يضم عيد النوروز الكثيرَ من التقاليد والطقوس المتعددة في عموم إيران، فهو أكبر وأقدم مناسبة وطنية إيرانية تحتفل بقدوم الربيع، مناسبة تكتظ بالأفراح والبهجة والموسيقى والرقص والحلويات والمشروبات والأكلات الشهية. أما اليوم فقد ابتعدت المدن الكبرى والحديثة عن ذلك التراث الجميل، فتغيرت نكهة نوروز الوطنية.
بالنسبة لي ولأقراني، ما عشناه من أجواء عيد النوروز في الطفولة، أشهى وألذ طعماً من أجوائه الآن، وصعب أن تتكرر اليوم مع أبنائنا تلك التجربة الفريدة التي ذقنا نكهتها مع مجموعة الألعاب والأوقات المفرحة على بساطتها.
أتشبث في العقد الخامس من عمري بتلك الخواطر النوروزية المتبعثرة وسط أفكاري، وأنهمك في كتابتها كي لا تضيع كالفراشة من يدي. وآمل بأن تكون قراءة هذه الذكريات حلقة وصل بيني وبين القراء الذين يبتعدون آلاف الكيلومترات عن إيران، فقصص الناس، تصنع أقوى علاقة بين أبناء البشر.
"جهارشنبه سوري"
قضيت طفولتي في ملاير، وهي مدينة صغيرة وباردة في غرب البلاد، وكانت تعيش جدتي (أم أبي) معنا. وبما أن والديّ كانا مدرّسين يذهبان إلى المدرسة يومياً، فكنت أقضي معظم وقتي مع جدتي التي أناديها "مادر جُون" (ماماتي). كانت "ماماتي" معلمتي الأولى بحكاياتها وقصصها التي جعلت مخيلتي خصبةً، فكانت الخيط الرابط بيني أنا الطفل وبين التراث والماضي الإيرانييْن.
ما زلت أتذكر جيداً وضع النقود في طيات القرآن، وكيف كنت أترقب فتح المصحف بكل حفاوة لأستلم العيدية. فكما لو أنه فيلم سينمائي بقي المشهد عالقاً في مخيلتي
أبحر في قصصها وأضع نفسي محل أبطال حكاياتها، وهكذا كنت محارباً في الجبال يوماً ما، وصياداً لتنين برأسين في يوم آخر. وقبل أسابيع من نهاية الشتاء، كنت أسألها يومياً عن الأيام المتبقية حتى عيد النوروز، فهي دقيقة في ذلك برغم أمّيتها، إذ كانت تقدّر حلول العيد عبر حركة الشمس وحجم الظلال في موسم الشتاء.
الأهم من قدوم العيد بالنسبة لي كان اقترابنا من يوم "جَهارشنبه سوري" (جهارشنبه يعني الأربعاءفي الفارسية) الذي يحتفل الإيرانيون فيه استثنائياً عند غروب يوم الثلاثاء الأخير من العام الإيراني، ويشعلون ناراً كبيرةً، يجتمعون حولها ويغنّون ويرقصون ويقفزون فوق النار.
يأتي هذا الاحتفال ليبعدنا عن القذارات، فهذه هي فلسفة جهارشنبه سوري، وهو آخر أربعاء قبل قدوم الربيع، ومفردة سوري تعني الفرح والبهجة باللغة الفارسية، لكن لم يكن ذلك يهمني بقدر اللعب بالنار والرقص والقفز.
أسياخ كباب من فضلات الدجاج والقش والكبريت
في أحد أعوام الطفولة، ذهبت عند عودتي من المدرسة لشراء المفرقعات النارية، لكنها كانت غاليةً ولم أكن قادراً على شراء أعداد منها لي ولأختي وأصدقائي. عندها نصحتني جدتي أن أصنعها بنفسي، فهي عبارة عن الکبریت والقش وفضلات الدجاج أو الطيور الأخرى.
منذ تلك اللحظة، بقيت فكرة صناعة المفرقعات النارية تشغل بالي، حتى أنني جمعت القش والكبريت، وبما أننا وجيراننا لم نكن نملك الدجاج في المنازل، فذهبت إلى السوق كي أشتري فضلاتها، وبصعوبة أقنعت محلاً بأن أغسل وأنظف الأقفاص لأجمع فضلات الدجاج.
عدت إلى المنزل منتصراً، وقبل يومين من وصول آخر أربعاء في الشتاء، بدأت عملية تصنيع المفرقعات. كانت رائحة الفضلات حينما كنت أسكب عليها الماء الساخن لا تطاق، بيد أن هوس التصنيع كان أقوى من أهمية تلويث يديّ بالفضلات لأعجنها مع القش والكبريت.
تعلمت من جدتي أن أفعل كل شيء بنفسي، وهذه كانت علامة الرجولة في مخيلتها، فهي أستاذة العمل اليدوي من صناعة الحلويات والطهي حتى خياطة الملابس وحياكة السجاد.
كنت أؤمل نفسي بإنجاز كبير حينما كانت يداي الصغيرتان وسط الإناء غارقتين في عجن فضلات الدجاج والماء الساخن والقش والكبريت، فقد عجنتها حتى تحولت إلى طبخة نتنة.
وجاء الدور إلى أن ألفّ هذه العجينة حول سلك حديدي صلب وضيق، لتتحول إلى ما يشبه قلم الرصاص. محاولاتي لم تفلح في النهاية، وتلخصت متاعبي في مفرقعات نارية تشبه سيخ الكباب المشوي. كانت سميكة وقبيحة المنظر، لذا وضعتها في مكان ساخن كي تجفّ، وذهبت أفكر في أن ما قمت به سيكون له إضاءة أكبر من المفرقعات النحيفة والجاهزة في الأسواق.
حلّ غروب شمس الثلاثاء، وأقام سكان الحارة موقد نار كبير وسط الزقاق، وقفزنا نحن الأطفال فوق النار، وحرصنا على وضع الحطب في الموقد كي يعلو لهيبها. بدأ ابن جارنا يغنّي ويقرع على الطبل، وكنا نهتف حين القفز: "لوني الأصفر منكِ ولونك الأحمر مني"، مخاطبين النار.
في ثمانينيات القرن المنصرم، كانت البلاد تعيش تحت وطأة الحرب العراقية الإيرانية، ولم يكن الفرح شيئاً متداولاً، كما أن النظام الإسلامي كان يروّج للمناسبات الدينية كعزاء أهل البيت ومراثيهم، على حساب المناسبات الوطنية والأعياد التراثية كعيد النوروز.
تقدمت الأشياء الإسلامية على حساب الأشياء الإيرانية، من مناسبات وطقوس وتقاليد إلى الاحتفاليات والمهرجانات. حتى في المنازل، كانت الموسيقى والأغاني والرقص محظورةً، وأحياناً تأتي الشرطة ويضطر الأهالي إلى إلغاء حفلاتهم كي لا يُحتجزوا. وسط ذلك كله كان احتفال "جهارشنبه سوري"، المهرجان الجماعي الوحيد الذي يقام في الشوارع مرةً واحدةً في السنة، وهو لا يحتاج إلى إذن من الحكومة.
في أثناء المهرجان، ذهبت لأُحضِر مفرقعاتي النارية اليدوية التي كانت ما زالت رائحتها نتنةً، وبسخاء طفولي وهبت سيخاً لكل صديق كان حاضراً، وأشعلت سيخي لكنه كان كالشمع وذاب حتى انطفأ من دون أي شرارة أو لون خاص، وهكذا بقية الأسياخ التي لم تكن تشبه المفرقعات قط. ذهب كل شيء فعلتُه سدى. أحسست بأن رائحة مفرقعاتي ملأت الزقاق. وبدأ أطفال الحارة بالضحك والاستهزاء.
الظروف الاقتصادية والضغوط الثقافية والاجتماعية في الأعوام الماضية، قللت من سعادة عيد النوروز التراثي لدى المجتمع الإيراني. كان النوروز لأطفال الأمس بمثابة الرحلة نحو مدينة الأحلام، لكن أبناءنا اليوم فقدوا تلك التجربة
سيطرت الكآبة عليّ وضاقت بي الأرض، حتى وصلت جدتي وأخبرت أصدقائي بأن هذه المفرقعات لم تجفّ بشكل جيد، وأخرجت من تحت شادورها مفرقعات ناريةً أخرى وأهدتنا إياها، وأكدت لهم بأن حفيدها هو من قام بصناعتها وهي من قامت بتجفيفها جيداً. من جديد عاد الأمل وبدأنا نصرخ ونقفز ونلعب مع شرارة المفرقعات التي ملأت المكان.
كان ذلك بمثابة معجزة لشراء ماء وجهي. لم أصنع مفرقعات جدتي، ولم أقل شيئاً. المهم هو ألا يمر ذلك اليوم الجميل بانزعاج واستهزاء سيلاحقانني طوال العام الجديد.
مائدة السينات السبع والعيدية
أما في اللحظات الأخيرة من نهاية السنة الهجرية الشمسية وقدوم السنة الإيرانية الجديدة، وبداية عيد النوروز، فتصبح "مائدة هفت سين" (السينات السبع)، التي تُفرش في معظم المنازل الإيرانية عند لحظة تحويل السنة، أهمَّ تقليد إيراني، إذ تضم المائدة سبعة أشياء تبدأ أسماء جميعها بحرف السّين في الفارسية، وهي: "سَبزِه" (براعم القمح التي يتمّ زرعها في طبق)، والسّمّاق، و"سِنجِد" (ثمار شجرة اللوتس المُجففة)، و"سَمَنو" (حلوى إيرانية تُصنع من القمح)، و"سيب" (التفاح)، و"سير" (الثوم)، و"سِكّه" (العملة المعدنية)، وفي بعض الأحيان يضعون "سِركِه" أي الخل في الفارسية، بدلاً من إحدى السّينات، وترمز كلّها إلى المحبة والسّعادة والتجديد والخير والبركة. وعن سبب اختيار الرقم "سبعة"، يقال إنه يعود إلى تقديسه وقيمته بين الإيرانيين القدماء.
يجلس أعضاء الأسرة حول هذه المائدة، ليفتح البعض ديوان الشاعر حافظ الشيرازي (القرن 14م)، كي يتمتعوا بأشعاره العذبة الفارسية، ويحرص البعض من الفئة المتدينة على قراءة القرآن، أما الأطفال فلا تفكير يراودهم سوى الحصول على العيدية، وذلك لا يأتي إلا عند لحظات بدء العام الجديد.
ما زلت أتذكر جيداً وضع النقود في طيات القرآن، وكيف كنت أترقب فتح المصحف بكل حفاوة لأستلم العيدية. فكما لو أنه فيلم سينمائي بقي المشهد عالقاً في مخيلتي. وهكذا هي الحال عند زيارة منازل الأقارب والجيران للمعايدة.
كنت أحتفظ لفترة طويلة بنقود العيد الحديثة من التجاعيد والتلوث، وعندما أضعها في حصالتي إلى جانب بقية نقودي القديمة، كنت لا أطيق هذا المشهد، فكان بودّي لو تتحول نقودي القديمة إلى حديثة كأخواتها التي حصلتُ عليها ضمن العيدية.
غسلت ذات مرة النقود بالماء والصابون، ثم قمت بكيّها كي يصبح المظهر واحداً في الحصالة، وفي مرة من المرات عندما غسلت أحد الأوراق النقدية، وتحت ضغط الماء، سال لونها حتى صارت ورقةً بيضاء مبللةً. كان هذا المشهد أول مواجهة لي مع النقود المزوّرة. وبرغم مرور 35 عاماً، ما زلت أحتفظ بها، فهي بمثابة نافذة على نوروز طفولتي الحلوة.
الظروف الاقتصادية والضغوط الثقافية والاجتماعية في الأعوام الماضية، قللت من سعادة عيد النوروز التراثي لدى المجتمع الإيراني. كان النوروز لأطفال الأمس بمثابة الرحلة نحو مدينة الأحلام، لكن أبناءنا اليوم قد فقدوا تلك التجربة، ونحن نتمنى أن تعود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 9 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت