداً قوياً لهؤلاء حتى لا ينساقوا خلف الهجرة كما فعل أبناء ديانتهم من بقية المحافظات
جربة التاريخ والأسطورة
تقول الأسطورة اليونانية القديمة إن "أوليس" (صاحب فكرة حصان طروادة)، عندما تاه في البحر هرباً من فتك الطرواديين تسعة أيام، استقر به المطاف في اليوم اليوم العاشر على شاطئ جزيرة جربة، فقام بإرسال اثنين من رجاله لاكتشاف المكان، فوجدا نفسيهما في أرض جميلة عامرة بالسكان المسالمين الذين رحبوا بهما، ودعوهما إلى أكل "اللوتس" الذي كان طيباً جداً، حتى أن الرجلين نسيا العودة إلى أوليس وإخباره بما حدث معهما مفضّلَين البقاء مع "أكلة اللوتس"، بل ولم يفكرا في الرجوع إلى ديارهما.
حينها، لحقهما "أوليس" وأجبرهما على العودة إلى السفينة لإكمال الرحلة ومغادرة الجزيرة التي تجعل من يأكل من نبتتها العجيبة "اللوتس"، ينسى دياره وبلده ويتذكر أن هذه الجزيرة هي موطنه فحسب.
تقع جزيرة جربة في خليج قابس على الساحل الجنوبي لتونس، وتبلغ إجمالي مساحتها 514 كيلومتراً مربعاً، ويُقدَّر طول شريطها الساحلي بـ125 كيلومتراً، فيها قرابة مليون نخلة وآلاف أشجار الزيتون المعمرة التي زرع نواتها الأولى الفينيقيون.
ومنذ فجر تاريخها، تعاقب المحتلون والغزاة عليها، من رومان ووندال وبيزنطيين وعثمانيين وإسبان وحسينيين وغيرهم، نظراً لموقعها الجغرافي الاستثنائي المنفتح في الوقت ذاته على البحر المتوسط والصحراء. إذ ترتبط الجزيرة بالقارة الإفريقية بمنفذَين أحدهما بحري انطلاقاً من آجيم حيث يوجد مضيق يفصل الجزيرة عن القارة، يبلغ اتساعه كيلومترين، أما الآخر فبرّي ينطلق من القنطرة عبر طريق يشق البحر وتعود جذوره إلى العهد الروماني.
وكما شكّلت هذه الخصائص عامل جلب لعدد مهم من الغزاة من حضارات متعددة، فإن عدداً كبيراً من اليهود وجدوا ضالتهم في الجزيرة، ونسجوا باكراً أسطورتهم الخاصة التي أثمرت أحد أقدم معابدهم على الإطلاق، "معبد الغريبة"، الذي ظل صامداً حتى اليوم، بل تحوّل عبر السنوات الطويلة جداً إلى عنوان هوية وانتماء وإلى مزار لعدد كبير من يهود العالم سنوياً.
تقول الأسطورة إن فتاةً غريبةً ابنة كاهن يهودي، أقامت في كوخ في معزل عن الجميع، حتى أفاقوا ذات يوم على كوخها وهو كومة من الرماد بعد أن احترق بها كلياً.
لكن المثير أن الفتاة حسب الأسطورة فارقت الحياة، لكن جسدها ظلّ سليماً فعدّوا أنها قديسة وبنوا المعبد، "معبد الغريبة"، مكان كوخها، وتحوّل مع مرور الأعوام إلى أحد أبرز رموز اليهود الدينية، وأحد أهم أسباب تمسكهم بالبقاء في جزيرة جربة.
لهذا بقي يهود تونس في جربة
بعد القيام الرسمي لدولة إسرائيل سنة 1948، وبعد حرب 1967، هاجر الآلاف من يهود تونس إلى أوروبا وتل أبيب بسبب ما لحقهم من اعتداءات وأعمال عنف طالتهم، من قسم كبير من التونسيين الغاضبين.
كان في تونس نحو مئة ألف يهودي موزّعين بين محافظات عدة، ظل نحو ألفي يهودي منهم فقط، بينهم قرابة 1،300 يهودي يستقرون الآن في جزيرة جربة، فيما تتوزع البقية على مناطق مختلفة من العاصمة وخاصةً مدينة "حلق الواد".
هذه المجموعة التي اختارت البقاء في جربة، كانت لديها جملة من العوامل والاعتبارات العديدة، منها أن جزيرة جربة تشكّل فسيفساء من الإثنيات الدينية منذ قرون طويلة، تعيش جنباً إلى جنب بسلام ومن دون أن يحدث ما يعكّر صفو هذا الانسجام القائم.
هذا الوضع خلق مجتمعاً متسامحاً في ما بينه أكثر من مجتمعات بقية المدن التونسية الأخرى، مما شجع اليهود على الاستقرار فيها وعدم المغادرة، وعندما حاولت إسرائيل استدراجهم، رفضوا الأمر.
تُعد الجزيرة من أقدم المناطق المأهولة في شمال إفريقيا بمجتمع متعدد الأديان والأعراق، فهي التي أوت منذ أقدم العصور اليهود الفارين بعد هدم معبد سليمان في القدس، إلى جانب المسيحيين، كاثولكيين وأورثودوكس، الذين عاشوا بسلام فيها، كما تؤكد كنائس حومة السوق، وكذلك الشأن بالنسبة إلى المسلمين، إذ عُرفت الجزيرة كإحدى حواضن أقلية الإباضية (1 في المئة من مسلمي العالم)، وجميع هذه الديانات والإثنيات التقت على الجزيرة ولا زالت من دون أي عوائق تُذكر.
كما أن اليهود في جزيرة جربة أسسوا علاقات اجتماعيةً وطيدةً مع مختلف الديانات والإثنيات المحيطة بهم، ولهم أنشطتهم التجارية الواسعة والرابحة أيضاً، وخاصةً صياغة الذهب (70% من يهود جربة هم من الصاغة)، والمطاعم والسياحة ووكالات السفر، ولهذا لم يكن من اليسير عليهم القطع مع واقعهم المستقر في جميع النواحي والرحيل لبدء حياة جديدة في دول جديدة.
أما العامل الأكثر أهميةً الذي ثبّت أقدام اليهود في جربة، فدينيّ بحت يرتبط بوجود أحد أقدم معابد اليهود في العالم على الجزيرة، وهو "كنيس الغريبة"، الذي يُعد بالنسبة إليهم عنواناً لهويتهم الضاربة في القدم، ومهداً لهم ولأجدادهم، ومنارةً لأداء طقوسهم الدينية، ويعتقدون أنهم مطالبون بالبقاء قريباً منه لحراسته وضمان استمراره كحاضنة سنوية لليهود من مختلف دول العالم، يجتمعون فيها لممارسة طقوسهم وعباداتهم ويفاخرون بأنهم حرّاس أحد أقدم رموز اليهودية في العالم.
العامل الأكثر أهميةً الذي ثبّت أقدام اليهود في جزيرة جربة هو دينيّ بحت يرتبط بوجود أحد أقدم معابد اليهود في العالم على الجزيرة، وهو "كنيس الغريبة"، الذي يُعد بالنسبة إليهم عنواناً لهويتهم الضاربة في القدم، ومهداً لهم ولأجدادهم، ومنارةً لأداء طقوسهم الدينية
يسكن يهود جربة في حارتين، الكبيرة ويقطنها أكثر من ألف يهودي، فيما يقطن في الحارة الصغيرة ما يقارب 300 يهودي، وفي كلا الحارتين يعيش عدد مهم من المسلمين التونسيين جنباً إلى جنب معهم، ويمارس غالبية التجار اليهود نشاطهم في منطقة "حومة السوق" وسط جزيرة جربة، إلى جانب التجار التوانسة المسلمين أيضاً. علماً أن هناك 11 كنيساً يهودياً تنتشر في الأحياء اليهودية، وهي عبارة عن معابد صلاة يومية لليهود، تختلف مساحتها، وتتكون من فضاء خارجي واسع وفضاء داخلي خاص بالصلاة، وأداء طقوس اليهود خلال المناسبات الدينية.
ويمتهن يهود جربة العديد من المهن، أهمها الصياغة والسياحة ووكالات السفر والجزارة والمطاعم، إذ يمتلك العديد من اليهود مطاعم شعبيةً في الجزيرة، ولا يرون أن إقامتهم كمجموعة واحدة في الجزيرة تجعلهم في عزلة عن بقية التونسيين لأن أنشطتهم اليدوية، وخاصةً صياغة الذهب، تجلب إليهم التونسيين من كل المحافظات نظراً لشهرتهم بإتقانهم هذه المهنة، فضلاً عن حضورهم الكبير في النشاط السياحي الكبير في الجزيرة، والذي يستقطب بدوره آلاف التونسيين سنوياً من كل الجهات، هذا إلى جانب خروج أبنائهم للدراسة في الجامعات الموزعة على مختلف محافظات البلاد، وحتى العمل فيها كلما أتيحت لهم فرصة مناسبة.
وهذا ما يؤكده الناطق باسم الطائفة اليهودية، بيريز الطرابلسي، الذي رأى في تصريح لرصيف22، أن استقرار العدد الأكبر من يهود تونس في جزيرة جربة، مرده إلى جملة من العوامل التي توفرت لهم في هذا المكان على مدار عقود من دون أن يعني هذا عزلتهم عن بقية التونسيين. وأضاف: "جربة مدينة جميلة وساحرة يهرع إليها الجميع من تونس وخارجها طلباً للاسترخاء والراحة، فكيف في وسع اليهودي الذي ترعرع فيها ولديه نشاط قار داخلها أن يذهب إلى ما هو أدنى؟ لا أؤيد فكرة العزلة، وأجدها في غير محلها، لأن الإقامة في هذه المدينة لا تلغي تنقل اليهود بين كل محافظات البلاد متى احتاجوا إلى ذلك من دون قيد".
الحج إلى معبد الغريبة
يُعد معبد الغريبة، في جزيرة جربة، أقدم كنيس يهودي في إفريقيا، وتقول بعض الروايات اليهودية إن قطعاً من حجارة هيكل سليمان الأول قد استُخدمت في بنائه، وإنه يحتوي على واحدة من أقدم نسخ التوراة في العالم.
يبدأ موسم الحج إلى الكنيس في اليوم الثالث والثلاثين من الفصح اليهودي، ويستمر يومين. وخلال موسم الحج يقوم اليهود باحتفالات "الهيلولة"، وهي طقوس دينية تتم خلالها إقامة صلوات وإشعال شموع داخل الكنيس والحصول على "بركة" حاخاماته وذبح قرابين (خرفان)، وتناول نبيذ "البوخة" المستخرج من ثمار التين، والذي يشتهر بصناعته يهود تونس دون سواهم.
بعيداً عن المعبد والحج، تظل جربة نموذجاً متفرداً في العالم العربي، إذ يمتزج فيها التسامح بالعمل بالمصالح بحب الحياه، في أرض عُرفت يوماً باسم أرض "اللوتس"، الذي من يأكل منها ينسى دياره وبلده، ويتذكر فقط أن هذه الجزيرة هي موطنه
وخلال هذه الأجواء تتزين الفتيات العزبات اليهوديات، ويعملن على الظهور كأجمل الحاضرات سعياً إلى الظفر بزوج من بين الحاضرين من شباب اليهود العزبين. فموسم الحج الذي يشارك فيها آلاف اليهود القادمين من مختلف أنحاء العالم، يمثل فرصةً للتعارف بين العزبين والعزبات من اليهود من أجل نسج قصص تنتهي في الكثير منها بالزواج. وتراجع عدد زوار الغريبة منذ سنة 2011، فبعد أن كان العدد نحو عشرة آلاف في 2010، استقر خلال السنوات الأخيرة بين ألفين وثلاثة آلاف زائر.
وبعيداً عن المعبد والحج، تظل جربة نموذجاً متفرداً في العالم العربي، إذ يمتزج فيها التسامح بالعمل بالمصالح بحب الحياه، في أرض عُرفت يوماً باسم أرض "اللوتس"، الذي من يأكل منها ينسى دياره وبلده، ويتذكر فقط أن هذه الجزيرة هي موطنه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...