1
أفتحُ عينيّ صوب أسفل الكنبة حيث كنتُ نائماً وأرى الساعة على شاشة الموبايل. إنها الثانية صباحاً. مضى على غفوتي أربع ساعات في صالة البيت الطرابلسي الذي يأويني بالمجّان. لم تكن غرفتي جاهزةً لاستقبال البشر. لا يعترف التعب بالترف، فنمتُ كيفما اتفق، أستجلبُ سلسلةً من الأحلام المتقطعة حتى الساعة الخامسة من ذات الصباح. وفي كل وقفة ما بين حلمين، استذكرتُ يومي حين سافرتُ من "البيضاء" إلى العاصمة. ثلاثة أشهر مضت على مغادرتي طرابلس، ومن بين الرحلات الست التي طرتُ فيها داخل البلاد، كانت هذه الوحيدة الحاصلة في نهاية الأسبوع.
طرتُ إلى طرابلس لأنجز أشياءً من ضمنها زيارة عمي الذي اختُطِفَ سلفاً في العاصمة لخمسة أيام. كنتُ أترقب مغادرته العاصمة، عائداً إلى مسقط الرأس. فمنذ تحرّره من قبضة مختطفيه، كان عمي يعد عدّة العودة إلى البيضاء، منتظراً الفرصة لأسابيع. فشلت مساعيه حتى نجح في اليوم الذي قدمتُ فيه إلى العاصمة.
ولئن صارت كل نهاية أسبوع كباقي أيامه، فلم تختلف استجابة جسدي للمطارات الليبية، حيثما تقبع محنة الرواقي الصغير في باطني. يبقى المهم: عمي الآن سالماً في مدينتنا الهادئة والمملة – هذا لا يعني أن طرابلس مهد البهجة. أحياناً، نعانق مفهوم الأخذ والعطاء.
كنتُ أتحوّل إلى نسخة ليبية من شخصية تايرون سلثروب، بطل رواية Gravity's Rainbow لتوماس بينشون. ففي كل مرة يضاجع تايرون امرأة، يضرب صاروخ ما منطقة المضاجعة بعد مغادرته... مجاز
2
ثمة نوعان من البشر، من يؤمن بأنه ثمة نوعان من البشر، ومن لا يؤمن بذلك. أتجاهلُ هذه المغالطة، وأقول إني منتمٍ إلى المجموعة الثانية. لأفراد المجموعة الأولى حرية تقسيم البشر لأكثر من نوعين، بطبائع الأحوال. وبالنظر إلى تصنفيهم، أتساءل: إلى أي نوع أنتمي؟
أعود إلى طرابلس لأستأنف دراستي في الجامعة. والآن أغادرها مؤقتاً مجدّداً متأخراً. أتأخر عن حضور زفاف عمي الآخر، زفافٌ اختزلتُ من أجله ترجمةً مربحةً.
إن سوء الحظ "العمّي" هذا غيضٌ من فيضٍ. بيد أن هذه السيرة لم تشوبها المرارة، والسبب لا يكمن في إيمان غليظ (أن نكون شاكرين لأننا أقل بؤساً)، بل يكمن في روحٍ تهوى الاستكشاف والجمال ولا تستهين بمعاناة الآخر.
منذ استيطاني في طرابلس في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، غادرتها ثلاث مرات ونصف، فلم أرحل بعد لأتمّم المرة الرابعة. لم يكن رحيلي الأول بارزاً في الذاكرة. في الرحيل الثاني، غرقت المدينة في اليوم التالي وغطت المياه "ميدان الشهداء"، ووفقاً للأخبار المحلية، هلكت أسرة بالكامل وهي حبيسة السيارة.
في المرة الثالثة، سمعتُ قصفاً مدوياً وأنا في الطريق إلى المطار لأعود إلى الدار البيضاء. ستُصبح هذه الأصوات نذيراً يُقفِل المطار إلى يومنا هذا. وفي المرة الرابعة المزعومة، أُلغيَت الرحلة لأن اثنين من أفراد شركة الطيران اغتيلوا في الهجوم على فندق "كورنثيا" في اليوم ذاته، فحجزتُ رحلةً في اليوم التالي ولم أحضر زفاف عمّي. وبالتالي أبرّر قولي "ثلاث مرات ونصف".
يا لها من مقاربة بليدة لمآسٍ تتجلى على التوالي! كنت قد انتهجتُ شخصنة المآسي الوطنية لأضمها إلى حس دعابةٍ من شأنه أن يضفي شيئاً من هجاءٍ. فحين يتعلق الأمر بطرابلس، بدا الأمر أني كنتُ أتحوّل إلى نسخة ليبية من شخصية تايرون سلثروب، بطل رواية Gravity's Rainbow لتوماس بينشون. ففي كل مرة يضاجع تايرون امرأة، يضرب صاروخ ما منطقة المضاجعة بعد مغادرته. لم أضاجع أحداً في كورنثيا أو مطار طرابلس، لكن التفاسير الغنوصية للمآسي تظل جاذبةً، برغم سخافتها.
أرى في رحيلي الرابع المحتَمَل بداية النهاية لما قد نعرّفه بحياة مدنية في طرابلس لهذا العقد، فقبل أن تصير مدينة الأشباح التي نراها الآن، شهدت بنغازي الهجمات ذاتها.
اليوم مبكراً، فكرتُ إزاء المرحلة الثالثة من مسيرتي عامةً. إنها المرحلة الأخيرة، وجودياً على الأقل، حيث أستجمع ما بقي لي من أنفاس على هذه الأرض التي لا ما مناص من العيش فيها. ودّعتُ حينها بحر "قرقارش" كريه الرائحة، أحد واجهات طرابلس الساحلية، وهي منطقة تضم حي "الأندلس"، حيث اشتغلتُ لبرهةٍ. كانت تلوح في الأفق طائرة ورقية، وكأنها برفرفتها تعزز كليشيه الرحيل.
وبما أن اسم المكان حي "الأندلس"، استرقت الكليشيهات معنًى متعالياً، حيث "زفَر محمد الثاني عشر، حاكم غرناطة العربي الأخير. على أني، ويا لهول الصدف، لستُ من محبّي الملوك ولا الكولونيالية، دع عنك القومية (على الرغم من توفر الحجج الوافية التي لا تربط الأندلس بهذه الأيديولوجيات). أستطيع فقط أن أشير إلى تايرون سلثروب. سيصير مصيرانا مختلفيْن، علاوة على اختلاف شخصيتيْنا وأمزجتنا.
3
بمكبرات صوتها الصاخبة واكتظاظها، تتبنى حافلة الركوب العام في طرابلس صورة النادي الليلي المتنقل. إنما فضلاً عن الاختلافات الهندسية، تفتقر عربة الإيفيكو هذه إلى الجوهري في النادي، فالراكبون هنا لا يرقصون؛ إنهم منهكون ويعانون من نقص الأورجازم.
أثمّنُ علاقتي بهذه الباصات لأنها مكتبتي المتنقلة. أحبّذ اللجوء إلى مقعد الباص مع كتابٍ لقرابة نصف الساعة بين الناس. في مسقط رأسي، تختلف تجربة الحافلة لكنها قصة أخرى. العامل المشترك هو حضور الناس بأطيافهم وأمزجتهم، ولسوف تسيّر فردانيّتي قربي من الجماعات الصغيرة، بعكس انتمائي إلى المجتمع في صورته الشمولية.
هذا خميسٌ تأمّلي بامتياز. فقد ساقتني هذه التوافه الذهنية – انطباعاتي عن ثقافتيْ الحافلتيْن في المدينتيْن – إلى التفكّر في صلتي المتوترة بالبلد وأحواله. فلطالما كانت ليبيا هي من أحبهم من العائلة، وأصدقائي الأقربين، وما أحبه من ثقافتها ونكتها، وطفولتي. البلد نفسه محطة قطار، ينفعك الانتظار فيه لتتقوى وتتعلم، شرط ألّا يدوم انتظارنا هذا لأكثر من خمسة عشر سنة.
أبتهجُ بفعل الخير بلا وصفة أيديولوجية. واجهتُ الشر ومقتّهُ. أذكرُ في إحدى حِقب التنمر أني لكمتُ طفلاً، فنظر إليّ بأنف دامٍ وعجز شامل، وهو ينتظر مزيداً من التعنيف. صحيحٌ أنيّ كنتُ طفلاً أيضاً، لكنني ولوهلة، صرتُ إلهاً... مجاز
بعضٌ ممّن اعتراهم هذا الاغتراب رأوا في الكره مولّداً لأفكارهم؛ كرههم للإسلام وللشعب. ليس سهلاً أن نحمّل على أنفسنا ثقلاً أخلاقياً، بل سهلٌ جر هذا الثقل إلى الموعظة والصوابية.
لم أعِ حينها أهمية أبي حيان التوحيدي الفكرية في مستقبلي القريب. أهمية من شأنها أن تبلور دفائن مراهقتي وتصيغها في بنيان مرصوص. بطبائع الأحوال، لا أفهم التوحيدي تماماً، ففاهموه لا يتورطون في تأملات متوسطة الثقافة، وهي المعنية هنا بتسطيحٍ لمفهوم الهوية.
*****
سئلتُ مرة لما أبدو أكبر مما كنت منذ ثلاثة أشهر. كانت المرة الأولى التي كُسِرت فيها شفرة اكتهالي. أطلقُ عليه "الاكتهال الربعي"، فإذ نلاحظ غالباً تقدم الناس في السن كل سنة، نلاحظه في وجهي كل ثلاثة أشهر. إنها ثمار التسويات وطمر الطاقات.
ما يهم في تعميري السريع هذا، معارضتي أن أكون "فخوراً" بأي شيء، أو أن أكون شاكراً لنعمة الأكل والشرب والمسكن. لا شيء يحتقر الفقراء أكثر من أن تكون شاكراً أنك لست فقيراً.
أبتهجُ بفعل الخير بلا وصفة أيديولوجية. واجهتُ الشر ومقتّهُ. أذكرُ في إحدى حِقب التنمر أني لكمتُ طفلاً، فنظر إليّ بأنف دامٍ وعجز شامل، وهو ينتظر مزيداً من التعنيف. صحيحٌ أنيّ كنتُ طفلاً أيضاً، لكنني ولوهلة، صرتُ إلهاً. في أثناء هذه السلطة العارمة، يصرخ باطني أن أحضن الفتى وأعتذر. لكن للسلطة جمهورها، فحضنتُ الشر مؤقتاً وللمرة الأخيرة.
أبتهجُ أيضاً أنّي لم أعمم تجربتي في مانفستو؛ فبجانب مخاطر إقامة الحد، يلوح في الأفق خطر أعظم: إثقال القارئ في غياب إمتاعٍ ومؤانسة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...