يحتفل العلويون في سوريا وفق كتابهم المرجعي "مجموع الأعياد"، للطبراني، بدزينة من الأعياد تصل إلى عشرين عيداً، وتنقسم إلى أعياد عربية إسلامية وأخرى فارسية وثالثة رومية (مسيحية) ورابعة محلية المنشأ، ولكل عيد منها قصته الخاصة وطريقة احتفال وتفسير. إلا أنّ هناك عيداً يحتفل به العلويون يعدّه الكرد والفرس والبشتون واﻵذريون وأقوام أخرى حالياً، عيداً قومياً وثقافياً ويحتفلون به على مدار أسبوع، هو عيد النوروز.
فما الذي جعل العلويين يحتفلون به؟ هل لأنهم سكان جبال مثلهم مثل الكرد؟ أم لأنهم متأثرون في نهجهم الديني بالفرس؟ أم أن هناك أسباباً أخرى لا تربط أياً مما سبق بحدث العيد الذي يستمر عند العلويين أسبوعاً أيضاً، كما عند تلك الشعوب؟
هل عيد النوروز فارسي فقط؟
النوروز تقليد تاريخي عريق يعلن للبشرية حلول فصل الربيع وولادة الطبيعة من جديد، ويعود تاريخه إلى حقب ديانات الخصب في المنطقة الزاغروسية جميعاً، ويحمل أسماءً متعددةً، وهو بشكله الحالي وريث الأعياد التموزية والأوزيرسية والزرادشتية وغيرها، ويعود أصله إلى ما قبل الألف الثالث قبل الميلاد وليس فقط إلى زمن الزرادشتية، أي القرن السادس قبل الميلاد، كما تقول اليونيسكو في تبرير عد النوروز من التراث العالمي الإنساني وتخصص له يوماً عالمياً.
كلمة "النوروز"، معناها "اليوم الجديد" في الفارسية، وهو أوّل يوم في السنة الشمسية الجديدة التي تنتهي في نهاية شهر آذار/ مارس، وهو الشهر الأخير من التقويم القمري البابلي، والفارسي والسرياني وغيرها من التقاويم، ويقع حالياً في الحادي والعشرين من شهر آذار/ مارس/ خرداد، حسب التقويم الغريغوري الغربي، وتنتهي الاحتفالات، ومنها إشعال النار على رؤوس الجبال، في الأسبوع الأول من نيسان/ أبريل.
ما الذي جعل العلويين يحتفلون بعيد النوروز؟ هل لأنهم سكان جبال مثلهم مثل الكرد؟ أم لأنهم متأثرون في نهجهم الديني بالفرس؟ أم أن هناك أسباباً أخرى؟
وفق الرواية الكردية، فإنّ إشعال النار على رؤوس الجبال قام به "كاوا الحداد"، بغاية إرسال إشارة النصر إلى الناس يوم سقوط الإمبراطورية الآشورية على يد الميديين (أسلاف الأكراد)، في حين أنّ رواية الفردوسي صاحب "الشاهنامة"، تقول إنّ "بدايته تعود إلى أيام الملك جمشيذ، وكانت مناسبته أن الجنّ حملت الملك وطارت به في أطراف الأرض في أول يوم في السنة"، وبقي هذا اليوم عيداً مقدساً عند الفرس، ويخالف البيروني رواية الفردوسي بقوله: "إنّ يوم النيروز لا علاقة له ببدء السنة الفارسية، فموعده الأصلي أواخر الصيف بعد الحصاد، لكن بسبب إهمال الفرس الكبس (زيادة الأيام الكبيسة على سنواتهم)، فقد تقدّم حتى صار في الربيع".
أصل النوروز العلوي
النوروز ليس من الأعياد اﻹسلامية الرسمية، ومع ذلك احتفل به المسلمون منذ فتح العراق، وقد أشار البيروني إلى احتفال عضد الدولة البويهي (238 م/ 949 هـ – 372 هـ/ 983 م) بالنوروز، وكيف أضيئت قصور بغداد وأشعلت الشموع والقناديل على باب "كلواذى" فيها، وأوقدت النيران على نهر دجلة.
في حقبة حكم البويهيين الشيعة العراق، في القرن العاشر الميلادي، انتشرت مراكز الدعوة النصيرية (العلوية لاحقاً)، في بغداد والكوفة وضمت حلقاتها عدداً من الموالي الفرس، والكرد والعرب. وفي أثناء حكم عز الدولة بختيار البويهي (توفي 978 م، ويقال إن اسمه رست باش، ومعناه "كن مع الحق" بالفارسية)، قدّم الحسين بن حمدان الخصيبي، مؤسس الطريقة العلوية، كتاباً إليه حمل اسم "الرسالة"، ليتحوّل اسمها في الأدبيات النصيرية بعد قرن إلى "الرستباشية"، على الاسم الفارسي للحاكم.
في كتابه هذا الذي يُعدّ أساس العقيدة العلوية، أصّل الخصيبي النوروز منطلقاً من القرآن: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إنّ الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} (البقرة الآية 243)، وفسّر الآية بقوله إنّ حزقيال، أحد أنبياء اليهود، "ناجى ربهُ بإحياء هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم واحتضروا، وصاروا رفاةً وعظاماً باليةً، فأوحى الله إليه أنْ رُشَّ عليهم الماء، فإنهم يعيشون ويؤمنون باللهِ وبكَ. فرشَّ عليهم الماء ذلك اليوم، وهو يوم النوروز الرابع من نيسان، فأحياهم، ودعاهم إلى معرفته ومعرفة بارئهم، فآمنوا وصدَّقوا به" (ص 141، الرستباشية)، لذلك صارت هذه الحادثة عيداً، مع العلم أنّ تقليد رش الماء في المناسبات والوفيات هو تقليد مشرقي ومتوسطيّ قديم ويُنفّذ نهاراً.
من الجلي أنّ محاولة الخصيبي ربط النوروز بواقعة قرآنية وحدث توراتي تحقق عدداً من الأهداف، ففي لحظة تقديم الكتاب للحاكم، سعى الخصيبي إلى جذبه إلى المعتقد الجديد ضمن منطق الدعوة العلوية التبشيرية وقتها، وجذب مريدين جدد من الموالي(الأتباع والحلفاء) الفرس الذين لم ينسوا الاحتفال بالنوروز بصفته عيداً يُحسب لقومهم، ووفق الرواية العلوية فإنّ عز الدين بختيار صار من مريدي الخصيبي المخفيين.
ذِكر النوروز أيضاً في الرستباشية، يدعم التوسع التبشيري للنصيرية خصوصاً أنّ عدداً من الآباء المؤسسين للحلقات الدينية العلوية الأولى كانوا من الفرس، وبعضهم لا نعرف عنهم الكثير، والأهم من هذا، أنّ الشخصية الثالثة في الثالوث العلوي الرئيسي هي سلمان الفارسي، الزرادشتي المتحول إلى المسيحية ثم إلى الإسلام، وتنقل رواية علوية أنّ هناك من اتهم سلمان بنقل النوروز من فارس وإدخاله إلى الإسلام، ويذكر أبو الريحان البيروني أن سلمان قال: "على عهد الإيرانيين، كنا نقول إن الله قد خلق لعباده یوم النیروز زینةً من الزبرجد، وفي المهرجان زينةً من العقيق، ولذلك فإن هذين اليومين يفْضلان سائر الأيام، كما يفضلُ هذان الجوهران الجواهر الأخرى" (الآثار الباقية، طبعة 1923 م، ص224).
ذِكر عيد النوروز في كتاب "المجموع"
لم يكن كلام الخصيبي (توفي 359 هـ/ 969 م)، عن عيد النوروز سوى جملة عابرة في كتابه التأسيسي، ولذلك فقد تولّى تلميذه النجيب وأحد كبار أعلام النصيرية خلال فترتها التأسيسية، أبو سعيد ميمون بن القاسم الطبراني (توفي سنة 424 هـ/1034 م)، شرح المناسبات والأعياد في كتابه "مجموع الأعياد"، مستنداً إلى ما كتبه الخصيبي في "الرستباشية" حسب اعتراف الطبراني نفسه، وقد اقتبس منها مرات عدة في كتابه الذي حققه شتروتمان الألماني ونشره في المجلة المشرقية عام 1943.
يُعدّ "مجموع الأعياد" أقدم مصدر حيّ حتى الآن يرد فيه ذكر عيد النوروز لدى العلويين، وتتكرر تفسيرات الطبراني في الكتب العلوية الأخرى التي تتعرض للمسألة حتى الآن ضمن أدبيات الطائفة.
يعتقد العلويون أنّ الله تجلّى لعباده في هذين اليومين المباركين بأشكال وصور مختلفة في جميع الأزمنة والقباب الأسطورية والتاريخية التي تشكلّ متن الفلسفة العلوية
ويتزامن ذكر عيد النوروز مع عيد المهرجان (الاعتدال الخريفي)، في غالبية مواضع الحديث عن الأعياد الفارسية الرئيسية في كتاب الطبراني. وفي هذين اليومين، وقع الحدث الأهم في الكرونولوجيا العلوية في القبة الفارسية، حيث يعتقد العلويون أنّ الله تجلّى لعباده في هذين اليومين المباركين بأشكال وصور مختلفة في جميع الأزمنة والقباب الأسطورية والتاريخية التي تشكلّ متن الفلسفة العلوية في هذا الجانب الزمني، وكذلك فإنّ الظهور الأخير للإله في شخص المهدي المنتظر سوف يحدث أيضاً في هذين اليومين في بلاد الشام والعراق بعد انطلاق معركة الخير والشر الأخيرة.
تشمل قائمة التجليات الإلهية التي تلعب أدواراً مهمةً ومحوريةً في العالم النوراني والمادي العلوي شخصيات من الكتاب المقدّس، بعهديه القديم والجديد، وأخرى من الأساطير الإغريقية والفارسية والعربية، وثالثة من التاريخ الإسلامي (لفهم أوسع لا بد من العودة إلى كتاب "العلويون النصيريون" لـ"يارون فريدمان"، ترجمة إبراهيم جركس، والكتاب مكتوب بلغة حيادية عكس الكتابات العربية في الموضوع).
أهميته في سياق غير زمني
يحتل النوروز والمهرجان مكانةً خاصةً في هذه الميثولوجيا بالنظر إلى أنّ الإله كان يتجلّى بصورة بشرية مرتين في فارس كل عام، مرّةً "في انقضاء الحر من البرد فسُمّي النوروز، ومرّةً في انقضاء البرد من الحر، فسُمّي المهرجان، وإذا ظهر الإله ظهر بالإكليل، وبالأكل والشرب" (عن المفضل بن عمرو، مجموع الأعياد)، ويلاحظ في تبرير الظهور الإلهي حضور الأساس الواقعي للاحتفال أي الاعتدال الطقسي في الربيع والخريف، ولكن هذا التجلي ليس وحده السبب في الاحتفاء العلوي فيه فهناك أسباب وأحداث أخرى.
أحد تفسيرات اسم عيد النوروز عند العلويين أنه "يوم النور"، ويحتفلون به بناءً على قول منسوب إلى الإمام جعفر الصادق، وهو: "يوم نوروز هو يوم يفضل على سائر الأيام كفضلي على سائر الخلق، وهو نور لمن عرفه، وروز يجير من سخط الله وعذابه، وهو اليوم الذي تاب فيه على آدم في قوله تعالى: 'فتلقّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم'"، وقول جعفر أيضاً لـ"المعلى بن خنيس": "إذا كان يوم النوروز فاغتسل، والبس أنظف ثيابك، وتطيب بأطيب طيبك"، فالغسل في الشرع هو طهارة الجسد من الجنابة، أما في الحقيقة الباطنية العلوية فإنّ "طهارة النفس لا تكون إلا بمعرفة علوم أهل البيت" (تبعاً للخصيبي وغيره).
تضيف السرديات العلوية عدداً واسعاً من المناسبات التاريخية والأسطورية إلى وقائع هذا اليوم المبارك، ففي مثل هذا اليوم -كما ورد عن الإمام جعفر الصادق- سجدت الملائكة لآدم، واستوت سفينة نوح على جبل الجودي، وجعل الله النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وفي مثل هذا اليوم آنس الله موسى النار في طور سيناء، واختار موسى من قومه سبعين رجلاً لمناجاة ربه فحضروا وطلبوا رؤية الله جهاراً فأخذتهم الرجفة وماتوا، فرشّ عليهم الماء فأحياهم، وهي مشابهة لواقعة النبي حزقيال ولكن تُنسب إلى موسى المتخيل.
في الدورة المحمدية تتكرر أهمية النوروز، إذ عرج محمد إلى السماء في ليل هذا اليوم، وانتصر المسلمون في غزوة الخندق ضد اليهود دون قتال بعد أن قتل الإمام علي فارس المشركين عمرو بن ودّ العامري وهزم أحزابهم وهو ابن أربعة عشر عاماً وفق الرواية العلوية.
وفيه أيضاً حسب الميثولوجيا العلوية فتح الرسول مكة، وفي وقائع هذا الفتح "حمل رسول الله أمير المؤمنين الإمام علي على منكبيه حتى رمى أصنام قريش من فوق الكعبة فهشّمها"، والواقعة مذكورة في كتب المسلمين لكن تفسيرها مختلف بينهم.
الميثولوجيا العلوية تفرد ركناً خاصاً فيها ليوم النوروز يربط المؤسس الأول، محمد بن نصير مع العيد في السابع عشر من آذار/ مارس، وهو يسبق النوروز الفارسي بأربعة أيام، لماذا؟
بالإضافة إلى ما سبق، فإنّ الميثولوجيا العلوية تفرد ركناً خاصاً فيها ليوم النوروز يربط المؤسس الأول، محمد بن نصير مع العيد في السابع عشر من آذار/ مارس، وهو يسبق النوروز الفارسي بأربعة أيام، وسنلاحظ هذا الانزياح مرةً ثانيةً في تفسير عيد الرابع من نيسان/ أبريل.
إذاً، تتركز أهمية النوروز للعلويين في شقّها المعرفي-الديني على مفارقة وخصوصية أحداثه المتكررة في التاريخ على نسق فوق زمني، أو ما يمكن أن نسمّيه "الحدث الميتا-تاريخي"، إذ إنّ الكتابة التاريخية الإسلامية تخلو كثيراً من التواريخ الحقيقية، ويمكن سحب أي حدث مروي إلى أي بقعة ميتا-تاريخية، وينطبق الأمر على جزء كبير من الكتابات اليهودية والمسيحية، فالزمن الديني هو زمن سماوي وليس أرضياً، وينبني هذا الزمن على معرفة يقينية دينياً هي أنه في "يوم النوروز أظهر الله تعالى رسالة الحق في بلاد فارس قبل الإسلام، وبعث لهم مبشرين ومنذرين"، و"أنّ لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".
التقاطع مع عيد الرابع
أشار الخصيبي إلى أنّ النوروز يقع في الرابع من نيسان/ أبريل، وفي زمنه، أواسط القرن العاشر الميلادي، الرابع الهجري، كانت هناك تقاويم عدة مستخدمة في المنطقة الشامية والرافدينية، ومنها التقويم "الشرقي" اليولياني، الذي استمر العمل به حتى القرن السابع الميلادي، وبالمقارنة مع احتفال الناس بالنوروز يوم 21 آذار/ مارس شرقي، فهناك فرقٌ على التقويم الشمسي الشرقي نفسه بمقدار ثلاثة عشر يوماً، (لم يكن التقويم الغريغوري الغربي قد استُخدم بعد، وفيه فرق 13 يوماً عن الشرقي)، وهنا نقع في حيرة عن سبب إزاحة الخصيبي العيد إلى الشهر التالي.
انتبه إلى هذه المسألة الشاعر العلوي الكبير منتجب الدين العاني (330-400 هجري)، فقال في قصيدة يمدح بها الأعياد:
يأتي بذكر المهرجان وإنه عيدٌ يقوم الوقت في ميزانه
يتلوه آذار وسابع عشره تتراكض الأفراح في ميدانه
وقرينه ميقات أنس جِدّةً في الرابع الميمون من نيسانه
فانعم بآذريونه وبآسه وبهاره والنور من حوذانه
(الآذريون: شقائق النعمان، البهار: العرار، والحوذان قصب يشبه البردي يعيش في الماء وله وبر أصفر يشتعل بسرعة).
ويظهر من كلام العاني (العراقي)، أنّ عيد الرابع من نيسان/ أبريل هو "قرين" عيد النيروز لأنه يأتي بعده في التقويم، وأنّ عيد السابع عشر من آذار/ مارس هو النوروز الأصلي ويسبق النوروز الفارسي بأربعة أيام، فلماذا فعل ذلك؟ وهل أخطأ الخصيبي في نسبة الرابع من نيسان/ أبريل إلى النوروز ورقّع له العاني الأمر باعتبار الرابع من نيسان/ أبريل قريناً له؟
نظن أنّ مفتاح فهم موقع النوروز العلوي في الرابع من نيسان/ أبريل يقع شمال سوريا في بلدة حرّان، المدينة الكلدانية التي تمتعت بأهمية كبيرة في التاريخ وصولاً إلى العصر العباسي حين تحولّت إلى مركز علمي وثقافي وساحة للحوار والإبداع، فانتقلت إليها مدرسة الطب والفلسفة من الإسكندرية، وسادت فيها السريانية، وبقيت كذلك إلى أن دمّرها المغول منتصف القرن الثالث عشر وشرّدوا من بقي من سكانها إلى حلب وماردين واللاذقية تبعاً للموسوعة العربية. ووفق سيرة الخصيبي المتاحة بخطوطها العريضة، فإنه زار حران وبقي فيها مدةً في زمن ولاية الشاعر أبي فراس الحمداني لها (962 م).
في أواخر القرن التاسع الميلادي ظهر مصطلح "صابئة حرَّان" وكان يُشار إليهم قبل ذلك بأنهم الـ"كلدانيون أو حرّانيون"، وقد وصف الكتَّاب المسلمون أهل حران بعد عصر المأمون الذي زار المدينة، بأنهم "أصحاب أدب وحكمة وعلم بالنجوم وخبرة بالعلوم التعليمية وأصحاب رصد وقياس للكواكب ولهم ذكاء وفطنة"، وإلى هؤلاء ينتمي أبناء شعبة الحرانيين، أحد أهم مجموعة فكرية في تاريخ العلوية.
في حرّان أسس الخصيبي أوّل حلقة توحيدية ضمت 51 شخصاً سوف يتولون بعد وفاته قيادة حلقات التبشير العلوي، ولا يُعرف على وجه الدقة متى فعل ذلك، فقد توفي الخصيبي عام 969 م، وربما هو العام الذي أنجز فيه الراستباشية لتكون آخر كتبه، إذ إنّ كتبه الأخرى المشهورة كلها على التشيّع الاثني عشري.
ما يهم في سياق البحث عن نيروز الرابع من نيسان/ أبريل، أنّ الحرانيين الذين أشار إليهم الهمداني، كانوا من بقايا الكلدانيين الذين استمروا في الوجود إلى مطلع القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، وكان عيد رأس السنة لديهم يبدأ في 26 آذار/ مارس، أو أول نيسان/ أبريل (فهرست ابن النديم)، ويحتفلون به ثلاثة عشر يوماً متواصلةً. ونلاحظ أنّ الفروق الزمنية بين مواقيت هذه الأعياد طفيفة وهي أربعة أيام ولعل الأمر مرتبط بالتقاويم المستخدمة في تلك الفترة وغياب الدقة فيها.
في وصفه الرابع من نيسان/ أبريل، يقول البيروني في كتابه "اﻵثار الباقية": "إنه عيد معروف عند اليونان باسم (نوء الربيع)، ومعروف عند الفرس (عيد هيرمزروز). وعند مجوس بخاری (نیم سروه) ومعناه نصف السنة، وهو عند الخوارزمية عيد (أزدا كندخوار)، أي يوم أكل الخبز (المشحم)"، وعند الدروز عيد النبي شعيب في اليوم الخامس والعشرين من نيسان/ أبريل، ويُسمّى هذا العيد حالياً بتسميات عدة منها: عيد الرابع، عيد الزهرية، عيد الزهورية، وبقي أهل السواحل السورية يحتفلون به حتى نهاية القرن العشرين.
في هذا العيد الذي "يستوي فيه الليل والنهار ويعتدل الزمان ويطيب الهواء، كان حكماء حران وكهنتهم يجمعون أولادهم بأحسن زينة، وأنظف طهور، ويتوجهون إلى الهياكل المقدسة يقرّبون لها الذبائح الطاهرة"
في نسبته إلى الزهر أو الزهرة احتمالان، الأول، لكثرة زهور نيسان/ أبريل وهو ضعيف، والثاني نسبةً إلى احتفالات الحرانيين بالاعتدال الربيعي ناسبين إياها إلى كوكب الزهرة، وبالمناسبة كان الحرانيّون يخرجون إلى قرية قريبة من حران اسمها "ترعوز" أي "باب الزهرة" (حالياً باب الهوى قرب حلب)، وهو باب من أبواب مدينتهم الثمانية المسمّاة على أسماء الكواكب المعروفة في ذلك الوقت (يُنظر كتاب "صابئة حران")، وهي الأبواب نفسها في كل مدن المشرق التي غيّر المسلمون أسماءها إلى أسماء مدن مثل دمشق وحلب والقاهرة والقدس.
في هذا العيد الذي "يستوي فيه الليل والنهار ويعتدل الزمان ويطيب الهواء، ويطيب عيش أهل البر، كان حكماء حران وكهنتهم يجمعون أولادهم بأحسن زينة، وأنظف طهور، ويتوجهون إلى الهياكل المقدسة يقرّبون لها الذبائح الطاهرة، ويضعون الموائد العامرة، بأصناف الطعام فإذا أكلوا وفرحوا بسماع الموسيقى، بدأوا بتلاوة الحكمة ونشر العلم فتكون بذلك راحة النفس، وكمال الأنس"، كما يقول إخوان الصفا في إحدى رسائلهم (ج 4 من طبعة دار صادر).
الأمر نفسه كان يفعله النصيريون مع عيد الرابع من نيسان/ أبريل، حيث يجمعون الزهور وينقعونها بالماء وفي صباح يوم العيد يغتسلون بالماء المعطر في محاكاة لما فعله النبي موسى من رشّ الماء على جماعة بني إسرائيل الذين أحياهم، ثم يخرجون إلى المقامات الدينية لتقديم الأضاحي والوفاء بالنذور وحل المشكلات، وتستمر الاحتفالات أربعة أيام، ويجتمع الناس في مواقع معيّنة مثل الدالية وأبو قبيس وسلحب وبانياس. ومثل كل الأعياد يتم ذبح الذبائح وتقديم القربان وهو طقس الفداء المستعاد من عهد النبي إبراهيم مع ولده إسماعيل. ويترافق العيد مع عقد حلقات الدبكة، وتقام صلوات وقداديس وفق طقس الصلاة الخاصة في الأعياد.
نخلص هنا إلى أنّ قصد الخصيبي من الرابع من نيسان/ أبريل، هو النوروز الحرّاني أو الكلداني، لذلك سمّاه العاني "قرين" نوروز آذار/ مارس الفارسي، مع اختلاف التقاويم المستخدمة في تلك الأوقات، أو ما حصل في أوقات لاحقة مع تغيير التقاويم، فالشاعر المنتجب العاني عاصر الخصيبي وعاش بعده ثلاثة عقود أو أربعة.
في الحالتين، فإن نوروز آذار/ مارس يكمل مع نوروز نيسان/ أبريل، وبينهما تستمر الاحتفالات بقدوم فصل الربيع مع كل الحمولات الأخرى الدينية والطقسية، وهذا الجمع بين المقدس المتخيّل والدنيوي الواقعي الاحتفالي سمة تجمع كل البشر بحثاً عن المعنى الوجودي، أليس هذا ما يحدث في عيد الفصح المسيحي الذي هو نسخة مسيحية من احتفالات الرابع من نيسان/ أبريل؟ وكتأكيد على هذا فإن احتفالات الرابع من نيسان/ أبريل العلوية كانت تتضمن طقس "البيض" المسلوق، مثلها مثل المسيحية حالياً، والبعض يفسر ذلك بالتعايش بين الجانبين جغرافياً.
وأخيراً، نتيجةً لانزياح التقاويم، فإن احتفال الرابع من نيسان/ أبريل، بات في السابع عشر منه، وهو يتوافق حالياً مع عيد استقلال سوريا عن الاحتلال الفرنسي، وقد استمرت الاحتفالات به حتى مطلع القرن الحالي في مواقع عدة في الساحل قبل أن تختفي بقرار سلطوي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.