شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
أخبرتني العرّافة أني سوف أنتحر 54 مرة

أخبرتني العرّافة أني سوف أنتحر 54 مرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 2 سبتمبر 202311:44 ص


 


كان صباح الجمعة في عام 1995 عندما أرسلني ابن عمي لأشتري له إحدى المجلات الفنية التي تحرص على نشر صور الفنانات اللاتي يرتدين الفساتين المكشوفة والمايوهات البكيني، ليس لكي يقرأها، فهو ليس من هواة القراءة أو الكتابة، وكان خطه أشبه بالأثر والنقوش التي تتركها "الفراخ" خلفها وهي تركض بسرعة، ولكنه كان يقطع الصور ويعلقها على حائط غرفة نومه التي كادت تسقط فوق رأسه من شدة سخونة الملابس المكشوفة.

وقفت أمام بقالية "هارون" المواجه للمدرسة لأشتري لنفسي حلوى "العسلية"، كان بائع الصحف لم يأت بعد والساعة تقترب من التاسعة والنصف في يوم شديد البرودة، لم يمنع أهل القرية من الذهاب إلى أعمالهم التي تنحصر غالبيتها في العمل بالحقول والزرع.

جلست بجوار البقالة آكل الحلوى وأنتظر بائع المجلات الذي تأخر على غير العادة، نظرت ناحية اليسار، فجأة فوجدتها تأتي من أول شارع المدرسة، وهي تحمل فوق رأسها قفّة بها حفنة رمال وبعض الأصداف، وترتدي ملابس سوداء أشبه بالملابس البدوية، ويتدلى من رقبتها عقد يصل إلى أسفل صدرها، وتضع في أنفها حلق صغير وكأنها كان تتنبأ بـ "البيرسينج" الموجود الآن. هي العرّافة الغجرية التي لا أحد يعرف سوى اسمها، وهبطت على القرية وعرفها الناس بـ "أم السعد"، ولم نر أو نشاهد يوماً "السعد" ابنها.

جلست ووزعت أصدافها بطريقة منظمة، قالت بصوتها الجهوري: "أوشوش الودع وأشوف المستخبي"، وهي تنتظر "الزبون" الذي سوف "يرمي بياضه"، أي يدفع لها بعض النقود قبل أن "يوشوش الودَع"... مجاز

اقتربت من بقالية هارون، ولكنها اختارت أن تجلس بجانب المدرسة، تنشر الجهل بجوار العلم ولا يفصل بينهما سوى سور المدرسة، كانت ضاربة الودَع تستغلّ ميل الناس إلى معرفة ما يخبئه القدر، تلعب على وتر "الفضول" الذي يقتل البعض في معرفة مستقبله أو الأشياء التي ينتظر حدوثها.

ذاع صيت أم السعد فترة في القرية عندما أخبرت السيد أبو عتمان عن مكان بقرته الوحيدة التي سرقها اللصوص، بعد فشل خفراء العمدة في الإتيان باللصوص مربوطين بحبال القش، كما أخبروا العمدة بثقة مفرطة، منحها حينها السيد أبو عتمان ثلاثين جنيهاً، لم تكن وقتها تحلم أن ترى ربع هذا المبلغ، ومن تلك الواقعة نالت العرّافة شهرة تضاهي شهرة العمدة، واعتلت قمة "الترند" فترة طويلة، في زمن ما قبل "الترند"، وباتت حديث أهل القرية الذي لا ينقطع.

بعد أن جلست ووزعت أصدافها بطريقة منظمة، قالت بصوتها الجهوري: "أوشوش الودع وأشوف المستخبي"، وهي تنتظر "الزبون" الذي سوف "يرمي بياضه"، أي يدفع لها بعض النقود قبل أن "يوشوش الودَع".

كان الفضول يقتلني في أن أذهب لها لتقرأ لي "الطالع"، ولكن ما الذي ينتظره طفل في العاشرة من عمره أسوأ من انتظار بائع المجلات المتأخر عن ميعاده نحو ساعتين؟ ملت برأسي قليلاً وشاهدت من فتحات الباب الحديدي عبارة "العلم نور والجهل الظلام" التي تزين حائط المدرسة بخط عريض، ولكنها لم تثنيني عن القيام لأتجه ناحية العرّافة التي تعرف "الكفت"، كما كانت تقول عنها زوجة السيد أبو عتمان، التي نصحت زوجها أن يذهب إليها ليعرف منها من الذي سرق البقرة الوحيدة التي تحلب ما لا تحلبه ثلاث بقرات من لبن.

وقفت أمامها للتسلية ولإضاعة بعض الوقت لحين وصول بائع المجلات، جلست أمامها وطلبت منها أن تضرب لي الودَع، وقبل أن تنطق رميت لها جنيهاً كاملاً وهو مصروف أسبوع أذهب به للمدرسة.

نظرت بعينها الواسعة التي بداخلها جبال من الكحل لا تفنيها المراود، وبدأت تحرك الأصداف فوق الرمال الموجودة في "قعر القفة"، وأمسكت إحداها وقالت: "وشوش الودَع، قول أي حاجة نفسك فيها أو عاوزها". تمتمت بكلمات غير مفهومة وبصوت منخفض يخرج بالكاد وأنا أحرك شفتي، ثم أخذت الصدفة مني ووضعتها بجوار باقي الأصداف، وسألتني عن اسم أمي فأخبرتها به، فجأة تغيّر وجهها وعرفت من ملامحها أن مستقبلي على حافة الخطر.

شعرت الغجرية بخوفي، فأرادت أن تطمئني في البداية، وقالت: "تنتظرك حبيبة ولكنها في علم الغيب ولم تولد بعد. سوف تتزوجها عندما تقترب من الأربعين. هي فتاة جميلة لا توجد فتاة مثلها في القرية"، وقبل أن أبتسم، أطبقت جبينها وقالت: "ولكنك سوف تنتحر أربعاً وخمسين مرة، وفي كل مرة ستفشل تلك المحاولات".

كانت كلماتها مثل الخنجر الذي اخترق قلبي، وتركتها وأنا أمضي نحو بيتنا، أجرّ أذيال الخيبة وأشعر بـ "دوخة" وكأني أنا من أدور حول الأرض، لأخالف ما قاله لنا مدرس الجغرافيا.

قالت: "تنتظرك حبيبة ولكنها في علم الغيب ولم تولد بعد. سوف تتزوجها عندما تقترب من الأربعين. هي فتاة جميلة لا توجد فتاة مثلها في القرية"، وقبل أن أبتسم، أطبقت جبينها وقالت: "ولكنك سوف تنتحر أربعاً وخمسين مرة، وفي كل مرة ستفشل تلك المحاولات"... مجاز

ما إن وصلت إلى بيتنا، حتى وجدت ابن عمي ينتظرني أمام منزله، يجلس في الشمس لتمنحه بعض الدفء لكي يتغلب على برودة الطقس. قال بصوت عال بلهجة أهل الصعيد: "اتأخرت ليه وفين المجلة". فقلت: "أم السعد قالتلي هنتحر 54 مرة يابن الـ..."، لفظ قد يغضب عمي، فضحك وقال: "يارب النبوءة تتحقق".

مرت الأيام، وصوت ضاربة الودَع يدوي في أذني، وكلما قلت إن الغيب لا يعلمه إلا الله، أتذكر قدراتها التي لا يشكك فيها أهل القرية، والسيد أبو عتمان، وهو أكثرهم تصديقا لنبوءاتها بعدما ساعدته في معرفة سارقي البقرة.

ومرت السنين، ولم تتحقق نبوءة العرّافة، ولم أحاول الانتحار 54 مرة مثلما ادعت، وجعلتني أعيش أياماً بلون السواد لفترة طويلة، وأنا أرتعد من كل موقف يحدث لي أو خيبة أمل وانتكاسة تقابلني في حياتي، وخوفاً من أن أضعف وأفكر في الانتحار. عرفت فيما بعد أنها لم تمكث كثيراً في القرية، وطردها العمدة بوشاية من أحد المدرسين الملتحين بأن تنبؤاتها سوف تحدث فتنة بين الناس، ويصبح مستقبلهم ومصيرهم معلقاً بين أصابع يدها التي تحرك بهما الأصداف الموجودة فوق حفنة الرمال.

تذكرت كلام العرّافة الآن بعد مرور ما يقرب من 27 عاماً على لقائي الأول والأخير بها، عندما أحببت فتاة جميلة لا يوجد مثلها في القرية، كما أخبرتني، وأتمنى أن أتزوجها وتصدق نبوءتها تلك المرة، ولو لا أن أخبرتني حينها العرّافة بكلامها الصادم بأني سوف أنتحر 54 مرة وجعلتني أمشي بسرعة وأتركها، لكنت سألتها هل تعرف متى يفوز نادي الزمالك على الأهلي ويحصل منه على بطولة الدوري؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image