تجوب سارة ومريم، أزقة المدينة العتيقة في تونس العاصمة، "المدينة العربي"، ذهاباً وإياباً لأكثر من ساعة بحثاً عن طاولة صغيرة في أحد المقاهي التي تعجّ بالزائرين الذين توافدوا على المدينة مباشرةً بعد الإفطار.
العثور على مكان صغير يتسع للشابتين كان بمثابة المهمة الصعبة، إلى أن قرّر صاحب مقهى إضافة بعض الكراسي والطاولات على ناصية الطريق في الجهة المقابلة، لإرضاء الزبائن الذين تذمروا من الاكتظاظ وشقّ عليهم الجلوس لاحتساء القهوة أو الشاي بالنعناع وما تيسر من "الحلويات العربي".
تقول مريم، وهي شابة عشرينية تزاول عملها في التعليم في كندا منذ سنة ونصف، إنّها اختارت قضاء عطلتها السنوية في تونس لتعيش الأجواء الرمضانية التي تكتسي رونقاً خاصاً في "المدينة العربي"، لا يشعر بها إلا العاشقون لكل ما هو تقليدي في هذا المكان.
عبق التاريخ
تمتد المدينة العتيقة على نحو ثلاثة كيلومترات تقريباً. شُيّدت على ربوة مطلة على البحر، وتم تصنيفها سنة 1979، ضمن لائحة مواقع التراث العالمي لليونسكو. وتضم هذه المدينة أبرز المعالم التاريخية، كالقصور التي سكنها المماليك والأثرياء والساسة وجامع الزيتونة المعمور، وتحيط بها أسوار عملاقة تتخللها أبواب اضمحلّت غالبيتها ولم يبقَ منها سوى اسمها، الذي يُطلق على أماكن وجودها في السابق.
في أماسي رمضان لا يحلو السهر إلا في "المدينة العربي" في تونس العاصمة. حيث يمتزج عبق التاريخ والأصالة بمظاهر الفرح والاحتفال والتعبّد لدى كل الأجيال التونسية
يضم الجزء العتيق لمدينة تونس عشرات الأسواق، نذكر منها سوق البركة لبيع الذهب، وسوق البلاط لبيع الأعشاب الطبية، وسوق النحاس. وإن كانت تزدحم هذه الأسواق وتعجّ بالحركة في النهار، فإنها تغلق أبوابها مع مغيب الشمس، وتتحول إلى "أنهج" (طرقات) ضيقة مظلمة ومقفرة يخشى من لا يقطنون في المدينة المرور عبرها. لكن كل شيء يتغير مع حلول شهر رمضان، إذ تعود الحركة إلى المدينة مساءً، وتدبّ الحياة في أزقتها، فتُضاء فوانيس رمضان وتفوح رائحة البخور من هنا وهناك، كما تصدح الجوامع بالذكر، وتفتح المحال التجارية أبوابها وتستقبل المقاهي روادها الباحثين عن سهرات بعبق تاريخي.
"استمتعُ كثيراً بالجلوس في مقاهي ‘المدينة العربي’، بعد الإفطار، فهذا المكان له سحر وطابع خاص يجمع بين العراقة والجمال، كما أن السهرات الرمضانية ومظاهر الاحتفال تجعلك تتردد بشكل يومي لتواكب الأجواء وتستمتع بفنجان ‘القهوة العربي’ المُنكَّه بقطرات من الزهر"، تقول سارة في حديثها إلى رصيف22، وتضيف: "على الرغم من روعة السهرات التقليدية، فإن الاكتظاظ والتأخر في تأمين طلبات الزبائن وارتفاع الأسعار التي قفزت إلى الضعف في جميع المقاهي تُعدّ من مساوئ السهر في المدينة العتيقة، في انتظار تحسين جودة الخدمات".
سهرات لا تحلو إلا في "المدينة العربي"
شيماء يوسف، شابة عشرينية متدربة في أحد المستشفيات العامة في قسم التمريض. تتحدث إلى رصيف22 عن أجواء السهرات الليلية في "المدينة العربي"، وتحديداً في المقاهي التي تؤثث السهرات الرمضانية بعروض فنية متنوعة: "سهرات شهر رمضان لا تحلو إلاّ في ‘المدينة العربي’، فكل ما يحيط بك تونسي مئة في المئة: الهندسة المعمارية للمدينة وديكور المقاهي والأواني النحاسية و’القهوة العربي’ التي تُطبخ على الفحم وتُعطَّر بالزهر. هذه الأجواء لا تجدها إلا في المدينة العتيقة".
تضيف شيماء، أنها من المغرمين بالجلوس في مقاهي المدينة العتيقة، حتى في سائر الأيام، وأنها وجهتها المحبّذة مع صديقاتها، لكنها تلاحظ أن سعر القهوة يقفز من ثلاثة دنانير إلى ثمانية دنانير في شهر رمضان، الأمر الذي يطرح لديها أكثر من تساؤل حول أسباب هذا الاستغلال والشطط في الأسعار.
عن توافر وسائل النقل ليلاً، تؤكد شيماء أنها لا تجد صعوبةً في التنقل من مقرّ سكنها في المحمدية (ضواحي تونس)، إلى المدينة العتيقة، إلا أن وسائل النقل تكتظّ خلال رحلة العودة، ويصبح من الصعب الظفر بوسيلة نقل تؤمّن العودة إلى المنزل.
عودة المهرجانات
رمضان هذا العام استثنائي أيضاً، إذ إن إجراءات مواجهة كوفيد19 تقلّصت، وعادت فعاليات ثقافية إلى سابق عهدها. وبعد أن غيّبته جائحة كورونا لمدة سنتين متتاليتين، مهرجان المدينة استعاد نشاطه في دورته الثامنة والثلاثين. وقد تضمن المهرجان جملةً من العروض والحفلات التي نُظّمت في المدينة العتيقة في "دار الأصرم"، وهو منزل بناه حمّودة باشا لصرم، رئيس حرس الزّواوة في القرن التاسع عشر، ويتميز بزخرفة ثريّة مستوحاة من الأنماط الهندسية الأندلسيّة والعثمانيّة والإيطاليّة. كما نُظّمت عروض في "دار بن عاشور"، وهي من أهم المعالم المدينة العتيقة ويعود تاريخ بنائها إلى القرن السابع عشر ميلادي، وتحمل لقب ابن عاشور العائلة المتحدّرة من الأندلس، وكذلك في المركز الثقافي "بير الأحجار" الذي يقع داخل فضاء مدرسة بئر الأحجار التي أُحدِثت في عهد علي باي الأول، سنة 1757 م.
"استمتعُ كثيراً بالجلوس في مقاهي ‘المدينة العربي’، بعد الإفطار، المكان له سحر وطابع خاص يجمع بين العراقة والجمال، كما أن السهرات ومظاهر الاحتفال تجعلك تتردد بشكل يومي" تقول الشابة سارة
ويُعدّ مهرجان المدينة من أهم التظاهرات الموسيقية في تونس التي تُعنى بالفن الأصيل، كما يُعدّ وجهةً لكل متعطش إلى الألحان العذبة والعروض الموسيقية التراثية.
إن كان بعض التونسيين يختارون السهر في المقاهي التي تؤثث سهراتها بالفنَّين الشعبي والشرقي، فإن البعض الآخر يفضّل الاستمتاع بالعود والموشحات وموسيقى "المالوف"، وهي نوع من أنواع موسيقى الطرب الأندلسي وتُطلَق على الموسيقى الكلاسيكية في المغرب العربي.
وقد تضمن برنامج الدورة الثامنة والثلاثين، عرض "حديث العشق" للفنانة نهى رحيم، وعرض "نغمات تونسية في العصر الجميل"، وعرض "سلامية بن خيار"، وعرض "في البال غنّاية" لنادي فتحية خيري، وعرضاً لعازف العود محمد العطار.
تختلف أذواق المتعطشين إلى السهرات الرمضانية، فبعضهم يقبِلون على الطرب والفن الراقي، والبعض الآخر يتوقون إلى السهرات الصاخبة والحفلات الراقصة التي تؤمّنها المقاهي، فتختلف وتتنوع وترتفع الأصوات المتسللة من هنا وهناك، لتتحول إلى ضجيج تصل أصداؤه إلى جامع الزيتونة حيث يقبل المئات من المصلين في شهر الصيام لأداء صلاة التراويح، لما يحمله المسجد من طابع روحاني رمزي.
جامع الزيتونة... قلب المكان
يستقبل جامع الزيتونة المتربع وسط "المدينة العربي"، عدداً مهماً من المصلّين الذين يتوافدون عليه من كل أنحاء البلاد، لأداء صلاة التراويح، ويكتسي هذا الجامع رونقاً خاصاً يتعاظم في شهر رمضان، فيتزيّن الجامع لاستقبال روّاده لإقامة الصلوات من الفجر حتى التراويح والتهجّد في الأيام العشر الأواخر من شهر الصيام.
يؤكد محمد الكعبي، وهو شيخ سبعيني التقيناه أمام جامع الزيتونة المعمور، أنه قدم من محافظة أريانة برفقة ابنه ليؤدي صلاة العشاء في جامع الزيتونة: "أصرّ في شهر رمضان وحتى في الأعياد والمناسبات الدينية على الصلاة في هذا الجامع، لما له من خصوصية روحانية وأجواء مميزة. كما أنني أواكب سنوياً الحلقة الدينية لختم القرآن الكريم التي تقام في الـ27 من شهر رمضان سنوياً. بعد الصلاة أقتني ما تيسّر من الحلويات العربية وأعود إلى المنزل".
يُعدّ مسجد الزيتونة ثاني أقدم مسجد في تونس، بعد جامع عقبة بن نافع في القيروان، وتم تأسيسه سنة 698 ميلادية، ويقع على مساحة خمسة آلاف متر مربع. كما يتميز بهندسته المعمارية الفريدة التي تشهد على الحضارة العربية الإسلامية ويشكل مركزاً علمياً وحضارياً مهماً.
يضفي زائرو المدينة العتيقة حركةً تجاريةً على جميع أسواقها، فيُقبلون على مختلف الصناعات التونسية المعروضة خاصةً الحلويات التي يرتبط الإقبال عليها بشهر الصيام، ونذكر منها "الزلابيا والمخارق والمقروض" وغيرها من الحلويات التقليدية التي يتمّ إعدادها بأنواع مختلفة من الفواكه الجافة و"الشحور"، كما يُقبل رواد المدينة العتيقة على اقتناء حلويات العيد في أواخر شهر رمضان لتقديمها للضيوف أو لتبادل الأطباق كهدايا بين العائلات والجيران في يوم العيد.
كما يشهد سوق البركة لبيع المصاغ والحلي انتعاشاً بعد شبه ركود طوال أشهر فصل الشتاء، فيُقدم المقبلون على إقامة حفلات خطوبة في عيد الفطر أو في ليلة السابع والعشرين من رمضان، على اقتناء ما تيسر من الذهب على الرغم من لهيب أسعاره.
بدورها، تنتعش الأسواق المخصصة لبيع مستلزمات الأفراح كلباس العرائس و"حلوى الدراجي" والبخور والفواكه الجافة والشموع وغيرها تزامناً مع احتفال التونسيين بحفلات الخطوبة وحفلات المواسم، و"الموسم" هو هدية يقدّمها الخطيب لخطيبته في الأعياد والمناسبات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع