في صدر بيتنا، وعلى الحائط المواجه لباب البيت الرئيسي، صورة بالأبيض والأسود، لا اسم مكتوباً عليها يوضح من هو صاحبها. منذ أن وعيتُ على الدنيا، وأنا أظنها صورة جدي. أسأل أمّي عن بهاء ألحظه يغمر وجه الرجل الملتحي ذي العينين البنّيتين، فتجيب بهزّة كتف: "لا أعرف". إذاً ليس جدّي. أسأل أبي فيجيب: "إنه جدّك".
بعد وقت من تلك الأسئلة، وعى أبي كثرة تلك الأسئلة، فأجابني باختصار: إنه جدّك "الروحي"، "مجدّد الدين، وحامي الشريعة، والمؤتمن على النهج والطريقة، خادم المؤمنين الذي بلغ صيته وسمعته الطيبة بلاد الأولين والآخرين"، العلّامة الكبير والأب الروحي لهذا "الشعب"، العلّامة سليمان الأحمد.
لم أعرف وقتها على وجه الدقة من يقصد بكلمة "الشعب". وحتى كلمة "العلّامة" بدت صيغةً مستحدثةً في قاموسي الصغير. أكمل الشيخ، أبي، شرحه قائلاً: "الكلمة صيغة مبالغة من عالم بكسر اللام، وليس هناك في الجبل العلوي من يحمل هذا اللقب رسمياً سواه، والسبب أنه تغلب على مستشرق فرنسي اسمه ماسينيون، في مناظرة أثبت له فيها وجود الله، فقد كان ماسينيون هذا ملحداً وسأل العلامة: أين الله؟ فطلب العلّامة إحضار كوب من اللبن، وسأل ماسينيون: أين الحليب في اللبن؟ فبُهت الرجل، وضحك أبي كثيراً.
في ما بعد، عرفت أن الشعب المقصود في حديث أبي، هو "الشعب العلوي"، وأنّ الواقعة حقيقية ولكن ليست بهذا الشكل ولا السرد، إذ يميل الناس دوماً إلى "أسطرة" من يُحبون ويكرهون على حد سواء، وكذا فعل أبي وكثر غيره بشأن العلّامة، حتى رحيله. لم يكن في أحاديث أبي سوى الإعجاب الكبير بـ"العلامة، مجدّد القرن، فالله يرسل على رأس كل قرن من يجدد فيه أحوال الناس"، كما كان يقول لي دائماً.
وُلد سليمان الأحمد، ابن حسن ابراهيم عبود، عام 1287 هـ/ 1869 م، في قرية "الجبيلية" من أعمال قضاء جبلة على الساحل السوري
بين قرنين
برغم مضيّ ثمانية عقود وأكثر على وفاة سليمان الأحمد (توفي في الأول من كانون الثاني/ يناير 1942)، ما زال اسمه يتردد بشكل يومي في الأحاديث اليومية، وفي صلوات الطائفة العلوية في أعيادها الرسمية، وتستمر كذلك النقاشات بين أبناء الطائفة أو خارجها على منصات التواصل الاجتماعي حول شخصيته التي لعبت دوراً مفصلياً في تحديد مسارات حياة طائفة بقيت على هامش الإسلام قروناً طويلةً، مُتهمةً عند جزء من طوائفه بمروقها على "الإسلام القويم" و"كفرها" و"غلوّها"، وغير ذلك من اتهامات تحضر على خلفيات سياسية غالباً.
وفق تأريخه الشخصي، وُلد سليمان الأحمد، ابن حسن ابراهيم عبود، عام 1287 هـ/ 1869 م، في قرية "الجبيلية" من أعمال قضاء جبلة على الساحل السوري، لعائلة لا تنتمي إلى عائلة وجهاء أو مقدّمين، وهم قادة القوم المعيّنين من قبل العثمانيين. ووفق وصف الأحمد لوالديه فقد كانا "فقيرين بدنياهما غنيين بدينهما، أما سيدي الوالد رحمه الله فقد كانت معارفه مقصورةً على ما يعتقده من مذهبه ليرجو به الفوز الأخروي" (من رسالة له).
في السابعة من عمره، حفظ ربع القرآن في ثلاثة أشهر، متلقياً في السنوات التالية قواعد اللغة والصرف والنحو والخط على يد والده، ومبادئ الفقه الشرعي على يد شيوخه، وعلى رأسهم الشيخ يوسف الخطيب، ثم انطلق في دراسة كتب الأدب، خاصةً المتنبي والبحتري، في وقت لم تكن فيه كتب كثيرة في الجبل العلوي. وبعد تمكّنه من اللغة العربية، بدأ بنسخ أمهات الكتب العلوية وغيرها من كتب الشعر والأدب وتصحيحها والتعليق عليها وشرح بعضها مثل كتاب "لزوميات" المعرّي (صديقه الأقرب)، وقد وضع عليه هوامش وملاحظات.
في عمر الخامسة عشر، ولأسباب اقتصادية، هجر سليمان الصغير قريته متجهاً إلى قرية المرآن وهي من قرى القرداحة، حيث تسكن عائلة يعرفها وبينهم صلة نسب، وقام هناك بمهمة "الخطيب"، أي معلم الصبيان، يدرّسهم العربية والقرآن وبعض الرياضيات. روى لي أبي نقلاً عن الشيخ عبد اللطيف سعود، أنّ البنات الصغيرات كّن يستمعن إلى الأهازيج الصبيانية اللغوية، ويكرّرنها من دون اعتراض من الحاضرين الذكور، إلا ما اقتضته المنافسة الذكورية، ولعلّ البيئة الجبلية المنعزلة آنذاك عن كل العالم تقريباً، ساهمت في هذا التسامح مع الحاضرات الصغيرات. كانت أجور المعلّم في ذلك الوقت بعض التين والبيض وزيت الزيتون.
قبل أن يبلغ الثامنة عشر فقد والده، داعمه النفسي والمادي، فحمل عصا الترحال، وقرر التعرف إلى الناس، فانطلق في رحلة حج محلية ولم يترك قريةً أو بيتاً في مساحة واسعة من محيطه إلا وزارها وتعرف إلى أهلها، وغالباً ما ختم الشيخ الصغير زيارته ببضعة أبيات من الشعر يضعها في مكان تصل إليه أيدي صاحب البيت بعد رحيله ممهورةً باسم سليمان الأحمد، والرواية هنا لولده الدكتور علي، وللأسف ضاعت تلك الأوراق جميعها.
في الخامسة والعشرين تزوج من السيدة رائجة عجيب، وهي من عائلة من قرية الجهنية (ملاصقة لقرية "ديفة")، حيث استقر حتى عامه الأربعين. وخلال عشرينيات القرن الماضي، تحوّل المنزل الصغير إلى مركز تعليمي استجلب مئات الراغبين في فرصة للتعليم والحوار والنقاش، وسط بيئة انغلقت قروناً عديدةً عن مؤثرات العلم والعالم إلى درجة أنه لم يكن هناك من يتقن الكتابة والقراءة في مساحة واسعة من الجبل، وكان ذلك ملحوظاً في انتشار الأخطاء النحوية واللغوية في المخطوطات العلوية المنتجة منذ القرن العاشر، وقد انكبّ الشاب على تصحيحها، وفي سبيل ذلك خاض في مشكلات مع رجال دين كثر ممن وضعوا هالة القداسة على تلك الكتب ومنعوا تغيير حرف فيها.
توفيت زوجته الأولى في عمر مبكر، فضاقت به الدنيا وهمّ بالهجرة من البلاد إلى ديار أضنة، حيث يقيم هناك عدد من "الأخوة" العلويين، ووفق رواية ولده عليّ، في كتابه عن والده "اﻹمام الشيخ سليمان الأحمد، سيرة حياة مثلى، وجهاد يحتذى" (دار الفرقد دمشق، الطبعة الثانية العام 2010)، فإنه "ما أن رشح الخبر حتى بادرت نخبة من الأصدقاء والمعارف إلى اختيار موقع، وبنوا له مسكناً في قرية السلّاطة من القرى القريبة إلى ديفة، وعاش فيه حتى نهاية حياته ودُفن قربه حيث يوجد الآن مقامه".
مصادر ثقافته وانتشاره العربي
في تلك الحقبة، لم يكن سهلاً الحصول على الكتب والمطبوعات والورق مع فقر مدقع لدى العائلة الصغيرة، وانقطاع سبل الوصول إلى مصادرها في المدن، لذلك كان نسخ الكتب بخط اليد من أهم المصادر لبناء ثقافة الشاب الصغير، ساعده في ذلك حُسن خطّه وتعلمه قواعد العربية بشكل صحيح، وهو ما جعله يتعلم بشكل ذاتي مع ذاكرة حديدية حفظت القرآن. وفي الأحاديث المتداولة يُحكى عن سعي الرجل إلى الحصول على مختلف أنواع الكتب أينما سمع بوجودها، وفي سبيل ذلك كان يقطع المسافات للحصول عليها إعارةً ثم نسخها وإعادتها إلى أصحابها، و"كان من النادر أن يُرى كتاب وقع له وخلت هوامشه من بعض ملاحظاته سواء أكان مخطوطاً أو مطبوعاً، نثراً كان أم شعراً".
إنه جدّك "الروحي"، "مجدّد الدين، وحامي الشريعة، والمؤتمن على النهج والطريقة، خادم المؤمنين الذي بلغ صيته وسمعته الطيبة بلاد الأولين والآخرين"، العلّامة الكبير والأب الروحي لهذا "الشعب"، سليمان الأحمد.
في سعيه هذا، ارتحل بعيداً عن داره حتى وصل إلى صافيتا جنوباً، حيث التقى هناك بمن سيكون صديق عمره؛ الشيخ إبراهيم عبد اللطيف مرهج (من صافيتا، طرطوس وشارح ديوان الخصيبي)، وسيعمل معه على مشاريع تخص الطائفة في محاولة نقلها إلى حالة أفضل، في علاقتها بالمحيط أو في أوضاعها الداخلية بعد أن فقدت معلّميها الكبار منذ قرون، وهو ما سيتجسد لاحقاً في شبكة علاقات أنشآها بجهديهما الفردي مما سيترك أثره على مستقبل الطائفة ككل، وعلى مستقبل سوريا لاحقاً.
ينقل ابنه الدكتور علي، "أنه قد بلغ بجدّه وذكائه وقوة حافظته من علوم اللغة العربية بمفرداتها ومعانيها مبلغاً قلّ نظيره. لم يكن لهم بحضرته حاجة لقاموس ليضبطوا عين الفعل الثلاثي، ولا لمعرفة معنى كلمة غريبة. حتى لقد أطلقوا عليه لقب 'القاموس الحي' أو 'القاموس الناطق' وهكذا انتشرت سمعته واحتل مكانةً مرموقةً كان من الطبيعي أن تأخذ سبيلها إلى الشهرة الواسعة". وللحق، فإنه تمتّع بعربية قلّ نظيرها ويمكن التأكد من ذلك عبر قراءة نقده اللغوي والصرفي للعديد من الكتب التي صدرت في ذلك الزمان، لمؤلفين كبار أمثال الشيخ محي الدين الخيّاط، شارح ديوان أبي تمام، وشارح ديوان الشريف الرضي الشيخ أحمد عباس الأزهري وغيرهما، وتعليقاته على المعرّي.
ساهمت هذه العملية في تحصيله بعضاً من قوت يومه، وإن كان نادراً ما يبيع ويشتري في عمله وأغلبه كان يذهب هبةً للآخرين، وعلى يده تخرّج مئات الذكور ممن أصبحوا في ما بعد قادةً في المجتمعات المحلية حتى قلّ أن تجدَ في الجبال الساحلية من يُحسِن العربية الفصحى إلا من كان تلميذاً له، وغالبية ذاك الجهد ذهب مع أصحابه، يذكرونه به أينما حلّوا.
المصدر الثاني لثقافة العلّامة، كانت المجلات المصرية وعلى رأسها "الهلال" و"المقتطف" و"المقطم"، التي انتشرت بكثافة مطلع القرن الماضي، وكانت تصل إلى الساحل السوري، وتباع بسعر زهيد مع محتوى حديث نسبياً، ووفق حديث ابنه فإنه اشترك في هذه المجلات، فكان تصله بشكل شهري ولو متأخرةً، مساهِمةً في تكوين وعي مقبول قياساً بمعارف تلك الأيام، وقد أتاحت له حضوراً قوياً في العالم الداخلي للطائفة، وانفتاحاً على العالم الخارجي وثقةً بالنفس.
التواصل مع المحيط
مع بلوغه الثلاثين، قام بجولة أولى برفقة صديقه إبراهيم عبد اللطيف مرهج، سنة 1899 في منطقة كيليكيا، حيث يعيش هناك عدد من "الأخوة" العلويين العرب، ويرد ذكر الرحلة من دون تاريخ في كتاب ولده علي، والهدف من هذه الزيارة أنهما "تعرّفا إلى كبار طائفتهما ومشايخها ودعياهم لزيارة إخوانهم ونشرا بينهم عرفانهم"، وعلى الأرجح أنّ تلك الزيارة لم تكن ذات نتيجة ملحوظة، فوضع العلويين في تركيا وقتها لم يكن مختلفاً كثيراً عن وضع نظرائهم السوريين في الحياة الاقتصادية أو القمع العثماني في غياب مرجعية دينية علوية واضحة، وهذه المشكلة سوف تبقى حتى الآن، واحدةً من أهم مشكلات الطائفة العلوية، وأحد أهم أسباب تشرذمها التاريخية، ولن يفلحا في حلها.
أما الرحلة الثانية المفصلية والأكثر أهميةً وتأثيراً، فكانت إلى بيروت ثم صيدا سنة 1904، حيث تعرفا إلى الشيخ العراقي والمرجع الشيعي محمد الحسين آل كاشف الغطاء، وقد نشأت بينهم صداقة طويلة استمرت حتى وفاة العلّامة والشيخ مرهج، ضمنها أجرى الأحمد قراءةً نقديةً لكتاب "الدين والإسلام" للشيخ آل كاشف الغطاء، كما قام بإشهار الكتاب عبر توزيعه في الجبل العلوي، بالإضافة إلى كتب شيعية أخرى طلبها العلامة من الشيخ آل كاشف الغطاء، من العراق والنجف ولبنان. وقد وثّق الشيخ عبد الرحمن الخير، في كتابه "يقظة المسلمين العلويين" (صدر العام 1996)، رحلة بيروت، فكتب: "العلّامتان الأحمد ومرهج زارا إخوانهما من علماء المسلمين الجعفريين في لبنان ودامت المحادثات أياماً عدة أسفرت عن تعارف مذهبي وتفاهم أخوي ومودة صادقة".
الرحلة المفصلية في حياته كانت إلى بيروت ثم صيدا سنة 1904، حيث تعرف إلى المرجع الشيعي محمد الحسين آل كاشف الغطاء
ستثير محاولات الأحمد ومرهج ربط الطائفة العلوية بالشيعة الاثني عشرية، اعتراضات شتى من قبل رجال دين علويين، رأوا أن العلوية مذهب منفصل وإن كان شيعي الطابع، فالعلوية مذهب عرفاني وصوفي له تفسيراته للعالم والكون والخلق مما لا يقترب من التفسيرات الاثني عشرية، وسيكون لافتاً أنّ صاحب كتاب "بحار الأنوار" سيجري تعديلات على وصف العلوية في طبعات كتابه الأحدث، بما يجعلها ضمن البيت الشيعي، وينزع عنها صفة "الغلاة" التي لطالما وُصف بها العلويون.
أسست هذه الرحلة للمرحلة التالية من اتساع سمعة الشيخ سليمان، ففي تلك الحقبة، صدرت بشكل شهري مجلة العرفان في صيدا، التي أنشاها أحمد عارف الزين عام 1909، وسمع بها الشيخ فراسلها، ونشرت له القصائد الشعرية بنوع من الاحتفاء، وعبر المجلة تعرّف إليه قراؤها في العراق ولبنان، وغالبية قصائده في تلك الفترة تركزت على مديح آل البيت واستنهاض الهمم ودعوة المسلمين إلى العلم والمعرفة، وهي منشورة في كتاب ولده عليّ عنه.
في واحدة من رسائله إلى الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، يطلب إليه التعارف مع "المولى الشريف السيد صدر الدين الصدر، ومؤلف كتاب 'نقد فلسفة داروين' (واسمه أبو المجد الأصفهانيّ)، لنستفيد من معارفهما وعوارفهما"، وتشير الرسالة المؤرخة عام 1332 هـ (1913 م)، إلى اهتمام الشيخ بالصراع الذي وصل إلى العالم العربي بين أنصار نظرية التطور الداروينية وأنصار نظرية الخلق الإلهي واطلاعه كذلك على مجمل المناقشات التي دارت حولها في العالم العربي واتخاذه موقفاً نقدياً حادّاً من الإلحاد، ويظهر من مراجعة رسائله وخواطره أنه قرأ في نظرية التطور لداروين وقرأ الغزالي ونيتشه وتاريخ الكنيسة وغيرها.
مراسلاته مع محمد كرد علي
ما أن أصبح الشيخ في الأربعين من عمره (عام 1910)، حتى بات مرجعاً لأبناء طائفته في شؤون الفتوى والحياة، يقصده القوم في مسائل حياتهم اليومية، محارباً ما سماه "التخلف والجهل"، وإيمان الناس الشعبي بالخرافات مثل الجن والدجّالين من رجال الدين بشكل خاص، وقد كانوا كثراً في تلك الجبال وكتب في العديد من قصائده عن تلك الأمور: "أكُلَّما جاء دجَّالٌ بمخرقةٍ/ صدَّقتُموه ولا تصديق إلهام/ جنٌّ وسحرٌ وتنجيمٌ و/ شعوذةٌ وتابعٌ لأيامى أو لأيتام"، وكثيراً ما خاض في جدالات حادّة مع رجال دين محليين يستخدمون الدين لتحقيق مآرب شخصية، وهو ما خلق له أعداءً في مختلف الأوقات واتُّهم بالكفر حيناً بعد أن أنكر الجن الذي يخافه الناس، والوارد ذكره في القرآن، بعد أن قدّم تفسيراً مختلفاً لذكره.
لا نجد علاقةً مباشرةً تجمعه مع رجالات مرحلة اندلاع الثورة العربية الكبرى، وتذكر موسوعة ويكيبيديا أن الشيخ الأحمد عُيّن رئيساً لمحكمة الاستئناف والتمييز الشرعي في عهد الملك فيصل (في سوريا)، أي عهد الدولة السورية الأولى التي دامت بين 1918 و1920. ولا تذكر الموسوعة أين حدث ذلك ومتى، فالدولة السورية الأولى لم تشمل إدارتها الساحل السوري الذي كان تحت إدارة فرنسية منذ العام 1918، كما لم نجد تأكيداً لذلك في الكتب التي درست حياة الشيخ أو في المرويات المحلية.
تظهر الإشارة الأولى إليه خارج حدود الجبل العلوي، في مراسلات وصلته من محمد كرد علي، الرئيس الأول لمجمع اللغة العربية في دمشق (تأسس في العام 1919)، غداة إعداده كتابه "خطط الشام" (طُبع للمرة الأولى عام 1925)، حيث يذكر كرد علي في الجزء السادس من كتابه (طبعة أولى، ص262)، أنه سأل "الأستاذ الشيخ سليمان الأحمد من علمائهم -ويقصد العلويين- فأجاب معتذراً عن التوسع في وصف مذهبهم"، ثم يكمل إجابة الشيخ عن سؤاله مادحاً العلويين وأنهم عرب أقحاح.
تشي إجابة الشيخ الحذرة لمحمد كرد علي، بالطريقة التي اتخذ فيها الأحمد مسار الإصلاح في قلب العلوية، وهو الربط مع الشيعة الاثني عشرية من دون التخلي عن النهج الصوفي، فيقول: "لا فرق بينهم وبين الإمامية إلا ما أوجبته السياسة والبيئة"، ويضيف: "إنّ لهم طريقةً كالنقشبندية والرفاعية وغيرهما من الطرق الصوفية بالنسبة لأهل السنّة، وهذا مصدر التقوّلات الباطلة بحقهم"، والجمع بين الإمامية والتصوف (العرفان)، سيبقى ديدن الشيخ حتى رحيله عن الدنيا.
ويبدو أن العلاقة بين الرجلين استمرت، إذ نجد مجمع اللغة العربية في دمشق بإدارة كرد علي، في العام 1925، يختار الشيخ سليمان الأحمد عضواً مراسلاً، وهي مرتبة شرفية ليكون له بعدها اسم "العلّامة" بشكل رسمي، وليكون بذلك أوّل عضو علوي في المجمع، وقد نقل أنّ المجمع طلب إليه كتابة نبذة عن حياته فكتب: "انخرطت في مدرسة العالم، تلك المدرسة التي كثر معلّموها ومتعلّموها، وبها تلقيت كل ما أعرفه من علوم اللغة والاجتماع دون أن أقف على أستاذ ما" (في كتاب ولده عليّ عنه).
لقاء ماسينيون في الوثائق العلوية
تتناقل الأوساط العلوية خبر لقاء عميد المستشرقين الفرنسيين لويس ماسينيون (1883-1962)، محقق ديوان الحلاج، مع العلامة الأحمد، بكثير من الزهو والفخار. ويذكر العلّامة خبر اللقاء في رسالة وجهها إلى ابنه الدكتور علي، الدارس في فرنسا، في العام 1935، بطريقة خبرية فيها شيء من النقمة على المستشرقين، ويشير فيها إلى زيارة "الأستاذ في كلية اللغات الشرقية الذي قضى السنين الطوال في خدمة اللغة العربية والإنسانية، وأنّ أعماله هذه خدمة للإنسانية وللعلم مجرّدة من السياسة مما لم نجد فائدةً في سرده"، وهو ما لم يعجب العلامة الذي كتب في رسالته تلك: "إنكم، أي المستشرقين، تخدمون الإنسانية إذا أخلصتم النية لأن فلسفة الشرق روحية بحتة وفلسفة الغرب مادية محضة وكلتاهما فيهما بعض النقص من وجهة النظر الاجتماعية"، ويختم رسالته بالإشارة إلى تديّن الرجل ولطفه وأنه لم يضع قبعته على رأسه احتراماً للعلّامة حتى غادر.
عمل الرجل على نشر الوعي بضرورة العلم، ومحاربة الخرافات، ولعلّ كونه من طبقة لا تنتمي إلى طبقة المشايخ التقليديين في العلوية، ساعده في التخفف من أثر تلك الطبقة، محاوراً أولئك المشايخ ومصححاً لهم
زيارة ماسينيون للساحل السوري في وقت الانتداب الفرنسي، كان هدفها إكمال بحثه عن أصول العقيدة النصيرية، وقد كان من أوائل من تتبعوا مصادر العقيدة وصولاً إلى عراق القرن التاسع الميلادي، ولأجل ذلك التقى عدداً من مشايخ العلوية الكبار، ومنهم الأحمد وصالح العلي وكلاهما تهرّبا من تقديم مخطوطات للمستشرق الفرنسي، وتذكر الوقائع المتداولة أنّه زار في العام 1942، بصحبة ضابط فرنسي وآخر بريطاني، الشيخ صالح العلي وقال له: "جِئتُ إليكَ بِدلالةِ 'العلّامة سليمان الأحمد' إذ زرتُهُ وطلبتُ منهُ الاطِّلاع على كُتُبِ العلَوِيّينَ لِتَكوينِ فكرةٍ صحيحةً عنهُم، فأرشَدَني قائلاً: إذا أردتَ الحصولَ على ما تطلُب فعَلَيكَ بزيارةِ الشيخ صالح العلي، فَلَدْيهِ مطلوبك. فَجِئتُ أرجو إطلاعي على كُتبِ العلويّينَ لِمعرفةِ نشوئهِم ودينهم وما هم عليهِ؟ فجَاءَهُ بـ'القرآنِ الكريمِ'، قائلاً: 'هذا كتابُ العَلَوِيّينَ فيهِ دينهم ومُفتَرَضاتهم وما هُم عليه مِن تَعامُلٍ وحلالٍ وحرامٍ'". فردّ ماسينيون: "أريدُ ما هُم عليهِ في حياتهم اليومية مِن معرفةٍ ودينٍ وفلسفةٍ؟ فجاءَهُ بـ'نَهجِ البلاغةِ'، قائِلاً:' هذا منهُ معرفتنا، وفيهِ ما نحنُ عليهِ مِن واجِباتٍ وعِلْمٍ وفلسَفةٍ وتعامل'" (نقلاً عن صفحات تواصل اجتماعي عدة ولم نجد توثيقاً لها في كتاب).
وإذا صحت الواقعة، فإنّ محاولة ماسينيون في الوصول إلى تلك المصادر قد فشلت، واستعاض عنها في كتابته مادته عن "النصيرية" في الموسوعة الإسلامية في العام 1939 بمصادر أخرى، وحاول تجديدها مع صالح العلي عام 1942، لكنه فشل، ويسجَّل لماسينيون مع مؤلفين غربيين اكتشاف وشرح عقائد الأقليات الشيعية الطرفية (المُغالية) في الإسلام مثل النصيرية.
دوره في المجتمع العلوي
خلال حياته، عمل العلامة الأحمد على خطّين أساسيين في محاولة إخراج الطائفة العلوية من سباتها التاريخي وعدم فاعليتها في المنطقة الشامية، التغيير الداخلي في بنية الطائفة نفسها لجهة محاربة الجهل الكبير والتخلف والأمية، عبر التعليم ومحاولة إنشاء مدارس في الجبل العلوي ومناهج تعليمية شاركه في فكرتها الشيخ إبراهيم عبد اللطيف، ولم يفلحا في ذلك إلا على نطاق ضيق جداً، إلا أن البذور التي غرساها في تلاميذ ومريدين استمرت بالنمو حتى تأسيس أول مدرسة عمومية غير تبشيرية في قضاء صافيتا (بحمرة)، قبل نهاية القرن التاسع عشر، في حين بنى الفرنسيون عدداً من المدارس التبشيرية والعلمانية منذ العام 1901.
غداة تعيينه عضواً في مجمع اللغة العربية، كتب: "صرفت عمري بعيداً عن السياسة وأهلها موجهاً وجهي إلى إيجاد نهضة في المحيط الذي خرجت منه وبه درجت، فكان لي بعض ما أردت، والحمد لله، ولا فضل لي بذلك وإنما الفضل بعد توفيق الله تعالى، لحسن النية وإخلاص العمل، وبقيت على عزلتي حتى شرفتني الحكومة (السورية 1925) الآن بثقافتها ونيطت لي بغير استحقاق وقبلت بدون اختيار الرتبة التي أنا فيها الآن".
يتضح ابتعاده عن السياسة بشكلها المباشر في العديد من المشكلات التي طرأت على المجتمع العلوي دون أن يحضر فيها أو يمارس ثقله في محاولة حلها، فلا يذكر أنه تدخّل في مشكلة سلمان المرشد التي بدأت منذ العام 1923، ولم تنتهِ حتى إعلان الدعوة المرشدية على يد ابن المرشد مجيب الذي قتله الشيشكلي.
في المقابل، عمل الرجل مع رجال دين آخرين على نشر الوعي بضرورة العلم، ومحاربة الجهل والخرافات، ولعلّ كونه من طبقة لا تنتمي إلى طبقة المشايخ التقليديين في العلوية، ساعده في التخفف من أثر تلك الطبقة، محاوراً أولئك المشايخ ومصححاً لهم العديد من المفاهيم الدينية والدنيوية التي استغلقت عليهم، عادّاً معارضتهم "نوعاً من الأخوّة بالله"، وهناك توثيق للقاء جماهيري في إحدى القرى يشرح فيه الشيخ الأحمد مصطلحات الزمان والأيام ودوران الأرض حول الشمس، وهو ما كان يتعارض مع قناعات أولئك المشايخ، وله عبارة تقول ما معناه إنّ القمر الوارد في النصوص الدينية العلوية هو قمر صوري وليس المقصود به القمر الذي نراه.
يتضح ابتعاده عن السياسة بشكلها المباشر في العديد من المشكلات التي طرأت على المجتمع العلوي
الربط مع الفقه الجعفري الإمامي
المسار الثاني كان متشابكاً مع قناعة العلامة بأنّ أمور الفقه والدنيا بحاجة إلى ضبط مرجعي في الحياة اليومية للطائفة من زواج وطلاق وإرث ونقل ملكيات وغير ذلك مما لا يتوفر في أدبيات الطائفة التاريخية بشكل كافٍ، وغالبية الأدبيات ترتبط بالطقس الديني مثل الأعياد أو التعليم الديني وطقوسه، ولذلك استعاد الشيخ الانتماء العلوي إلى الشيعة الجعفرية، مذهب الطائفة الأساسي، في الحياة اليومية بصفته أحد المذاهب الإسلامية، وهو يشير إلى ذلك بوضوح في إجابته عن سؤال كرد علي، وتكررت الإجابة في حوارات أخرى لرجال دين علويين مهمين، منهم الشيخ عبد الرحمن الخير، مما بات أساسياً في تقاضي الطائفة على مذهب الإمام جعفر الصادق.
أعاد العلّامة شرح كثير من المفاهيم بما يتناسب مع التطورات في العالم والمجتمع، ومن ذلك قوله: "إنّ الفقه في الدين معرفة أصوله وأحكام قواعده والبناء على أسسه المتينة، أما التفقُّه في المذهب فهو التمييز بين حقائقه ومجازاته وردّ الفروع إلى الأصول، والمتشابه منه إلى المحكم، ووقوف الفقيه عند ما لم يرد به نصّ عند حدّه ونحو ذلك، وليس الفقهُ استنباط العقائد من الروايات بالأهواء والآراء، لأن العقائد وضع الحق سبحانه على ألسنة المُشترِعين في التوراة والإنجيل والقرآن" (وردت في كتاب "مدرسة العلامة الأوحد الشيخ سليمان الأحمد"، تأليف محمود عبد الرحمن، من دون دار نشر ولا تاريخ).
نسوي مبكر
أنجبت زوجته الأولى رائجة عدداً من الأولاد، منهم بنت هي الأكبر بين أولاده، اسمها المرحومة سكينة، وصبي هو محمد، الشاعر المعروف بلقبه "بدوي الجبل"، وقد توفي مطلع الثمانينيات في دمشق. وبعد سنوات على وفاة زوجته، تزوج من ابنة الشيخ محمد من قرية دير إبراهيم، وقد أنجبت أولاداً هم: فاطمة وتوفيت في العام 1985، ثم الطبيب علي الذي كان من أوائل من قصدوا أوروبا مطلع الثلاثينيات لطلب العلم وتخرج طبيباً.
شجّع العلّامة على تعليم المرأة فكان من أول الداعين إلى تعليمها ودفعها إلى العمل في المجتمع والحياة، ولم يكتفِ بالدعم بل انتقل إلى التنفيذ عبر تعليمه ابنته الكبرى "فاطمة"، ودفعها للمشاركة في الحياة الثقافية برغم زواجها المبكر من الشيخ كامل الصالح، الذي كان هو الآخر من أنصار العلّامة، ومن أنصار تعليم المرأة.
كتبت فاطمة الشعر ربما قبل أخيها الشاعر الكبير بدوي الجبل، ونشرت أولى قصائدها وهي في الرابعة عشر من عمرها في العام 1924، في جريدة المعرض في العددين 344 و349، واشتهرت في الحياة الأدبية باسم "فتاة غسان"، كما كتبت مقالات دعت فيها إلى استنهاض الشباب وتحرير المرأة ومنحها فرص التعليم، وشعرها يمثّل مرحلةً مهمةً من تاريخ سوريا وتُعدّ فاطمة رائدةً من رواد النهضة، لم تتردد في خوض معركة التنوير. بناته الأخريات لم يكن أقلّ تعليماً منها، فقد تخرّجت آمنة من دار المعلمين وبقيت في تربية الأجيال الناشئة حتى سن التقاعد. وكانت ابنته الدكتورة جُمانة، أوّل طبيبة علوية شغلت مناصب عدة في وزارة الصحة، كان آخرها إدارة مدرسة التمريض، وقد عُرفت باستقامتها وتفانيها في عملها.
شرح ديوان المكزون السنجاري
الأمير الحسن بن يوسف، المشهور بالمكزون السنجاري (583/ 638 هـ)، شاعر متصوف وقائد عسكري عاش في نهايات القرن الحادي عشر، وقام بحملة عسكرية من سنجار العراق ثبّت فيها الوجود العلوي على الساحل السوري بشكل نهائي، ويُعدّ من الآباء المؤسسين للطائفة، وله ديوان شعر صوفي بقي غير محقق قرابة ثمانية قرون لأسباب ربما ارتبطت بكونه علوياً، إذ تجاهله مؤرخو تلك الحقبة مثل ابن الأثير وابن الفوطي.
بطلب من الشيخ محمد ياسين آل يونس، قام الشيخ الأحمد بشرح ديوان المكزون للمرة الأولى في العام 1899، ثم أعاد فيه النظر بعد عامين، ومرةً ثالثةً في العام 1914، ومرةً أخيرةً في العام 1915، وهي النسخة المتداولة حالياً بين الجمهور، وهي مكتوبة بخط يده، وقد اعتمدها اللاحقون ممن أعادوا استقراء حياة المتصوف الكبير المكزون السنجاري وشعره، ومنهم الدكتور أسعد علي في العام 1975، وحامد حسن وغيرهما.
فتواه الشهيرة بعد مشاكل بين العلويين والسُنة: هذه الفوضى خارجة عن الدين والإنسانية، والواجب إرجاع المسلوبات إلى أهلها، ومن منعته الجهالة والعصبية من الانقياد إلى أمر الله فليُهجر ولا يُعاشر
تميّز شرح الأحمد لديوان المكزون، بمحاولته تقريبه إلى الجمهور، فما أنتجه المكزون كتبه بلغة صوفية ورمزية عالية المستوى تتفوق في بعض منها على أشعار متصوفين كبار من أمثال الحلاج والسهروردي، وحتى اليوم ليس من السهل فهم الديوان لمن لا يملك باعاً طويلاً في مفاهيم التصوّف وعلومه. ويُعدّ هذا الإنجاز للشيخ الأحمد، أحد أهم إنجازاته في مجال العرفانية العلوية، ومن الجميل أنه حقق الديوان تحقيقاً علمياً، فصحح الأخطاء النحوية واللغوية الواردة فيه واستبعد نسب بعض القصائد إلى المكزون، وأضاف غيرها، لكنه لم يضع مقدمةً تاريخيةً ولم يقدّم دراسةً لحياة المكزون، وهو ما سيفعله آخرون لاحقاً مع تيسّر الأدوات المناسبة.
مع الفرنسيين والدولة العلوية
سيطرت فرنسا على الساحل السوري في العام 1918، وفي العام التالي اندلعت الثورة العلوية ضدها بقيادة المجاهد صالح العلي، الذي كانت بين والده الشيخ علي سلمان المريقب والأحمد علاقة عرفانية ومدائح، ولكن الغريب أننا لا نجد مديحاً للمجاهد العلي في شعر الأحمد، في حين نجد قصائد في مديح آخرين، منها قصيدة يرثي فيها الأمير الشهيد محمد أرسلان، نائب اللاذقية في مجلس "المبعوثان" العثماني وأخرى يمدح فيها الثائر العلوي إسماعيل هوّاش.
في العام 1918، بات "سنجق اللاذقية" حكماً ذاتياً تحت الحكم الفرنسي، ثم دُمج تحت الانتداب وتم إعلانه دولةُ عاصمتها مدينة اللاذقية استمرت حتى العام 1936، وفي الحقبة بين 1920 و1936، حاول الفرنسيون إضفاء طابع الدولة الحقيقي على الإقليم، مثلما فعلوا مع بقية الجغرافيات السورية، وفي سبيل ذلك بدأوا بتأسيس نظام محاكم مذهبي وآخر مدني، وعملوا على توسيع انتشار التعليم العلماني والزراعة، ولأجل ذلك استعانوا بالقادة المحليين لتحقيق أهدافهم التي لم تخرج برغم شكلها المدني والحضاري عن حقيقة الاستفادة من البلاد اقتصادياً وثقافياً بكل الطرق المتاحة، وبالمثل، وجدت المجتمعات المحلية السورية، خاصةً الريفية، الفرصة للخروج من عتمتها التي عاشت فيها قروناً أيام العثمانيين، تحت نير الإقطاع العسكري والمحلي، وللحق والتاريخ، فإنّ الكثير من المشاريع أقيمت في ذلك العهد.
في العام 1922، وفق توثيق الدكتور عليّ، حضر مدير العدلية الفرنسي "روسيه" إليه في قريته "السّلاطة"، وقد أبلغه بما يشبه الإلزام بتولّي منصب قاضي "قضاة المذهب العلوي"، وهو ما قبله الأحمد بعد أن اتفق معه على حريته في التصرف في تقرير قواعد المذهب وعدم التدخل الفرنسي في مجرياته.
منذ قبوله التعيين، عمل على تنظيم المرجعية الفقهية لمنصبه، وتراسل مع كبار علماء الشيعة بحثاً عن مراجع تفيده في سعيه إلى وضع أسس المذهب الجعفري في منطقته، فراسل "كاشف الغطاء" ثم محسن الأمين العاملي المرجعية الشيعية العربية المعروفة، وصاحب كتاب "أعيان الشيعة". وتشير رسالة من العاملي إليه محررة عام 1923 م، إلى بحثه عن قانون للقضاة الشيعة يرجعون إليه عند اللزوم في إبراز الأحكام والإعلامات، وكان جواب العاملي أنه "لا يوجد سوى الكتب الفقهية لأن القضاة الشيعة لم يكونوا إلا في هذا الزمن" (من مراسلاته مع العاملي).
محاولة اعتماد المذهب الجعفري الشيعي حسب ولده عليّ، لم تلقَ ترحيباً من الانتداب، ولذلك سعى الجنرال الفرنسي غاستون بيوت (1875-1940)، حاكم دولة اللاذقية (1921-1922)، إلى ثنيه عن ذلك واعتماد مذهب علوي خاص والعرف السائد، ولكن الشيخ انتفض في وجه الجنرال وقال له: "سيادة الجنرال سواء عبدنا الحجر، أو عبدنا المدر، فليقيننا أن هذا هو ما جاء به محمد بن عبد الله، فلِشاكٍ أن يشك في صحة فهمنا، لما جاء به محمد (ص)، ولكن لا مجال لأي شك في انتسابنا، واتّباعنا له" (كتاب ولده عليّ، ص 33).
بعد بضعة أشهر من ذلك اللقاء غير المحدد تاريخه بدقة، انتهى الشيخ الأحمد من ترتيب المحاكم المذهبية وزوّدها بالمراجع الفقهية والقانونية المناسبة، ثم فاجأ الجميع باستقالته والعودة إلى سياق حياته الطبيعي. ومما يُذكر عنه أنه كان شديد الحذر في الفتوى، فلا يقوم بها إلا بعد لأي وإلحاح. وقد أدّى اعتماد المذهب الجعفري إلى ظهور العلوية كمذهب إسلامي في سياق المذاهب المعتمدة في التقاضي الشرعي في الدولة السورية، وصولاً إلى العام 1951 حين صدر قانون عن حسني الزعيم باعتماد رجال دين علويين تابعين لوزارة الأوقاف.
فتواه الأشهر
انتهى الشيخ الأحمد من ترتيب المحاكم المذهبية وزوّدها بالمراجع الفقهية والقانونية المناسبة، ثم فاجأ الجميع باستقالته
بين عامي 1920 و1921، حاول الانتداب إشعال فتنة في الجبل العلوي بين العلويين والسنّة المقيمين في منطقة الحفة، ولأهداف تكررت في مناطق أخرى من سوريا، وحسب مراجع عدة فإنّ هناك من حرّض بعض سُنّة قرى الحفة على بعض العلويين وعلى قتل بعضهم، وهو ما دفع سكان القرى العلوية المجاورة إلى الانتقام، وسلب الأموال والأرزاق، وكبرت القصة حتى تطورت إلى معارك كرّ وفرّ بين أبناء هذه القرى، فتداعى علماء الجبل للاجتماع، وبحثوا الأوضاع وحالات السلب والنهب الحاصلة، وكلّف الشيخ صالح ناصر الحكيم، الشيخ الأحمد، بإصدار فتوى دينية رسمية باسم المرجعية العلوية حول رأي علماء الطائفة في هذه الأحداث، فكانت فتواه الشهيرة وفحواها أنّ "هذه الفوضى خارجة عن الدين والإنسانية، والواجب إرجاع المسلوبات إلى أهلها، ومن منعته الجهالة والعصبية من الانقياد إلى أمر الله وطاعة المؤمنين فليُهجر ولا يُعاشر، ولا يجوز أن تُقبل منه صدقة ولا زكاة ولا يُصلى عليه إذا مات حتى يفيء إلى أمر الله، وإذا وُجد من المشايخ من يتساهل مع أهل الجهالة يُعامل معاملتهم"، ووقّعها باسم "خادم الشريعة الإسلامية المقدّسة سليمان الأحمد" (ص 30).
كثيراً ما تمت استعادة الفتوى في سياق الحرب السورية وكثرة عمليات التعفيش التي قامت بها القوى العسكرية في مناطق سيطرتها (من دون استثناء)، وإن كان اتهام قوى السلطة (العلوية) قد شاع أكثر من غيره. وتبعاً للفتوى، فإنّ سرقة أي بيت في ساحة حرب، هجره صاحبه مجبراً، ليست غنيمة حرب بأي شكل، ويذكر بعض الناس من تلك الفترة أنّ أهالي القرى لم يدفنوا موتاهم حتى تمت إعادة كل المسروقات إلى مالكيها.
رحيله عن الدنيا وتنوّره
مع وصول العلّامة إلى الخامسة والسبعين، أقامت محافظة اللاذقية حفلاً تكريمياً له في مقهى "شناتا" (اللاذقية)، في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 1938، وشارك فيه مع عشرات الأدباء والسياسيين من العالم العربي، ولم تمضِ سنوات أربع على حفل التكريم باليوبيل الذهبي حتى كان العلّامة قد غادر الدنيا مطلع العام 1942، وقد أقيمت له جنازة مهيبة في قريته صلّى على جثمانه فيها الشيخ عبد اللطيف سعّود والشيخ عبد الهادي حيدر وغيرهما، ولاحقاً أقيم حفل تأبين له في اللاذقية شارك فيه العديد من الشخصيات السورية.
يمكن مماهاة دور العلّامة الأحمد نسبياً مع أدوار مصلحين عرب آخرين ظهروا مطلع القرن من الباب الديني، وبالطبع يختلف الأثر الذي تمكنوا من إنتاجه في مجتمعاتهم تبعاً لعوامل كثيرة، ولكن الثابت أنهم حاولوا جاهدين بكثير من الصدق مع أنفسهم ومع جمهورهم. يوضح ذلك، بيتان من الشعر، للعلّامة قام أبي قبل رحيله العام الماضي، بنسخهما على ورقة ألصقها على صورة العلّامة في بيتنا:
"ربي لك الحمد على نعمة/ منحتنيها لست مــن أهـلهـا
أخشى على نفسي من علمها/ أضعاف ما أخشاه من جهلها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.