شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لا تبك يا بطلي الحزين!

لا تبك يا بطلي الحزين!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 16 سبتمبر 202312:01 م


 


سنة 1959، تبول طفل على ثيابه وهو يعُد المدرعات العسكرية بأصابعه. الطفل كان في السادسة، وحين كبر ظل يتذكّر بأنها كانت تفوق العشرين، وبأنه سمع بعدها الدوي الآتي من السماء، وكاد يفقد عندها عقله.

كزهر اللوز

في منطقة الريف شمال المغرب تكثر أشجار اللوز التي تُبهج حين تزهر، وتقول الجدات إذا ظهرت الزهور على إحداها قبل الأخريات، بأنها شجرة "قد رأت حلماً". كيف تبدو أحلام الأشجار؟

كان الطفل يتأمّل شجرة حالمة عند ظهور المدرعات. الأزهار بيضاء وفيها حمرة والظل وارف، وهو لكل ذلك يكاد يبكي، إذ إن في نفسه شيئاً من شعر. غادر والده البيت في الأيام السابقة، كما فعل كل رجال القرية، وطلب منه أن يعتني بالنساء في غيابه. هذه مبالغة من ذاكرته طبعاً.

حمل الرجل القوي الصامت الخبز والتين في جراب، وقال لأمه بأنهم سيعودون قريباً، وأن كل شيء سينتهي، وبكت هي بحرقة مع ضرائرها الثلاث. هؤلاء هم من سيسمّون بعدها بالثوار أو المنتفضين أو المحتجين، حسب نوايا المتحدث. هؤلاء الرجال الأشدّاء المُغبرون الذين ينتابهم الشك والخوف مع ذلك.

في منطقة الريف شمال المغرب تكثر أشجار اللوز التي تُبهج حين تزهر، وتقول الجدات إذا ظهرت الزهور على إحداها قبل الأخريات، بأنها شجرة "قد رأت حلماً". كيف تبدو أحلام الأشجار؟... مجاز 

والآن لنلعب لعبة، ولنعتقد بأن الولد قد كبر ضئيلاً ومتعلماً، يقرأ أشعار محمود درويش شاباً مندفعاً، ثم كهلاً حكيماً، يهتم لشؤون "زهر اللوز". سنفهم بأنه سيتوحّد مع قصائد الديوان كلها وكأنها قد كتبت له وحده، أو أنه قد كتبها بنفسه ثم نسي.

الشعر يفعل بالناس الأفاعيل، وهو يفكر بأنه كالشاعر تماماً "لا يسعفه القاموس" كي يصف ما عاشه في طفولته المقلقلة والكثيفة. سيرى الكوابيس حول ذلك طوال عمره بالتأكيد، ولكن أصدقاء له سينسون. في الحلم سيُبصر، بجلاء لامع، أمتعتهم المحمولة على بقرة سوداء، وهروبهم في الجبال مع ما تبقى من الأسرة الكبيرة، وسيرى نفسه هو أيضاً، متنكراً بزي طفلة صغيرة بغطاء شعر أحمر.

أتعرفني؟

في لسان العرب: "العَجَبُ إنكار ما يرد عليك لقلة اعتياده". إن العجيب لا يمكن تفسيره. تتعارك بنت الملك والعفريت في واحدة من حكايات ألف ليلة وليلة ويراقبهما الحضور مشدوهين: "ثم صار صراع كبير ونحن واقفون نتفرج ونتعجب، وانقلب الاثنان إلى شعلتين من النيران... فأصابنا الشرار منها ومنه... ووقعت شرارة في عيني فطمستها".

يدخل العجائبي إلى حياتنا فيؤذينا إذن. يظهر الجنود فجأة على جبال الريف ولا يفهم الأطفال شيئاً ولكنهم يلعبون. استمرار الأطفال باللعب مهما كانت الظروف مزحة سخيفة من مزح الحياة التي لا تُفهم. يُقلّد إخوة "بطلنا" أصوات الطائرات، ويحاول أحدهم أن يمشي كدبابة حتى. في الليل يغلقون الأبواب باكراً جدا ويخافون. يبدو الخوف كجُهد يستحق التفرّغ له أحياناً. يلتفّ الأبناء كُلٌّ على أمه، ويحدق هو ببطن زوجة والده المكوّرة ويحس بالخدر، وحينها يسمعون طرقاً على الباب ويقترب العجائبي أكثر.

"أتعرفني؟"... يسأله الجندي اللطيف الذي تعلم بضع كلمات من أمازيغية الريف، فتتقدم أمه لتقف بينهما متوسلة: لا يعرفك. العجائب تحدث ولكن ينبغي إنكارها. ينوح الأطفال بشكل متناغم وبلا دموع تقريباً، ويسألهم الجنود أسئلة عن والدهم ورجال القرية الآخرين.

- هل كانوا يحملون القنابل؟

- كانوا يحملون التين.

هذه الأجوبة تغضب بعضهم، فيوجهون الركلات للجدران والهواء، وكل شيء. يمسك الجندي اللطيف رأسه متضايقاً، ويعيد طرح الأسئلة حتى ينتهي كل شيء ويعودوا أدراجهم. من الخارج يسمعون أصوات الدجاجات والخراف وهم يسوقونها، وتناجي أمه الله بإلحاح: ليتركوا لنا البقرة يا رب!

إننا نحكي حكايات للتسلية ونفتح الأبواب للاحتمالات الكثيرة: يصعد الألم والجوع والضجر إلى رأس زوجة الأب الحامل مثلاً، فتصرخ بالجندي اللطيف وتتلقى ركلة قوية على بطنها منه تحديداً. يختفي اللطف فجأة وتظهر وحوشه الجهنمية كلها من مكان غير مرئي. أشياء كهذه تحدث، إذ إن الصبي يعرفه فعلاً إذا أردنا جواباً على سؤاله، وأمه تعرف بهذه المعرفة أيضاً، وتغسل الكدمات والخدوش على ساعديه وركبتيه كل مرة يعرفه فيها أكثر.

يتعذب الولد من الأنين المزعج لزوجة والده التي تفقد طفلها في نزيف طويل ممتد منذ يومين، ويتمنى في لحظة ما أن تموت في سرّه. إنها الطريقة التي يربي بها الناجون فيما بعد مشاعر الخطيئة والذنب... مجاز

إنني أستخدم المجاز لأغطي خجلي، وعندما جئت إلى الريف منذ سنوات تنبهت إلى أمر غريب: لا أحد يتحدث عن أحداث 59. يمكن للناس أن يتجنبوا بعض الأمور وكأنها ستثقب عيونهم. قال لي أحد معارفي: نحن هنا لا نحب الحديث عن تلك الفترة. واتسعت بيننا فجوة هائلة فجأة. إنها الهوة التي تفصل بين الذين بقوا والذين ذهبوا.

والآن هل تتخيلون رعب شهرزاد وهي تحاول أن تلفق حكاية؟ لقد كانت تجرب أن تنجو. يختلط العفاريت والسلاطين والمدن المسحورة داخل رأسها المذعور، وتحس بأنها سوف تصرخ أو تبصق على شهريار نفسه بسبب التعب، غير أنها تبحث عن خيط آخر وتنتظر الصبح: إنها ملحمة من القرف المُضمر والصبر.

تخترع الأم أيضاً لطفلها حكايات طويلة وهي تمسح جراحه بخرقة مبللة. لقد كان الجنود يغتصبونه ولكن من يجرؤ على قول ذلك؟ تغنّي له والدته كل مرة أو توبخه دون سبب أو تدعو على زوجها وأصدقائه كلهم بالموت، وتحسب بأن الاعتداء سيُمحى بتجاهله. هذه حيلة بائسة للتعايش مع الألم. أسمع حكايات متناثرة عن هذه الاغتصابات والاعتقالات والقتل الوحشي، ولكن ليس من فم شخص واحد أبداً، إذ من قد يرغب بالتقليب في هذا الوحل؟ إنه خجل يصيب الضحية أو أنه الخوف مع أن تلك الأزمنة العصيبة قد ولت.

تُبدي أشد النساء ثرثرة وأكثر الرجال تفتحاً، تكتماً وقلقاً عند الوصول إلى هذه النقاط المعتمة. النساء اللواتي اغتُصبن والرجال الذين عُذِّبوا واختفوا كما في قصة سحرية. أحياناً يمكنك التقاط جمل متفرقة سرعان ما تختفي أو يتم التراجع عنها: كنا نسمع بأنهم يغتصبون النساء ويقتلون الصبيان كي لا يكبروا مقاتلين. أحياناً بعض الرعب أيضاً: يمسكون بقدمي الفتى ويجرون كل واحدة منها في اتجاه مختلف حتى يتمزق كخرقة. تخبز النساء الخبز حين يترك لهم الجنود بعض المؤنة، ويأتي رجالهن فيأخذونه مع قبضات وفيرة من التين.

في الليل، تظهر الأشباح الصغيرة والكبيرة ويسمعون أصوات الأحذية الضخمة خارج الأكواخ فيتجمدون من الرعب. يتعذب الولد من الأنين المزعج لزوجة والده التي تفقد طفلها في نزيف طويل ممتد منذ يومين، ويتمنى في لحظة ما أن تموت في سرّه. إنها الطريقة التي يربي بها الناجون فيما بعد مشاعر الخطيئة والذنب.

غنت فتاة في أحد الأعراس أهازيج غريبة، جاء فيها بيت صادم: "يا الله احتفظ ببولك لنفسك، فلم نعد بحاجته"... مجاز

يا الله، جربناك جربناك!

في سنوات الستينيات سيبدأ موسم الهجرة إلى البلدان الأوروبية، وسيرحل الكثيرون من الريف مضحين بالعجول والأبقار التي بيعت من أجل استخراج جواز السفر. الأحلام لا تنقص أحداً؛ يرحل المهاجرون ويعودون محمّلين بالقهوة والثياب والصابون المعطر، وبعد حين تظهر السيارات أيضاً، ويبدو الناس جميعا كطابور انتظار طويل للرحيل.

غنت فتاة في أحد الأعراس أهازيج غريبة، جاء فيها بيت صادم: "يا الله احتفظ ببولك لنفسك فلم نعد بحاجته"، وكانت تقصد ماء المطر، إذ من سيهتم لأمر الأرض والزرع بعد كل ذلك المال البَرّاق المفاجئ؟

هل لامها أحد على ما قالته؟ اتسعت عينا "بطلنا" - الذي سنضعه بين الحاضرين - وأحس بدبيب في أذنيه وقلبه. لقد كبُر مثقفاً ومتأنقاً وبعيداً عن الجميع، ودَرَس في مدينة الحسيمة حيثُ سمع بشيء مشابه من قبل. وقف شيخ مجنون في ساحة فلوريدو وصرخ بالسماء: "والآن أين الله حتى نُصَفي حسابنا كله؟". الناس يطرحون الأسئلة الخاطئة. يسمع الشاب الرقيق القلب أهازيج الفتيات ويفكر بالأشعار والرحيل دونما انقطاع، وبأنه لن يعود أبداً لو رحل. إنه متعلم ولديه آماله طبعاً، ولكن ما يملكه حقاً هو الألم في ذاكرته وعجزه عن فهم نفسه. يستيقظ أحياناً وهو يتصبب عرقاً، متخيلاً أنفاس الجندي الغليظ على عنقه، أو صراخ زوجة أبيه المتألمة، وهم يتركونها لموتها ويهربون مع بقية إخوته، أو وجه والده الذي عاد من السجن بعد سنوات وهو يُكَلم نفسه. أحياناً يتخيل لحظاتها الأخيرة وهي تنازع الموت، وحيدة في كوخهم الطيني، ويفقد عندها لأيام طويلة صوته. سيشيخ صامتاً، متناسياً، مبتسماً ككل الآخرين فيما بعد، وسيجيب على أسئلتي حين أصادفه بسؤال آخر: هل يمكن أن أتذكر كل ذلك دون أن أبكي؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image