شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لا تضربني، سأعترفُ وحدي بكلِّ شيء

لا تضربني، سأعترفُ وحدي بكلِّ شيء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 2 سبتمبر 202312:40 م



عندما قُبض عليَّ، أخذوني إلى مبنى أمن الدولة، دخلتُ غرفةً واسعةً بحجمِ قريتي، لا نوافذ فيها وشبه مظلمة، رائحتها عرقٌ ودخانٌ، مقسَّمة إلى مربعاتٍ للتعذيبِ، كلُّ فردٍ في مربعٍ، هؤلاء الذين يصرخون وينظرون نحوي بفزعٍ أعرف سحنتهم، حتى لو تغيرت بفعل التعذيب، إنِّهم من أهل قريتي ومن سكان المدينة التي أذهب إليها أحياناً لشراء الكتبِ. بائع الكتب، يا إلهي! إنِّهم يقلعون أظافره، وعم محمد بائع البخت؛ يجلدون ظهره، وصديقتي المدلّلة يحلقون شعرها.

مفاصلي سابت وتخلخلت، جرّوني جراً حتى وصلت للمربع المخصص لتعذيبي. لا أذكر كيف صلبوا عودي وقوَّموا أطرافي المرتعشة، كلّ ما أذكره أنِّي أخذتُ أصرخ: "هاعترف بكل حاجة يا باشا، هأقول على كل اللي أنتم عايزينه، بس والنبي ما حد يلمسني والنبي".  أقول ذلك بتوسّلٍ وأنا أعصر دماغي وأبحث عن أي شيءٍ يمكن أن أعترف به، أي خطأ أو جريمة ارتكبتها (يا رب أكون ارتكبت جريمة يا رب) أبحث، ولا أجد. لابدَّ أن أعترف والسَّلام، المهم أن أجد ما يمكن أن أعترف به، فأنا في الحقيقةِ لم أفعل شيئاً ولا أعرف شيئاً سوى قريتي الخضراء وأهلها "الغلابة" ومجموعة شعراء على فيسبوك "غلابة" أيضاً، وأعرف المدينة التي فيها جامعتي وبائع الكتب.

لكني على استعداد للاعتراف بأي شيءٍ يُطلب مني، أي شيءٍ يحول بيني وبين التعذيب.

مفاصلي سابت وتخلخلت، جرّوني جراً حتى وصلت للمربع المخصص لتعذيبي. لا أذكر كيف صلبوا عودي وقوَّموا أطرافي المرتعشة، كلّ ما أذكره أنِّي أخذتُ أصرخ: "هاعترف بكل حاجة يا باشا، هأقول على كل اللي أنتم عايزينه، بس والنبي ما حد يلمسني والنبي"... مجاز

هذا الحُلم الذي حلمت به منذ سنواتٍ، وقمتُ فزعةً من النومِ والعرق يتصبّب من جسدي، كان حقيقياً أكثر من حقيقة الواقع نفسه، لا أنسى تفصيلة منه مهما فصلتني عنه مخاوف أخرى أو أحلام أكثر فزعاً، أتذكرُ أنِّي في الأيامِ التي أعقبت ذاك الحُلم كنتُ أفرح كلما قابلتُ أحد الأشخاص الذين رأيتهم هناك، وكانوا يبولون على أنفسهم من شدة الخوف والألم، أسلّم عليه وأشد على يده بسعادةٍ بالغة قائلة: "الحمد لله أنك بخير"، لولا الملام لأخذته في حضني وبكيت، كنت أحياناً أهِمُّ أن أتحدث مع أحدهم لأسأله عن شخصٍ ما كان معنا، لأطمئن هل خرج مثلنا أيضاً أم لا، فأتذكر أنَّه مجرد حلم، وسيحزن الشخص حين يعرف حقيقته تحت تأثير الخوف، والتي لم يختبرها بعد. ظل هذا الحُلم سرّي وسرّهم، "سترنا وغطانا".

للأمانة، تُرعبني واقعيَّة هذا الحُلم، وترعبني أكثر فكرة الخوف نفسه الذي جعلني أعترف بأشياءٍ لم أفعلها، عندما قصصتُ هذا على صديقي؛ أخبرني أن تصرفي في الحُلم تصرف سليم، وأنها مخاوف طبيعية تحدث لأي انسان طبيعي، من أجل ذلك يتم إجراء دراسات جادة ومهمة على مستوى الدول وأجهزة المخابرات، للربط بين حجم التعذيب والمعلومات التي يتم الحصول عليها، وأن هناك اتجاهاً للتقليل من التعذيب الذي يدفع الأشخاص للاعتراف بأشياء لم يفعلوها أو الادلاء بمعلومات غير صحيحة، فتكون النتيجة أن تبني الأجهزة الاستخباراتيَّة قاعدة بيانات من معلوماتٍ كثيرةٍ مغلوطة، وهذا يضر الدول. أنا لا أريدُ أن أضرّ الدولة أو الوطن يا الله، ولا أظن من رأيتهم في الحُلم يفعلون... إنَّه الخوف ابن الكلب من يفعل.

ابن الكلب! على سيرة الخوف والكلب؛ تذكرتُ الآن قصة حدثت لي ذات يوم كنت مريضة، وكان لابدَّ أن أخذ حقنة في الصيدلية ولم يكن بالبيت سوى أختي الصغيرة التي خرجت معي، ولحظّنا الحلو انقطعت الكهرباء العموميَّة في منتصفِ الطريق، وليس معنا كشاف أو تليفون، لكن القمر كان ينير الشَّارع بشكلٍ يسهل السير ويميز الأشخاص والأشياء، فقلت لها بجديَّة تناسب السُكوت والاضاءة الخافتة للقمر والخوف اللطيف الذي بدأ يتخللني، إذ إن الكلاب تشم رائحة خوفي وتترك جميع من في الشارع وتجري ورائي: "يا خبر هنعمل ايه، أنا لا باعرف أصوت ولا أضرب وأنت كمان". لم انتهِ من كلامي، حتى مرّ رجل يقود دراجة من جانبنا فأحدثت حركة دراجته السريعة مع الريح صوتاً أيقظ الكلاب النائمة لتنبح بصوتٍ عالٍ، فلم أدرِ بنفسي إلا وأنا "متشعلقة" في رقبة أختي أرقع بالصوت الحي: "إلحقونا".

كيف خرج الصراخ، وكيف تعلقت برقبة أختي التي كانت "فطسانة" على روحها من الضحكِ لا أعرف. نزل الرجل من على دراجته وهو لا يفهم ماذا يحدث، ضرب الكلاب بالطوب لإسكاتها، وهو يقول: "فيه ايه يا بنتي، بتصوتي ليه؟ احنا في عز الضهر الأحمر"، وسار أمامنا حتى باب الصيدلية، اعتذرت له بالطبع وأنا في "نص هدومي من الكسوف".

يقولون "من خاف سِلم"، الخوف في قاموس العامة يعني السلام، الحب الكبير والضحك الكثير يشعراني بالخوف. ولأنَّي أريدُ السَّلامة؛ كلما غلبني الحب أو الضحك أضع يدي على قلبي وأردّد: "اللهم اجعله خير".

الخوف له أوجه عديدة، وجه ضاحك وساخر ووجه باكي، ووجه متجمّد وصامت؛ علمني الخوف من فقدان الأحبة أن أحبهم بشكلٍ أقل، درّبني كيف أتبلّد وتتجمّد مشاعري عند فقدانهم بالفعل، كانت أختي أول تجربة للفقد عندي والتي علمتني للمرات التالية بعدها، رحلت في الثلاثين من عمرها؛ كانت بنت موت، فعلتْ كل ما يمكن أنْ يفعلهُ انسان حتى سنِ الشَّيخوخة وماتت.

حين وصلني الخبر؛ لم أبكِ. بدا لي حينها أنَّ فعلَ البُكاء فعل هشّ وتافه حيال ثقل هذا الفقد الذى يعصر قلبي. الجميع يبكون بحرارةٍ تُلين الصخر ويعدّدون -فقد ماتت بنتهم صغيرة- وأنا أجلس بينهم صامتة بدموعٍ جافة وعيون شاردة. أحسست فقط حين حملوها على الخشبة أن شجرة عملاقة تقتلع من جذورها في قلبي، وتسير خلف النعش والجنازة.

بدا لي حينها أنَّ فعلَ البُكاء فعل هشّ وتافه حيال ثقل هذا الفقد الذى يعصر قلبي. أحسست فقط حين حملوها على الخشبة أن شجرة عملاقة تقتلع من جذورها في قلبي، وتسير خلف النعش والجنازة... مجاز

لم أعدْ أبكي بعدها حين يموت أيُّ إنسانٍ، بالرَّغم من أنَّي شخص "عيوط" أبكي بغزارةٍ دون سببٍ، إلَّا عند الموت، أصبحتْ تجفُّ عينايَ بشكلٍ يثيرُ الشفقةِ عليَّ ممنْ حولي، أذكر عندما مات أبي في الصباح الباكر بعدها، لم أبكِ مع أمي وأخوتي، تركتهم في نحيبهم، وارتديت ملابسي السَّوداء وجلست أمام البيت أستقبل المعزّين. بين حين وأخر تفرّ دمعة يتيمة، خنقها كثافة الحزن وثقله بالداخل. الكلُّ بات يعرفُ طريقة حزني الجافة والصَّامتة على الموتى. لكنهم لا يعرفون أن الخوف قد علّمني وأخذ مجاله بي وسكنني؛ حتى ميّع الموت وأفقدهُ هيبته، ليصير فعلاً حتمي الحدوث في أي وقتٍ، وعادياً.

لن أتكلم عن تفكيري في الشخص الواقف خلفي دائماً، فقد مضى زمن طويل على هذا ولم يحدث شيء؛ إنني كلما وقفت على سجادة الصلاة لأصلي أو على حوض غسيل الأطباق في المطبخ وخلف ظهري غرف البيت وأعوام عمري، أشعر به يمسك شيئاً حاداً في يده، ينتظر لحظة سجودي أو انشغالي بطهي الطعام ليضربني على رأسي، دائماً تأتي ضربته من الخلف، حين ألتفت ورائي يختفي ابن الجبانة، ويعود كالحرباية من جديد، لا يبتعد عني أو يملّ. أنا لا أخشاه، كل ما في الأمر أني أخاف أن أموت منه ذات مرّة بالفعل ولا يعرف أحد من القاتل، أنا نفسي لا أعرفه، ربما كان الشيطان أو العفريت أسفل السرير أو الشبح الغامض الذي يطاردني في الحلم واليقظة، الخوف أن ينجو بفعلته، وأموت فطيس.  

كل الأمور في حضرة الخوف مبهمة، المضحك في الأمر أن للخوف مواسم عندي، ينتابني الخوف في وقت معين من أشخاص معينين قد لا أخافهم في وقت آخر، شكلهم وسحنتهم التي تبدو غير مريحة وشريرة في موسم الخوف قد تبدو طيبة وودودة في موسمٍ آخر، مرة مثلاً ركبتُ السوزوكي مع سائق أركب معه عادةً لكني في هذه المرة – دوناً عن كل المرات- لاحظتُ أن ملامحه تشبه تُجار المواشي، بشنبٍ كثيفٍ وملامحٍ كبيرةٍ، كيف لم ألاحظ هذا من قبل! كنتُ أنا الراكبةُ الوحيدة في عربةٍ حمولتها 7 أفراد، وبالنظر للمقعد الخلفي وجدت ملاءة قديمة وبها بقع دم متربة ملقاة في أرضية العربة، المخيف أكثر أنه وقف في الطريق وركب شخص آخر بجانبه، كان يتحدّث في الهاتف طوال الطريق، "وعينك ما تشوف إلا النور لعب الفأر في عبي لعب السنين".

هناك عملية تدبّر الآن لخطفي ولفّي في هذه الملاءة الوسخة، سيتم تقطيع أعضائي ووضعها في ثلاجة لا تقل وساخة عن هذه الملاءة. "سلامتك يا أعضائي"... أفكر في هذا كله مع أن الراكب قد نزل، وأوصلني السائق إلى المكان الذي أريده، أدفع له الأجرة وأنا في حالة امتنانٍ وشكرٍ أنَّه راجع ضميره، ولم يخطفني. عادت للرجلِ ملامحه الطيبة بمجرّد أن تحرّك وانتهى الموقف.

أحلامي مهمة، مثلها مثل واقعي تماماً، حين رأيتُ حلم "الخوف والكلب" لم أكن قبله تحت تأثير مشاهدة فيلم ما، أو سماع قصة لمعتقلٍ في أمن الدولة، أو قراءة رواية تتحدث عن الأمر، لقد كان حلمي الخاص الذي قادني إليه عقلي، ولم أغادره من وقتها.

أعيشُ حياتي بشكلٍ طبيعي وأبدو امرأةً قويةً وذكيةً، لكن أحياناً يأتي هذا الشُّعور "العَيِّل"؛ الذي يجعلني أقفز في الليلِ مسافة مترٍ، لأصل للسريرِ، دون أنْ يمسك رجلي العفريت المختبئ تحتهُ... مجاز 

في الحقيقة ليس هذا الحلم فقط الذي يتجسّد فيه خوفي من أشياء لا أعرفها ولا أعرف سبب الخوف منها، فأنا لم أدخل حتى قسم شرطة أو أضبط بأي مخالفة ما في أي مكان حكومي، ولا تشغلني السياسة ولا أحب متابعة أخبارها أو التحدث فيها، فلماذا تقودني أحلامي إلى مبنى أمن الدولة؟! لماذا كلما دخلت الحلم أظل أجري وأهرب داخله؟ مم أهرب؟ ما أهرب منه غير محدّد المعالم والمقاصد، ومع ذلك أكون في حالةِ هروبٍ مستمرةٍ، تنسيني في النهاية طريق البيت، ينتهي الحلم دون أن أعثر عليه، لماذا يحدث ذلك وأنا شخصٌ مستقرٌ اجتماعياً؟

قد يبدو للقارئ أنَّه أمام شخصية خوّافة في الواقع والحلم، لكني امرأة شجاعة قرّرت أن تفتش داخل خوفها، وتكتبهُ بكل تجرّدٍ دون تغييرٍ أو تزويق، أنا أيضاً تفاجأت بكمية المخاوف هذه حين وضعتها بجانب بعضها البعض، بدت كثيرة ومخيفة وضخمة، تغطي حياتي بالكامل، فأين هو الوقت الذي أكون فيه امرأة عادية تظهر بهذه الصورة القوية والمتماسكة نوعاً ما، المتصدّرة طوال الوقت لنفسي وللجميع!

أظن أنَّه التعود والتعايش مع تلك المخاوف جعل منها مخاوف صديقة، تمر فأضحك حين تنتهي، أحياناً أحكي بفخرٍ أنِّي تجاوزتها وانتصرت عليها. بعد أعوامٍ من الفقد أبكي بحرقةٍ وغزارة على الشَّخص الذي رحل وأمنحه حقه كاملاً في الحزن والدموع والصراخ، وأرد للموت هيبته وجلاله الذي كان يجب أن يكون عليه في تلك اللحظة وأهنت كرامته، فتبرد ناره، ويمهل أحبتي وقتاً إضافياً كي أشبع منهم قبل أن يعاود الكرة ويخطف أحداً منهم.

أعيشُ حياتي بشكلٍ طبيعي وأبدو امرأةً قويةً وذكيةً، لكن أحياناً يأتي هذا الشُّعور "العَيِّل"؛ الذي يجعلني أقفز في الليلِ مسافة مترٍ، لأصل للسريرِ، دون أنْ يمسك رجلي العفريت المختبئ تحتهُ. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image