هل اضطرتك الظروف لترك منزلك لفترة مؤقتة أو حتى بشكل دائم؟ ماذا لو اضطررت لذلك؟ أي الأشياء ستفكر في أخذها أولاً؟ كيف سترتب أولوياتك إن كان بيتك، أو مقرك الجديد، لن يسع كلّ أشيائك؟
بالطبع سمعنا عن كثيرين فعلوا هذا أكثر من مرة، إما لظروف الحروب، كما حدث مؤخراً في السودان، وقبلاً في سوريا وليبيا، ونزح كثيرون إلى بلدان أخرى، وإما لظروف كارثية كالزلازل والفياضانات وما إلى ذلك هؤلاء.
أمثال هؤلاء بالطبع لن يأخذوا إلا أخفّ وأثمن الأشياء، كالنقود والمشغولات الذهبية وأوراق إثبات الهوية، وربما مفاتيح بيوتهم كما فعل معظم الفلسطينيين الذين اضطرتهم ظروف التهجير لترك منازلهم، وكان احتفاظهم بالمفاتيح وتوريثها للأبناء والأحفاد هو ما يمنحهم القدرة للبقاء على قيد الحياة أملاً في العودة.
لكني هنا أتحدث عن ظرف استثنائي وفردي. ففي ظروف الحروب والكوارث الأمر هنا جماعي، لكن ماذا لو تم الأمر بشكل فرديّ؟ طرحت سؤالي على موقع فيسبوك: "ماذا لو اضطرتك الظروف لترك بيتكـ أي الاشياء ستهتم بأخذها أولاً؟ تباينت الإجابات، رغم إجماع الكثيرين على أخذ الهاتف واللابتوب والشواحن وأوراق إثبات الشخصية والنقود، والمشغولات الذهبية إن وجدت. ظهرت أيضاً إجابات متفرّدة: دميتي أو وسادتي المفضلة، وأكثر من واحد اختار ألبومات صور قديمة وهدايا وتذكارات من أصدقاء أعزاء.
الجدران غالية ليس بسبب ارتفاع كلفة البناء، لكن بسبب التفاصيل التي شهدتها تلك الجدران: كم زفرة التقطتها منك وقت حزنك، كم ضحكة سمعتها ورنّت عليها وقت فرحك، كم دمعة شهدتها تسقط من عيونك، كم طفلاً شخبط ورسم عليها أو حتى قشّر طلاءها وأفسدها
البيت هو تفاصيل الدموع والضحكات وشخابيط الصغار
من عدة أشهر، اضطرّتني الظروف للانتقال من بيتي. حزمت الكثير من الأشياء والأغراض على اعتقاد أنني لن أفتقد الأشياء المتبقية باعتبارها أقل قيمة. أخذت الهاتف واللابتوب والنقود وبعض الفرش والأثاث، وبعض أدوات المطبخ أيضاً. بقيت لفترة مقتنعة أن الأمور تمضي بخير ولا شيء ينقصني. حتى بدأ كل ما تركته يبرق فجأة في ذاكرتي، تاركاً خلفه ألم افتقاد وفراغ لا يوصف. وجدتني أحنّ لأشياء لم يكن من الممكن حملها معي. أحنّ للشبابيك، للجدران، حتى الملاعق التي تركتها أحنّ لها. أعرف بيتي قطعة قطعة، ويوجعني أي شيء تركته حتى لو بدا قديماً أو مستهلكاً أو حتى بلا قيمة.
يقولون في تعريف البيت إنه المأوى أو المسكن، ففيه يأوي الإنسان من المخاطر التي تحيط به من لصوص وحيوانات وكلاب ضالة، وهو المسكن، ففيه تسكن الروح وتطمئن. وفي تعريف آخر للبيت، هو أربعة جدران وسقف.
أعتقد أن البيت أكبر من ذلك، أكبر من الحوائط والأسقف والأرضيات، أكبر من أثاث الغرف، البيت هو تفاصيل السنوات التي قضيتها فيه، هوتفاصيل شراء كل قطعة، هو تفاصيل مشاعرك في كل ركن وزاوية، هو رائحة كوب الشاي الدافيء في كرسيك المفضل، هو لهفة الصغار وانتظارهم اللحظة التي ستفتح فيها فرن البوتجاز لتخرج لهم كعكتهم المفضلة.
البيت هو روائح الناس والطعام روائح الصغار والعرق وحتى رائحة المرض والأزمات. الجدران غالية ليس بسبب ارتفاع كلفة البناء ولا بسبب نوعية الطلاء، لكن بسبب التفاصيل التي شهدتها تلك الجدران: كم زفرة التقطتها منك وقت حزنك، كم ضحكة سمعتها ورنّت عليها وقت فرحك، كم دمعة شهدتها تسقط من عيونك، كم طفلاً شخبط ورسم عليها أو حتى قشّر طلاءها وأفسدها، متى استند صغارك على الحائط في خطواتهم الأولى، ومتى ركضوا بمنتهى السرعة واصطدموا به وبكوا، ومتى أخفو وجوههم فيه وهم يلعبون "الاستغماية". الحوائط غالية لأنها تحمل كل تفاصيلنا في داخلها.
كيف تعيش بيوتنا القديمة حتى لو طُمست ملامحها تماماً؟
أعيد طلاء بيت أبي القديم أكثر من مرة، لكني لا أزال أذكر أول لون تفتحت عليه عيني. كان طلاؤه الأول بدرجة فاتحة من درجات الأخضر. قشّرت الطلاءات الجديدة وأنا صغيرة، ظنّاً مني أنني سأجد اللون الأصلي، فلم أكن وقتها على معرفة كافية بكيفية الطلاء ومراحله.
يقولون إن البيوت كلما قدمت زادت درجة محبتها واستوطنت في القلب. فالقدم يعني الأصالة، يعني الكثير والكثير من التفاصيل العالقة ما بين الحجرات وقطع الأثاث. لا أزال أشعر بالبهجة كلما مررت بالقرب من بيت جدي في طنطا. أتذكر وقع أقدامي ودبدباتي الصغيرة فوق الأرضية الخشبية، أسمع صوت ألواح الخشب غير المثبتة جيداً وهي تهتزّ من تحتي في مساحة من الفراغ.
أخشى أن أشتري قطع أثاث جديدة، أخشى أن أصنع ذكريات ومشاعر حقيقية مع بيت قد أتركه وأمضي في أي وقت. ربما يكون بيتك داخلك ولا تعرف، وربما بيتك الحقيقي لم يأت بعد
دخلت البيت عدة مرات مؤخراً بعدما تم تجديده، لم تر عيني الأثاث الجديد ولا سيراميك الأرضية المُستبدل. ظللت طوال الوقت أرى الكنبة القديمة والترابيزة الخشبية المتآكلة التي كثيراً ما تحلقت حولها مع أفراد العائلة في كثير من المناسبات.
كان بيت عمتي من أقرب البيوت إلى قلبي، قبل أن تفقد ابنتها الشابة وتسقط في دائرة من الأمراض حزناً عليها. تحاشيت زيارتها في مرضها الأخير، شقّ على روحي رؤيتها وهي تتعذب، لكنها ظلت تسأل عني وتتمنى حضوري. بدأت أتشجّع فعلاً لزيارتها، وفي كل زيارة كانت تتعمّد أن تبتسم في وجهي وتلقي على مسامعي نفس الجملة: "أنا خفيت لما شفتك".
واظبت مع أمي على الزيارات اليومية على أمل أن تكون جملتها حقيقية، رغم يقيني من استحالة شفائها. رحلت في هدوء، وبعد سنوات تزوّج ابنها في نفس شقتها. حين زرته للمرة الأولى أزعجني شكل البيت بعد تجديده، آلمني الفرش والأثاث الجديد. راودتني رغبتي القديمة في تقشير الطلاء، وتكسير السيراميك بحثاً عن البلاطات القديمة. تمنيت لو أزيح العفش والديكورات الحديثة وأكسر السيراميك وأظل أنبش في الأرض، ربما أعيد البيت القديم وربما أعيد عمتي وابنتها للحياة.
بيتك الحقيقي في داخلك
لم تواتني الجرأة إلى الآن لزيارة بيتي القديم، رغم أنني أفتقد الكثير من الأشياء التي أود اصطحابها معي. اكتشفت أنني أفتقد شيئاً آخر لم أتوقعه: أفتقد نفسي القديمة التي لم تتزحزح من هناك، فحتى البيوت المهجورة تسكنها قطع من روحنا، تتمسك بها وترفض المغادرة. وكأن لا أحد يعرف من يسكن من: هل نسكن البيوت أم تسكننا؟
إلى الآن أخشى أن أشتري قطع أثاث جديدة، أخشى أن أصنع ذكريات ومشاعر حقيقية مع بيت قد أتركه وأمضي في أي وقت. ربما يكون بيتك داخلك ولا تعرف، وربما بيتك الحقيقي لم يأت بعد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com