لولا تواتر الأخبار، في الثاني من آب/أغسطس 2023، بوفاة زكريا محمد ما صدقت رحيل صديقي المحبّ للحياة. رأيته أكثر من زكريا: الباحث، الشاعر، المتورط في الهم السياسي، الغاضب، غير المبالي ـ إلا قليلاً ـ بما تجرّه عليه مواقفه. زكريا أكثر من شخص يمارس هذه المهام بالتوازي وبالإخلاص نفسه. إلا أنه اختار الشعر سيداً، بعد أرقه في البدايات عن جدوى الشعر، عن تأثيره وثماره.
قدّر زكريا آنذاك أن زراعة شتلة بندورة أكثر فائدة، سيرى الثمرة ويلمسها. خرج من الحيرة، بالْتماس صوته الخاص، فانكشف له "في اللحظة نفسها جدوى الشعر"، كما كتب في ختام ديوانه "كشتبان" (2014): "لا أعي ذاتي إلا بالشعر".
هو واحد من بضعة شعراء عرب، قلائل جداً ونادرين، لديهم همٌّ معرفي أصيل، ولعٌ ببحث يجعل الإنسان عقلاً خالصاً. جهدٌ يستنفد الطاقة، وربما الخيال بمعناه التقليدي، في تقصي ديانة مصر القديمة، وتفكيك رموز وحروف محفورة في صخور مبعثرة في فلسطين وخارجها، وبحث جذور الأمثال الشعبية. شغفُ فنان يحرره خياله من قيود القواعد الأكاديمية، فلا يلتفت إلى إسارها. بحثٌ حرٌّ يوازي تحرير الشعر من الاستعارات. لكن قارئ قصائد زكريا يدرك أنه، حين يخلو إلى الشعر، يعود سيرته الأولى، بريئاً مندهشاً، يتمثل آدم وهو يختبر خطواته ومشاهداته على الأرض بعد الهبوط من الجنان. يقول زكريا: "كل ما فعلته غير الشعر كان ذنوباً".
الباحث، الشاعر، المتورط في الهم السياسي، الغاضب، غير المبالي ـ إلا قليلاً ـ بما تجرّه عليه مواقفه. زكريا أكثر من شخص يمارس هذه المهام بالتوازي وبالإخلاص نفسه
هو أحد مخلِّصي القصيدة في فلسطين من حمولات ظلمت الشعر ورهنت الفن بما يشوبه، باطمئنانها إلى يقين من داخل الشعر وخارجه. الفنان لا يطْمَـئِن، لا يبلغ الشاطئ، كيف لراكب أسد ألا يقلق؟ حين مات أحمد دحبور دعوتُ زكريا إلى الكتابة عنه في مجلة "الهلال"، أيار/مايو 2017. وضع يده على تفاصيل جديرة بالتأمل. بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 أعاد محمود درويش وسميح القاسم وأحمد دحبور وعز الدين المناصرة ومحمد القيسي وخالد أبو خالد، وآخرون من الجيل الشعري الفلسطيني الجديد، "صياغة الهوية الفلسطينية الحديثة... وإذا كان درويش قد اعتبر لاحقاً إنجيل هذا الجيل، فإن دحبور لم يكن هامشاً صغيراً على هذا المتن الإنجيلي".
لماذا اختلف المساران؟
كان دحبور مسكوناً باللغة وبالثورة، "كانا فرسي رهان متعادلين. لكن الذي حصل في ما بعد أن شعر دحبور أخذ يفقد دهشته وحدّته، ويغرق في الصياغة، في اللغة والعروض". وأخذ شعر درويش "مساراً صاعداً، في حين أنك لا تستطيع أن تجد سلماً صاعداً في شعر دحبور... هناك لغة تصبح أشد إتقاناً، وهيمنة على الوزن والعروض تصبح أشد وضوحاً ومهابة، لكنك لا تستطيع أن تصعد مع أحمد دحبور إلا نادراً... كان دحبور قارئاً مدهشاً. كان لا يقرأ بلغة أخرى مثل درويش... وبشكل ما يمكن القول إن دحبور كان يقف في موقف وسط بين درويش وسميح القاسم". وهنا يصل زكريا إلى مأزق الاطمئنان.
يقول زكريا إن القاسم "كان واثقاً بذاته وثوقاً تاماً، واثقاً بشعره، منقطعاً عن شعر الأجيال التي تليه. كان يحس أنه وصل إلى الحقيقة الشعرية، وأنه لا حاجة به أن يعثر على هذه الحقيقة في أشعار الآخرين. الآخرون لم يكونوا هناك. أما درويش فقد كان الآخرون تحت نافذته. كان يحس بتحدّيهم، بتحدّي الأجيال الجديدة. لذا كان يقظاً إلى حد مخيف. وكانت هذه في ما يبدو لي مأثرته. كان يتابع نتاجاتهم هؤلاء الآخرين بلا توقف. وقد تشكل لدي إحساس ـ أنا الذي عملت معه في مجلة الكرمل لأربع أو خمس سنوات ـ أنه لا يريد أن ينتهي إلى ما انتهى إليه سميح".
يرى زكريا أن دحبور "كان بين الاثنين. لم يكن يغفل عن مجموعة شعرية واحدة لشاعر شاب. لكن فكرة التحدي، فكرة القلق من القادمين الجدد، لم تكن تشغله. كان كريماً مع الجميع، لكن اليقظة المتحدية لم تكن هناك". بهذا الوعي بالمصائر عاش زكريا، مراهنا على الشعر وحده. لعله، مع سعدي يوسف، ممن يحلمون بالشعر، يصحبهم من الشروق حتى الحلم. وفي زحمة النهار يؤرقهم الشعر. الحياة تجربة منتهية، ليست "بروفة"، والشعر أيضاً يكتبه زكريا في صفحته على الفيسبوك، بغزارة: "أنا أكتب ما أريد، وبالطريقة التي أريد. حريتي تتسع، ومتعتي تشتد"، كما جاء في مقدمة "كشتبان"، الذي ألحق به خاتمة عنوانها "الشعر والبندورة".
كل يوم تقريباً كان زكريا يذهب إلى الشعر، أو يتأهب لاستقباله، فيلتقيان في منتصف المسافة. الشعر في كل شيء، وما على الشاعر إلا أن يكشف عنه الغطاء.
الشعر الذي يكتبه زكريا محمد في صفحته الفيسبوكية "نشرٌ تُغفر فيه الأخطاء إلى حد ما". ثم جمعه في ديواني "كشتبان" و"زراوند" (دار الناشر، رام الله فلسطين، 2020)، ولا يضع عناوين للقصائد. لوحات مشهدية تمنح القارئ مرونة التحرر من سقف يقرره الشاعر بعنوان:
منذ البدء لم يكن لكلماتنا معنى
يصير لكلماتنا معنى فقط حين نعلق على الصليب
فعلى الصليب نصير آلهة
لكن، حتى ونحن آلهة فإن شفاهنا العطشات لا تفعل سوى ترديد تمتمات قصيرة:
إلهي، إلهي، لم تركتني؟
في فبراير/شباط 2016 نشرت مجلة الهلال ملفاً عن مستقبل الشعر. وانتقد زكريا شيخوخة الأساليب، وفقدان الشعر لماهيته، "شغلة الشعر في الأساس هي الكون والطبيعة. وفي لحظات محددة تكون الحرب شغلته، ويكون النشيد شكله. لكن هذه لحظة مؤقتة. ويهيأ لي أن الشعر عندنا أقل انشغالاً بالطبيعة والكون. إنه بشكل ما شعر غرف مغلقة. وفي غرفة مغلقة، ومن دون الحذر الكافي، قد يعلق الشعر مع اللغة، أو قد يعلق الشاعر مع ذاته، وينسى ما عداها". مهمة الشاعر شعرية، لغوية، "إنعاش اللغة شرط أساسي من شروط إنعاش المجتمع". هذا التحديد مهم كي لا يكون "الاستشهاد هو مهمة الشاعر في مجتمعات تعصف بها الأزمات".
لا يهتم زكريا بالشكل، ولا يخشى تغليب السرد الذي يوسع فضاءات الشعر، "الشعر يصحح ذاته بذاته. أي يكتشف في النهاية الطرق المغلقة ويرتد عنها. قد يستغرق هذا زمناً ما، لكنه يحدث، ويجري العثور على دروب جديدة". وعلى الشاعر، بعد كل مرحلة، أن يحذر إغراءات طرق الهلاك: "منذ عقدين سرى تقليد يقول إن على الشاعرة أن تكون شهوانية في شعرها إن أرادت أن تكون شاعرة معتبرة. وامتلأ المشهد بالشاعرات الشهوانيات والشعر الشهواني. وغالب هذا الشعر كان ضلالاً. ثمة مناخ عام قد يدفع بالشاعر إلى الهلاك. وأهم شيء هو معاندة المناخ العام، والارتفاع فوقه. على الشاعر أن يصنع المناخات لا أن يسير معها".
لا يهتم زكريا بالشكل، ولا يخشى تغليب السرد الذي يوسع فضاءات الشعر، "الشعر يصحح ذاته بذاته. أي يكتشف في النهاية الطرق المغلقة ويرتد عنها. قد يستغرق هذا زمناً ما، لكنه يحدث، ويجري العثور على دروب جديدة"
كل يوم تقريباً كان زكريا يذهب إلى الشعر، أو يتأهب لاستقباله، فيلتقيان في منتصف المسافة. الشعر في كل شيء، وما على الشاعر إلا أن يكشف عنه الغطاء:
للجالس قبالتي في المقهى:
لا تنظر في عينيّ. لا تبحث فيهما عن ذكرى. أنا لا أعرفك. لا أريد أن أعرفك. عيناي حوض فارغ لا ماء للشرب فيه. عيناي كرتان من زجاج تردان الذكرى وتعكسان الضوء.
ثم، ما فائدة أن تتذكرك عيناي؟ ما الذي يعنيه هذا؟ لا شيء.
خلّك إذن على مقعدك نمراً، وخلّني ضبعاً على مقعدي. ليس بين الضبع والنمر ذكريات. بينهما المخلب. بينهما العواء وهزيم الرعد.
أنا في المقهى. خيال وجهي على شاشة اللابتوب لكنني لا أتعرّفه. أكتب كلماتي ولا أتعرّفها. هذه ليست كلماتي.
في الماضي كان المرء يحفر بالحديد كلماته على الحجر. كانت كلماته تفتك بالحجر.
كان الحجر بوقه، والمطر دمعته.
في الدوحة، كانون الأول/ديسمبر 2010، قابلت زكريا محمد للمرة الأخيرة. أهداني كتابه "ذات النحيين... الأمثال الجاهلية بين الطقس والأسطورة". الكتاب يحمل سخونة المطبعة (الأهلية للنشر والتوزيع، عمان 2011). أعجبني ردّ الأمثال إلى جذورها الأسطورية، ونزع هذا الشرف من كهنة اللغة. اجتهاد جديد كتبتُ عنه بحفاوة. لكن هذا لم يمنعني أن أعترف لزكريا بأنني، باستثناء الربط بين ديانة الأهرام المصرية وديانة مكة في الجاهلية، نسيتُ الكتاب، حتى التفسير الأسطوري لمثل "أشغل من ذات النحيين"! قال إن كل جديد يحتاج إلى إعادة قراءة، بمعنى التصفح والمناقشة. ربما آن الأوان لذلك، ضمن إعادة قراءة مشروع شاعر ظل يكتب حتى النهاية. ويقول في "زراوند":
أعطاني الله جسداً لا يساوي بصلة، وأعطاني فوقه بضع كلمات. فكيف أردّ له جميله أنا الذي يحني الجميل هامتي عادة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...