شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بين النوروز والميلاد وخميسات حمص... خريطة مدن الربيع والحب

بين النوروز والميلاد وخميسات حمص... خريطة مدن الربيع والحب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 21 مارس 202203:18 م

عشر سنوات في طهران وعشرون بدايةً، واحدة مع شجرة الميلاد، وواحدة مع سفرة السينات السبع، وواحدة مع عائلتي، وأخرى مع الأصدقاء، وواحدة أرقّم بها سنوات عملي، وأخرى أحسب فيها عمر ابن أختي في البلاد. عشر سنوات من القفز بين خطين زمنيين أنتمي إليهما يحاصرانني، فأرسم بهما حدود ذاكرتي بين النوروز والميلاد وخميسات حمص.

طبعاً كانت لجدتي حساباتها الخاصة على التقويم الشرقي الذي عمل به أجدادنا المزارعون في بلاد الشام، وتنافس ما نتبعه اليوم في التقويم الغربي.

تحمل في قلبك وطنك وتمضي به حيث تشاء. تحط في منزل جديد تعيد نشره في زاوية تملأها عنوةً بالحنين، وتتباهى أمام الغرباء بوصفات مطبخ أمك. ترتب بهاراتها وزعترها وزيتها وكل ما حمّلتك إياه على الرفوف، وتُخرج من جعبتك صورك وأصدقاءك تنشرها على حبل لا يقطعه ضعف الإنترنت في البلاد واختلاف الساعة والعطلة ومشاغلهم اليومية. حزمة الكتب التي زادت من وزن حقائبك مركونة بالقرب من النافذة تلوح لك كل يوم، وتعتذر منها لأنك مشغول وتخرج من باب الذكريات لتدخل باباً آخر لها تصنعه البلاد الغريبة.

في سنتي الرابعة في طهران، وأنا أرتب ملفات صوري في الحاسوب الجديد، أدركت أن صوري موزعة على تاريخين، الأول هو التاريخ الشمسي الإيراني ويعج بصوري في الجامعة في طهران وذكرياتي مع مدن إيران، والآخر تاريخنا الميلادي ويضم صور إجازاتي السنوية في سوريا مع عائلتي. نعم هناك تاريخان لأربع سنوات، وبعبارة أدق كانت هناك ثمانية ملفات وثماني سنوات عوضاً عن أربع، واليوم أصبحت عشرين.

نهاية كانون الأول/ ديسمبر، أنصب شجرة الميلاد في بيتي في طهران، وأتمسك بأغصانها جيداً لأبدأ عاماً جديداً. أدعو أصدقائي ليشاركوني هذا الاحتفال، وأصرّ على الطقوس والتفاصيل والاتصال مع الأهل عندما تدق الساعة الثانية عشرة ليلاً على توقيتهم، وأعلق حبل المصابيح على النافذة ليضيء زوايةً ما في قلبي، وأصطنع الفرح بنكهة الطفولة وعلى خط يوازي منزل عائلتي في حمص.

في سنتي الرابعة في طهران، وأنا أرتب ملفات صوري في الحاسوب الجديد، أدركت أن صوري موزعة على تاريخين، الأول هو التاريخ الشمسي الإيراني ويعج بصوري في الجامعة في طهران وذكرياتي مع مدن إيران، والآخر تاريخنا الميلادي ويضم صور إجازاتي السنوية في سوريا مع عائلتي

أذكر جيداً كيف كانت تحسب جدتي دخولنا أيام "المربعانية" الشتوية قبل رأس السنة الميلادية بأيام، وهي بدقة تبدأ مع ما يعرف في التقويم الإيراني باحتفالية "ليلة يلدا". طبعاً كانت لجدتي حساباتها الخاصة على التقويم الشرقي الذي عمل به أجدادنا المزارعون في بلاد الشام، وتنافس ما نتبعه اليوم في التقويم الغربي. كانت تعيد كل سنة على مسامعنا ترتيب المربعانية (وهي أربعون يوماً)، تنتهي مع نهاية كانون الثاني/ يناير، وموزعة على أربعة أجزاء: سعد ذبح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الخبايا، والعد لا ينتهي هنا وفق تقويم جدتي، بل يستمر مع خمسين يوماً إضافية تُوزَّع على سبعة أسابيع يسمي أهل حُمص كل خميس منها باسم خاص؛ خميس التايه، وخميس الشعنونة، وخميس المجنونة، وخميس القطاط، وخميس النبات، وخميس الحلاوة، وخميس المشايخ. الكل في حمص يعرفون خميس الحلاوة، وهو الأشهر إذ نأكل فيه حلاوتنا الحمصية (البيضاء والحمراء)، من دون أن نسأل ولا أن نجيب عن سبب احتفالنا بهذا اليوم. كلنا ندرك جيداً أن الأمر يتعلق بالربيع ويتعلق بالأرض التي نحبها فتطعمنا لكن بطبيعة الحال هناك حكايات لكل حارة وقرية يرويها الناس كما يشاؤون.

نوروز الجميل الباهي في إيران هو نفسه "أكيتو" المنسوخ في بلاد الشام، وعيد الطبيعة الشهير بيوم "سيزده بدر" هو نفسه عيد الرابع الذي تحتفي فيه بعض الأقليات في سوريا.

كنت أحب هذه الحكايات، وأبحث عنها بين جدتي وكتب التاريخ الشفهي المعدودة جداً، وعن التفاصيل التي نسيناها مع هجرتنا التراث نحو مظاهر الحداثة، وعن القصص الجميلة التي أضعناها في المناهج العبثية، وفي عبارة "صارت دقة قديمة".

عندما وصلت إلى طهران وجدت أمامي "الدقة القديمة" نفسها المنسوخة في الكثير من بلادنا. النوروز الجميل الباهي في إيران هو نفسه "أكيتو" المنسوخ في بلاد الشام، وعيد الطبيعة الشهير بيوم "سيزده بدر" هو نفسه عيد الرابع الذي تحتفي فيه بعض الأقليات في سوريا، وحاجي فيروز بوجهه الأسود هو تجسيد لديموزي السومري الذي يخرج من عمق الأرض في أول الربيع مبشراً به.

بالطبع الدراسات والأبحاث التاريخية الدقيقة لها مكانها بعيداً عن الملاحظات السريعة، لكن للطبيعة كلمتها على الإنسان، فلا يمكن أن تكون من بلاد عشتار وألا تحتفي بالربيع، ولا يمكن أن تعيش في طهران من دون أن تفرح لفرح الناس بالربيع. شيء ما يشرق في داخلك وأنت تمضي في أسواق طهران عشية النوروز. إنه من دون شك بداية عام جديد.

حصنك الواهي ضد ما هو غريب يتحطم أمام مظاهر الجمال، فكيف إن كان هذا الجمال يقبع في الذاكرة الجماعية لشعوب أرضك القديمة؟ "كيف صادروا منا فرحة الربيع؟"، يغيظني هذا السؤال المجهول الإجابة، وأترك العبث مع التاريخ وأعود إلى شوارع طهران؛ أختار لون ورودي الزاهية، وأنقل الربيع إلى منزلي الصغير، وأسرق فرحي الصغير من ربيع طهران، وأرتبه على خط يوازي مدن الربيع والحب.

الحقيقة المختبئة في هذا الكون تشير إلى تراكم كبير من السنوات في أعماق الأرض، والثابت الوحيد في دورانها سنوياً هو العودة إلى الحياة مع الربيع، فلنفرح معاً بالنوروز، فنحن شعوب الربيع

في النوروز تبدأ الحياة من جديد كل عام، وتنتصر الأرض لتقويم الطبيعة وتسخر بحسابات الإنسان لعداد السنوات. التقويم الهجري الشمسي يقول إننا في مطلع القرن الخامس عشر، والميلادي يقول إننا في مطلع الألفية الثالثة بعد الميلاد، لكن الحقيقة المختبئة في هذا الكون تشير إلى تراكم كبير من السنوات في أعماق الأرض، والثابت الوحيد في دورانها سنوياً هو العودة إلى الحياة مع الربيع، فلنفرح معاً بالنوروز، فنحن شعوب الربيع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image