شرعتُ في مقال عن كتاب "في مديح الشيخوخة" للمفكر الروماني شيشرون، واتخذت من شوقي جلال مثالاً للحيوية الذهنية واللياقة العقلية، وطمأنينة النفس، وهو في بدايات العقد المتمم للمئة.
طوال إعادة قراءة كتاب شيشرون، استحضرتُ شوقي جلال (92 عاماً)، ونحن دائماً على موعد تأجل في الآونة الأخيرة، مرات تفادياً لشبح كورونا، ثم بسبب المرض الذي أدى إلى وفاته، السبت 16 أيلول/سبتمبر 2023. اعتدنا اللقاء في الهواء الطلق، أعلى نقابة الصحفيين. كان يحرص على المغادرة في التاسعة، إذ يحل موعد سندريلا في العاشرة تماماً. انضباط ضاعف وقته وعمره ومنجزه في التأليف والترجمة، ومنحه الرضا عن اختياره المبكر أن يكون فرداً، حرّاً مستغنياً.
لا يشكو الرهبان. وهو راهب يلازمه شيء من القلق والتشاؤم الإيجابي، ويجد العزاء في عمل مستمر، ترجمة وتأليفاً، ويراهن على الوعي في إحداث تغيير ولو بطيئاً، بعد تجريف الروح المصرية بعنف مثّلته احتلالات متصلة زادت على 23 قرناً، منذ غزو الفرس ثم الإسكندر المقدوني، حتى عام 1954، نهاية احتلال بريطاني بدأ عام 1882، وأخضع البلاد لاحتلال مزدوج، عسكري بريطاني، وتركي يعطي الشرعية لأسرة محمد علي الحاكمة.
لا يشكو الرهبان. وهو راهب يلازمه شيء من القلق والتشاؤم الإيجابي، ويجد العزاء في عمل مستمر، ترجمة وتأليفاً، ويراهن على الوعي في إحداث تغيير ولو بطيئاً
وفي السنوات الأخيرة، مسّ شوقي جلال شيءٌّ من الصلف الإنجليزي؛ ففي عام 2018، رفضت السفارة البريطانية إعطاءه تأشيرة دخول للعلاج، حيث يعيش ابنه. سألني: أي خطر يمثّله رجل تجاوز السابعة والثمانين على الإنجليز؟ وضحكنا.
يسهل الهدم. والبناء تلزمه ذهنية مركّبة. أُخرج الاستعمار الأجنبي، وتلاه حكم وطني مشوّه. وعبر أكثر من سبعين عاماً لا ينضج. تنقصه الحرية التي وعدت بها ثورة تموز/يوليو 1952. وعدٌ لا يفي به العسكريون أبداً. يُهزمون فيقاوم الشعب، ثم ينتصر في المعركة وفي ميدان التحرير، فيحتال اللئام على أشواقه. الحرية لا يمنحها كارهوها. الاستبداد "الوطني" نسخة غير منقّحة من الأصل الأجنبي.
في عزّ استبداد الملك فؤاد ورئيس الوزراء إسماعيل صدقي وإلغائهما دستور 1923، ولد شوقي جلال في 30 تشرين الأول/أكتوبر 1931. كانت فترة الصبا استكشافاً. ترك الفتى نفسه للتجربة. وأثارته نظرية التطور، بعد أن حرضه أبوه على قراءة كتاب "أصل الأنواع" لداروين.
أحبَّ المعرفة، وفي الوقت نفسه جذبته فرق الجوالة التي شكلها الإخوان المسلمون، وانضم إلى الجهاز الخاص، وهو تنظيم عسكري سري أسسه حسن البنا لتصفية خصوم الإخوان. أقسم الفتى على المصحف والمسدس، وظل ينقصه يقين يكتسبه الإخوان، وينزع عن العضو عقله؛ فيسلّم بما يؤمر به.
قال لي شوقي جلال إنه اشترى، عام 1946، كتاب "الإخوان المسلمون في الميزان" تأليف محمد حسن أحمد، "وأرجّح أن مؤلفه شهدي عطية الشافعي". الكتاب ينتقد الإخوان، ويكشف نفاقهم لإسماعيل صدقي الملقب بعدو الشعب. شبّهوه بالنبي إسماعيل "إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً". ورأى المسؤول الإخواني جلال سعدة ذلك الكتاب في يد الفتى، فأخذه ورفض إعادته.
ترك التنظيم، وطوى الصفحة، وفوجئ في كانون الأول/ديسمبر 1948 باعتقاله، على خلفية اغتيال التنظيم السري الإخواني لرئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي. ولاحقته لعنة الانتماء القديم للإخوان، وهو في الجامعة، باعتقاله عام 1954. كان يدرس الفلسفة وعلم النفس في كلية الآداب، واختار رحابة العقلانية.
وبعد التخرج عام 1956، عمل مدرساً للفلسفة في معهد المعلمين، واعتقل من جديد عام 1959 متهماً بالانضمام إلى تنظيم شيوعي. تم فصله، فلم يلجأ إلى الشكوى، وقرر الاستقلال عن المؤسسات الحكومية، والتعمق في المعرفة الموسوعية. كان مهيأ نفسياً منذ قرأ كتاب "أصل الأنواع"، حتى إن الدكتور يوسف مراد أستاذ علم النفس شجّعه على حضور محاضرات في كلية الطب.
ليس غريباً أن تكون باكورة ترجماته كتاب "السفر بين الكواكب"، بمناسبة وصول الكلبة لايكا إلى القمر، عام 1957. في العام نفسه نشر كتابه "بافلوف... حياته وأعماله"، أول كتاب بالعربية عن عالم وظائف الأعضاء الروسي الفائز بجائزة نوبل في الطب.
انحاز إلى العلم، رموزاً وقضايا. حدد المسار، وفوجئ بلعنة الإخوان تتعقبه عام 1965، في قضية إعادة إحياء التنظيم على يد سيد قطب. لم يتاجر شوقي جلال بنوبات الاعتقال، سما على الشخصي، وهو يراقب ارتباك الأداء السياسي الذي ألغى أدوار المؤسسات المدنية، ضمن ما تم إلغاؤه من مكاسب الحركة الوطنية قبل تموز/يوليو 1952. أحدثت الثورة قطيعة، ولم تحاول الاستفادة من التراكم السابق.
النزوع العلمي لدى شوقي جلال لا يلغي الميول الروحية. في فترة مبكرة، قرأ كتاباً عن تاريخ الأديان، واطلع على فلسفة بوذا وكونفوشيوس. ثم وجد نفسه قريباً من روح نيكوس كازانتزاكيس، وترجم روايته "المسيح يصلب من جديد". تجربة أكبر من مجرد ترجمة، هي توحُّد وتمثُّل: "تفاعلتُ معها، وترجمتُها في سنتين بدموعي"، ونشرتها عام 1970 الهيئة المصرية العامة لللتأليف والنشر. واقترحت عليه رئيسة الهيئة الدكتورة سهير القلماوي، هي والدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة آنذاك، ترجمة أعمال كازانتزاكيس. كان يشعر بالاستنزاف والإجهاد، فقال إنه لا يستطيع ترجمة "الأدويسا"؛ لأنها شعر، 33333 شطراً، فقالت له سهير القلماوي: لقد ترجمتَ "المسيح يصلب من جديد" شعراً.
اعتذار شوقي جلال عن عدم ترجمة منجز كازانتزاكيس سببه أن هذا المشروع الكبير قد يستهلك عمر المترجم، فيظل مرتبطاً باسم الكاتب اليوناني، وتتأجل طموحاته إلى التأليف. وقد ترجم انتقاءات معظمها ذو طابع علمي وفلسفي، منها "بنية الثورات العلمية"، و"تشكيل العقل الحديث" و"الثقافات وقيم التقدم"، و"الثقافة منظور دارويني"، و"الشرق يصعد ثانية... الاقتصاد الكوكبي في العصر الآسيوي"، و"الصدام داخل الحضارات... التفاهم بشأن الصراعات الثقافية"، ويذهب الكتاب الأخير إلى أن الصراع الحضاري لم ينشأ بعد هجمات أيلول/سبتمبر 2001، ولا مع المد الاستعماري في القرن التاسع عشر، ولكنه تزامن مع الثورة الصناعية، ورؤية فلاسفة غربيين لحضارتهم كذروة للعبقرية، أو "نهاية التاريخ" كما قال فوكوياما.
بالتوازي مع الترجمة ألف شوقي جلال كتباً منها "العقل الأمريكى يفكر"، و"نهاية الماركسية"، و"الحضارة المصرية صراع الأسطورة والتاريخ"، و"أركيولوجيا العقل العربي... البحث عن الجذور"، و"المجتمع المدني وثقافة الإصلاح"، و"الترجمة في العالم العربي... الواقع والتحدي".
وبقي لديه حلم بإنجاز مشروع عن الروح المصرية منذ فجر التاريخ، قبل أكثر من عشرة آلاف سنة، حين شرع المصري في تجفيف المستنقعات، واهتدى إلى الزراعة والأبجدية، وآمن بقدسية نهر النيل، وأقسم في محكمة العالم الآخر: "أنا لم ألوّث ماء النيل". ومن ثمار هذه الفلسفة توحدت البلاد في حكم مركزي يحافظ على حدود الدولة، ويرعى المياه. وفي ظلال تلك الروح ازدهرت العلوم والفنون، قبل الأفول الطويل.
جانب من هذه الأفكار تضمنها كتاب "التراث المسروق... الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة" للكاتب الأمريكي جورج. جي. إم. جيمس. أغلب الظن أن الكتاب أسعد شوقي جلال، فترجمه وأغناه عن تأليفه. في مقدمة عنوانها "مصر... الغياب الطويل ومحاولة البحث في الجذور" يذكر المترجم أن الكتاب "صدمة بكل ما تعنيه الكلمة".
أما جيمس مؤلف الكتاب فيعترض على مصطلح الفلسفة اليونانية أو الإغريقية، يراها تسمية خاطئة مضللة، وأن فلاسفة اليونان ليسوا أصحاب الفلسفة المنسوبة إليهم، "وإنما أصحابها هم الكهنة المصريون وشراح النصوص المقدسة والرموز السرية"، وأن المصريين استحدثوا مذهبا دينيا معقداً "سُمِي نظام الأسرار... أول مذهب عن الخلاص"، بهدف السمو على سجن الجسد.
ظل نظام الأسرار سرياً وشفاهياً يُحظر تدوينه، لنحو خمسة آلاف سنة، وتعلمه الإغريق من الكهنة المصريين، بعد غزو الإسكندر. هذا النظام جانب من "الفلسفة المصرية غير المكتوبة والتي تمت ترجمتها إلى اليونانية القديمة هي وحدها فقط التي لقيت هذا المصير البائس. تراث سرقه الإغريق"، بعد أن اغتصب الإسكندر الأكبر مكتبة الإسكندرية "ونهبها واصطنع أرسطو مكتبة لنفسه من الكتب المنهوبة". بدا التضليل بالترويج للفلسفة اليونانية "سافراً وفاضحاً إلى أقصى مدى عند الإشارة عمداً إلى أن نظرية المربع القائم على وتر المثلث قائم الزاوية هي نظرية فيثاغورث، وهو زعم أخفى الحقيقة قرونا عن أعين العالم"، فاليونانيون تعلموا قوانين الرياضيات في المعابد المصرية.
كان أرسطو معلّماً للإسكندر. ويعجب مؤلف الكتاب من تجنّب أرسطو "أي إشارة إلى زيارته مصر"، وحده أو في صحبة تلميذه الإسكندر المتهم بنهب المعابد والمكتبات المصرية، والسماح لأرسطو بتحويل مكتبة الإسكندرية إلى مركز أبحاث "ولهذا لا غرابة إذ يتأكد لنا أن الإنتاج الوفير على نحو استثنائي وغير مألوف من الكتب المنسوبة إلى أرسطو أمر من المستحيل تماماً من حيث القدرة الطبيعية طوال حياة فرد بذاته... إخفاء هذا التاريخ يثير الشك فيما يتعلق بحياة أرسطو وإنجازاته". وإذا كان أرسطو قد تتلمذ على يدي أفلاطون عشرين سنة، فإن جيمس يتساءل: "كيف استطاع أفلاطون أن يعلم أرسطو علوماً لم يكن أفلاطون نفسه يعرفها؟".
أحبَّ المعرفة، وفي الوقت نفسه جذبته فرق الجوالة التي شكلها الإخوان المسلمون، وانضم إلى الجهاز الخاص، وهو تنظيم عسكري سري أسسه حسن البنا لتصفية خصوم الإخوان
رواية "غير قابلة للتصديق"، في سياق رسمي يعادي الفلاسفة. كانت حكومة أثينا تتخذ موقفاً من الفلسفة اليونانية، وتنظر إليها الحكومة باعتبارها فلسفة أجنبية المنشأ، كما كان فلاسفة اليونان "مواطنين غير مرغوب فيهم"، يتعرضون للاضطهاد. فعلى سبيل المثال، قامت السلطات بطرد فيثاغورث وإبعاده إلى إيطاليا، وحكمت على سقراط بالإعدام.
يتساءل جيمس: "هل نتخيل بعد ذلك أن اليونانيين القدماء تحولوا فجأة وزعموا أنهم أصحاب ذات التعاليم التي اضطهدوها أول الأمر ونبذوها صراحة؟... إنهم كانوا يعرفون يقينا أنهم يعمدون إلى نهب ما ليس لهم وما لم ينتجوه". ولم يحملوا "معهم ثقافة وتعليما إلى مصر". الغزاة دائماً يسارعون إلى طمس هوية المستعمرات، وسرقة تراثها.
ماذا فعل الإغريق بالعلوم المصرية؟ اعتاد المنتصرون نهب الثروات المادية والتراث غير المادي، ويقدمون رواية مضللة عن قيم حضارية يتبنون نشرها. ولعل القناع الإغريقي طال أكثر مما يجب. والرواية التي كرسها الغرب تنقضها، من حين إلى آخر، دراسات ستشكّل بمضي الوقت تياراً يغير تاريخ الفلسفة والعلوم الطبيعية. يقول المؤلف الأمريكي إن كتاب "الجمهورية" ليس لأفلاطون، "ولا أي فيلسوف يوناني آخر".
وفي مقدمة الترجمة يذكر شوقي جلال أن مخطوطات نجع حمادي التي عثر عليها فلاح مصري، مصادفة في جنوب مصر في أربعينيات القرن العشرين، "تتضمن فصولاً من جمهورية أفلاطون". ويتفاءل ببشائر جهود بحثية أجنبية تزيل "مساحات الصمت والغياب في تاريخ مصر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...