شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الأهوار العراقية بين إهمال الدولة وأطماع الجيران... إلى متى تقاوم؟

الأهوار العراقية بين إهمال الدولة وأطماع الجيران... إلى متى تقاوم؟

منذ سنوات والناشطون البيئيون يحذّرون من كارثة بيئية ستضرب الأهوار العراقية، عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فيسبوك وإنستغرام على وجه الخصوص. صور الجفاف الذي حل فيها، والناتج عن قطع الماء عنها عمداً، تملأ المواقع الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي. تحولت تلك الجنان، إلى صحارى قاحلة، بسبب انخفاض مناسيب الماء في نهري دجلة والفرات، لخفض تركيا كمية الإطلاقات المائية إليهما. لا تتوقف الأسباب على تركيا فقط، إذ إن الأنهار المتدفقة من إيران إلى العراق قُطعت أيضاً أو حُوّلت مساراتها مثل نهر الوند، والكارون، والزاب الصغير، ودويريج، والطيب، والكرخة وغيرها من الأنهار.

الإستراتيجية الإيرانية لا تختلف عن غريمتها التركية، سوى في أن الجغرافيا التي عدّتها في ما سبق من أهم العوائق أمام توغلها داخل الأراضي العراقية (خاصةً خلال الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي)، ها هي تتحول يوماً بعد يوم إلى أرض جرداء، تهرّب من خلالها الكثير مما لا يُنقل بصورة قانونية من بضائعها المعرّضة للعقوبات الأمريكية إلى الأسواق العراقية، والسورية، واللبنانية.

نظام بيئي يختفي

"لا تقتصر أهمية الأهوار على كونها من الأنظمة البيئية المهمة في العالم، لما تمتلكه من تنوع أحيائي فريد من نوعه، فهذه البقعة المهمة تحمل إرثاً إنسانياً كبيراً، وهي شاهد على تجليات الحضارة الإنسانية، فأرض الأهوار تحتوي على ما يقارب من 250 تلاً أثرياً تعود لعصور متباينة في قدمها منها تل الرباب وأبو شعيب وجرباسي والجلعة والحمر ومجبل وأبو حديدة والحد والعين وحالب الهوي وحمود والشويعرية وأم الودع، وقد اكتسب موضوع الأهوار أهميةً كبيرةً لا سيما بعد ترشيحها للانضمام إلى "لائحة التراث العالمي" في اليونيسكو، كما يشير كتاب بعنوان "أهوار العراق ثلاث دراسات في البيئة والحيوان والسياحة"، صادر من مركز الرافدين للحوار، شارك فيه كل من عبد علي الخفاف، حسين عليوي الزيادي وخالد كاطع الفرطوسي.

لا تقتصر أهمية الأهوار على كونها من الأنظمة البيئية المهمة في العالم، لما تمتلكه من تنوع أحيائي فريد من نوعه، فهذه البقعة المهمة تحمل إرثاً إنسانياً كبيراً، فماذا نعرف عنها؟

ويضم جنوب العراق ثلاثة أهوار رئيسية هي هور الحويزة على الحدود الإيرانية، وهور الحمّار في الوسط، وأهوار الفرات التي تمتد في شمال البصرة وغربها وجنوب منطقة العمارة. أطلق عليها العرب الأوائل اسم "البطائح"، جمع بطيحة، لأن المياه تبطحت فيها، أي سالت واتسعت في الأرض، ويشير كثر إلى أنها هي نفسها "جنات عدن" المذكورة في التوراة.

في 17 تموز/ يوليو 2016 وافق اليونسكو على وضع الأهوار ضمن لائحة التراث العالمي كمحمية طبيعية دولية بالإضافة إلى المدن الأثرية القديمة الموجودة بالقرب منها، مثل أور وإريدو والوركاء.

اهتمّ الباحثون والجيولوجيون والمتخصصون، بمسألة نشوء الأهوار، وظهرت نظريات مختلفة لتفسير نشوئها، من هذه النظريات ما جاء به الباحثان البريطانيان ليز وفالكون (Lees and Falcon)، عام 1952، وسُمّي بنظرية البناء التكتوني، الناتج عن حصول عمليتين هما الخسف والحلول أو البناء. وما يؤيد صحة هذه النظرية أنه لو لم يحصل الأمر على هذه الشاكلة التي أشار إليها أصحاب النظرية، لانطمرت الأهوار الحالية، ولغيّر نهرا دجلة والفرات مجريَيهما كل عام. ولكن ما يُشكل على هذه النظرية، وجود بقايا مدن عامرة في الأهوار يسميها السكان المحليون "الأشن" (جمع إيشان). فبعد التجفيف برزت بقايا المدن تلك، مما يدل على أن المنطقة كانت أرضاً قاحلةً، ووجد الآثاريون بقايا للقصب والبردي الذي ينمو في الأهوار، تعود إلى أكثر من 4000 سنة.

الأهوار في جنوب العراق شهدت تذبذباً كبيراً في مساحتها المائية لأسباب تتعلق بانخفاض الواردات المائية إليها والمتحصلة من نهرَي دجلة والفرات.

ففي عام 1973، بلغت مساحة الأهوار 19،788 كم2. أما عام 1991، فقد بلغت 10،453 كم2. في عام 2003، بلغت 11،455 كم2، وفي عام 2016، بلغت 6،852 كم2. وعليه تكون المساحة المفقودة بين عامي 1973 و1991، 9،335 كم2. وأما المفقودة بين عامي 1973 و2016، فـ12،936 كم2. بمعنى آخر، الأهوار فقدت نحو ثلثي مساحتها خلال المدة من 1973 إلى 2016.

بعضٌ من تاريخ

يتحدث الناشط البيئي مرتضى السراي، إلى رصيف22، عن تاريخ الأهوار الاجتماعي، فيقول: "كانت الأهوار الخط الفاصل في حرب الثمانينيات بين العراق وإيران. ولكثرة تعرضها للقصف المستمر، اضطر الكثير من سكانها إلى مهاجرة أراضي أجدادهم والنزوح نحو المدن. فضلاً عن أنها كانت الملاذ الآمن لجميع المناهضين والمعارضين للنظام الدكتاتوري البعثي. وعليه دُمّر الكثير من مساحاتها وتم رصفها بالإسفلت، من دون أخذ الأثر البيئي المدمّر لهذا العمل في عين الاعتبار، فالحالة حالة حرب، والحرب تأكل الأخضر واليابس".

في سنة 1992، وبعد قمع ثوار الانتفاضة الشعبانية سنة 1991، وبكل الوسائل المتاحة، توجه النظام إلى عمق الجنوب العراقي المتمثل في الأهوار، ونفذ بحقه مجزرةً مثلما شملت الإنسان لم يسلم منها لا الحجر ولا الحيوان، وذلك عبر بناء السدود على الروافد المائية المغذية لها، ثم تسميم ما تبقّى من المياه في سبيل فرض طوق من الحصار عليها، يمنع أي محاولة مستقبلية أخرى للتمرد والعصيان.

بعد العام 2003، علّقت مجتمعات الأهوار الكثير من الآمال على السلطة الجديدة في بغداد لتقديم المساعدة في إعادة إنعاش مناطقهم، لكن ما الذي حصل وكيف تعاملت السلطة معهم؟

بعد العام 2003، علّقت مجتمعات الأهوار الكثير من الآمال على السلطة الجديدة في بغداد لتقديم المساعدة في إعادة إنعاش مناطقهم، إلا أن الوعود الزائفة ظلت تتكرر في كل حملة انتخابية، دون أن تشقّ طريقها إلى المنطقة المنكوبة.

جذور المشكلة

برزت جذور المشكلة المائية التي يعيشها العراق اليوم، بصورة واضحة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي مع إكمال ملء سد كيبان التركي بطاقة تخزينية تبلغ 30 مليار متر مكعب، وسد الطبقة السوري بواقع 12 مليار متر مكعب على نهر الفرات. تم ملء السدَّين في السنة نفسها، ما جعل نهر الفرات يجفّ في حينها. وعلى مر السنين كان تصريف الفرات المائي إلى العراق يبلغ 30 مليار متر مكعب، ولبناء طاقة تخزينية بلغت 42 مليار متر مكعب انخفض هذا المنسوب بواقع 9 مليارات متر مكعب لسنتين متتاليتين. ومن غير المعلوم أن بناء السدَّين كان من خلال التنسيق مع الدولة العراقية، مما أنذر بدخول العراق مرحلة فقدان "السيادة المائية"، هذا إذا كانت للعراق سيادة على الأنهار العابرة للحدود. وفي السياق نفسه، لم تنسّق تركيا مع العراق في بناء سد كيبان ولا في غيره من السدود.

ترى الحكومة التركيا أنها تمتلك حق السيادة المطلقة على مياه نهرَي دجلة والفرات، داخل أراضيها بوصفها من دول المنبع، ولأن النهرين يجريان في أراضيها لمسافة طويلة، دون مراعاة حقوق الدول "المتشاطئة" وبالأخص العراق. وهذه رؤية مبنية على أن نهرَي دجلة والفرات، لا تنطبق عليهما صفة النهر الدولي.

وعلى هذا الأساس توظف تركيا هذه الرؤية ليس فقط في التحكم بكمية المياه الواصلة إلى العراق، وإنما تريد أن تحدد نوعية المحاصيل الزراعية المزروعة فيه وكميتها. ومن خلال هذه الرؤية، توفّق بين المحاصيل التي تزرعها والمحاصيل التي لا يزرعها العراق، أو يقلل من زراعتها، وعلى رأسها الحنطة. بهذه المعادلة تبقي العراق بحاجة ماسة إليها. ثم زد على هذه المعادلة أنها ستفتح لها المزيد من أبواب النفوذ السياسي والاقتصادي.

القشة التي جففت هوراً

كانت لهور الحويزة حصة الأسد من هذا الدمار، كما يقول الناشط البيئي مصطفى هاشم: "السدة الترابية التي تم إنشاؤها بقرار تشغيلي في فترة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، كانت القشة التي جففت هور الحويزة بالكامل. مشروع هذه السدة يعود لسنة 2009، وقد رُفض في وقته من قبل المركز الوطني للأهوار بعد دراسة أثره البيئي، وكذلك من قبل وزير الموارد المائية الأسبق حسن الجنابي. كانت مديرة مركز إنعاش الأهوار، السيدة سميرة، خلال السنين الماضية، تقاتل من أجل عدم إنجاز بناء هذه السدة، ولذلك تم إبعادها من المركز".

يبلغ طول السدة 109 كيلومترات، وهي على مسافة 200 متر مقابل السدة الترابية الإيرانية، وتم إنشاء جسور عليها في حال ورود كميات من المياه من الجانب الإيراني. وكان تأمين الحدود من الأولويات الأساسية بالنسبة للحكومة من دون الأخذ في عين الاعتبار الأثر البيئي المدمر للسدّة.

تبقى المسألة المائية في العراق من أكثر المسائل التي تحتاج إلى خبير، له باع طويل في هذا المجال، وعليه توجهنا بالسؤال إلى المهندس جاسم الأسدي، الذي يقول: "الجانب التركي وهو الجانب المهم في المياه العراقية لأن 85%‏ من المياه القادمة إلى العراق تأتي من تركيا، التي لها 26 سدّاً على دجلة والفرات من أصل 580 سدّاً، كان آخرها 'سد اليسو' وهو سدّ للطاقة. ولكن السد الأكثر خطورة هو 'سد جزرة' الذي يبعد 25 كيلومتراً عن الحدود السورية، وهو سد روائي وسوف يقضي على 60%‏ من المياه المتدفقة من دجلة إلى العراق".

ويضيف: "تركيا وكذلك إيران لم توقّعا على الاتفاقية الإطارية لسنة 1997 التي وقّع عليها العراق. لكن من الممكن الرجوع إلى اتفاقية 1946، التي أصبحت عديمة الجدوى لتوقف العمل فيها برغم عدم تحديد فترة زمنية لها. ولكن هذه الاتفاقية في الوقت نفسه تحتوي على بند مهم جداً يقضي بإنشاء سدود مشتركة في الأراضي التركية يقوم العراق بتمويلها، وتُدار بشكل مشترك".

المشكلة المائية في العراق تتعلق بنسبة كبيرة بتركيا، وبنسبة أقل بإيران، لكن في المقابل، هل تقوم الحكومة العراقية بالجهد الدبلوماسي اللازم لتلافي الكارثة؟ 

إلا أن تركيا فشلت في الالتزام بالبروتوكول الموقع بينها وبين العراق وسوريا سنة 1987، والقاضي بتوفير 500 متر مكعب من مياه الفرات، يحصل العراق على 58% منها، وتأخذ سوريا الباقي،‏ إلا أن المياه الواصلة من تركيا عند سد حديثة لا تتجاوز الـ120 متراً مكعباً لهذا العام.

إجهاد... فندرة؟

العراق اليوم ليس فقط في مرحلة الإجهاد المائي، ولكن مستوى المياه في كل من دجلة والفرات يؤشر إلى مرحلة أخطر، هي مرحلة الندرة المائية التي نقترب منها يوماً بعد يوم، والتي يجب أن تترتب عليها مجموعة من الإجراءات الأساسية، أبرزها الانتقال من طريقة الري المائي إلى الري بالتنقيط والرش، بالإضافة إلى مغادرة زراعة بعض المحاصيل التي تتطلب كميات كبيرة من المياه، ومنها "الشلب" خصوصاً في موسم الجفاف، والعمل بالبصمة المائية التي بموجبها يتم تحديد كميات المياه التي يحتاجها كل محصول زراعي، وإنشاء أنظمة تحكم وسيطرة على نهري دجلة والفرات، وكذلك رفع التجاوزات المائية من مزارع السمك غير المرخصة وغيرها من التجاوزات، وتحديد التدفق المائي من ناظم قلعة صالح إلى شط العرب.

المشكلة المائية في العراق تتعلق بنسبة كبيرة بتركيا، إذا ما علمنا أن نهر دجلة لا يمر في الأراضي السورية لمسافة 30 كيلومتراً وفي مجرى عميق. وعليه يحتاج كل الأطراف إلى أن يتقاسموا الضرر بشكل متساوٍ في ما بينهم. المسألة تحتاج إلى جهود دبلوماسية متشعبة ومهارة عالية في التفاوض ودراية دقيقة بتفاصيل تاريخ النزاعات المائية بين البلدان المتشاطئة، قبل فوات الأوان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

البيئة هي كل ما حولنا، وهي، للأسف، تتغير اليوم باستمرار، وفي كثير من الأحيان نحو الأسوأ، وهنا يأتي دورنا كصحافيين: لرفع الوعي بما يحدث في العالم من تغييرات بيئية ومناخية وبآثار تلك التغييرات علينا، وتبسيط المفاهيم البيئية كي يكون الجميع قادرين على فهمها ومعرفة ما يدور حولهم، وأيضاً للتأكيد على الدور الذي يمكن للجميع القيام به لتحسين الكثير من الأمور في حياتنا اليومية.

Website by WhiteBeard
Popup Image