شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
النفط والانقسام والتعدد... لن تهدأ كركوك حتى

النفط والانقسام والتعدد... لن تهدأ كركوك حتى "قيام الساعة"

تأبى المشكلات أن تغادر محافظة كركوك. فالمحافظة تعيش بين أزمة إلى أخرى، ومن عنف إلى توتر أمني، وآخرها تظاهرات عارمة، تشهدها منذ يوم 27 آب/ أغسطس الماضي. اعتصامات عربية وتركمانية، نُظّمت أمام مقر العمليات الأمنية المتقدم في كركوك-كرميان، إثر الإعلان عن اعتزام الحكومة تسليم المقر الذي يسيطر عليها الجيش والقوات الأمنية العراقية، إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، بناءً على تفاهمات توصلت إليها الحكومتان الاتحادية والكردية، مطلع الشهر الماضي.

اشتعلت حدة التظاهرات يوم السبت، 2 أيلول/ سبتمبر الجاري، بعد أن نظم مناصرو الحزب الديمقراطي، تظاهرات موازيةً لتظاهرات العرب والتركمان، تنديداً بتأخر تسليم المقر إلى القوات الكردية.

احتكاك مسلح بين الطرفين، كان لا بد منه وفقاً لمسار الأزمة. 4 قتلى، بالإضافة إلى 15 جريحاً من كلا الطرفين، هم حصيلة هذا الاحتكاك. إثر ذلك، تصاعدت حدة الأزمة، وشنّت الجيوش الشعبية الغاضبة، هجومها على مناطق الآخر، وأحرقت السيارات، واعتدت على القوات الأمنية.

هذا الواقع المستجد، دفع الحكومة إلى الاستنفار، وحظر التجوال داخل المحافظة، مع إغلاق الطرق المؤدية إليها، لتفادي انفجار الأوضاع الأمنية، ولتهدئة المتظاهرين، وأعلن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، التريث في تسليم مبنى المقر، كما أصدرت المحكمة الاتحادية، في 3 أيلول/ سبتمبر، أمراً ولائياً، يلزم السلطات كافة، بوقف تسليم المقار إلى الحزب الديمقراطي، إلى حين حل الدعوى القضائية المقامة بهذا الخصوص، والتي رفعها رئيس تحالف العروبة في المحافظة، وصفي العاصي، وأكد فيها أن المبنى يعود إلى وزارة المالية، وليس إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني.

خلفية الحادثة

في مطلع شهر آب/ أغسطس الماضي، توصلت كلٌّ من بغداد وأربيل إلى توافق نادر، من أجل حلحلة المشكلات الحاصلة بينهما، وبحسب مصادر متعددة في المحافظة، فإن الحل شمل إعادة بعض المقار التي تشغلها القوات الأمنية الاتحادية إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومن بينها مقر عمليات كركوك، حيث يتمركز الجيش العراقي والحشد الشعبي.

كان الحزب الديمقراطي الكردستاني يسيطر على المقر قبل عام 2017، وأُخلي منه، على إثر إعلان الجيش العراقي بسط سيطرته على المحافظة، بعد استفتاء استقلال إقليم كردستان، وإعلان محافظة كركوك جزءاً منه.

لم يقتصر الاتفاق الذي جمع الطرفين الاتحادي والإقليمي، على تسليم المقر الأمني فحسب، ولكنه بحسب المعلومات التي حصل عليها رصيف22، شمل أبنيةً أخرى، كان الحزب الديمقراطي الكردستاني، يشغلها سابقاً، ولكن التركيز الشعبي والإعلامي، سُلّط بشكل أكبر على هذا المقر حصراً، والذي يُستخدم حالياً مركزاً متقدماً للعمليات الأمنية في كركوك.

مزيج نادر، تضمه محافظة كركوك. قوميات وطوائف مختلفة، تقطن فيها منذ القدم، عربية وكردية وتركمانية، بالإضافة إلى الأشوريين، ويسكن الشيعة والسنّة والمسيحيون، فهل التعدد سبب أزماتها؟

العرب والتركمان، عدّوا تسليم الحكومة لهذه المباني إلى الحزب الكردي، بمثابة ضربة لهم، وتمهيداً لفصل المحافظة عن الحكومة الاتحادية، وضمها إلى الإقليم، وهو ما أثار سخطهم، ودفعهم للتظاهر، فيما استبشر الأكراد بهذا القرار خيراً.

قنبلة موقوتة

مزيج نادر، تضمه محافظة كركوك. قوميات وطوائف مختلفة، تقطن فيها منذ القدم، عربية وكردية وتركمانية، بالإضافة إلى الأشوريين، ويسكن الشيعة والسنّة فيها بشكل كبير، ومسيحيون بكثرة، ما جعلها متنوعةً بشكل كبير، وفي الوقت نفسه، من أكثر المحافظات تأثراً بالأزمات السياسية، منذ عام 2003.

مصدر مطّلع على ما يجري في المفاوضات التي جمعت الطرفين الاتحادي والكردي، يؤكد أن بعض أحزاب الإطار التنسيقي هي التي دشّنت أول الاعتصامات، ودفعت بوكلائها داخل كركوك إلى التحشيد الشعبي والإعلامي، من أجل ذلك توقف تسليم المقار إلى الحكومة الكردية، وكذلك الحال بالنسبة للأخيرة، التي حشدت تظاهراتها لتسريع عملية تسليم المقر إلى الحزب الديمقراطي.

وبحسب تصريح المصدر لرصيف22، فإن سبب الاعتراض داخل الإطار التنسيقي، يكمن في رغبتهم في إبعاد الأكراد عن الحقول النفطية في المحافظة، وإبقاء سيطرتهم الحالية عليها.

معظم مشكلات العراق، مرتبطة بشكل وثيق، بملف الثروة النفطية، هذه الثروة التي تثير الخلافات بدلاً من أن تكون خيراً على الشعب العراقي، وكركوك على وجه الخصوص، منذ اكتشاف حقول النفط فيها، وتأميمها، ما حول اسمها إلى محافظة التأميم، قبل إعادتها إلى كركوك بعد عام 2003.

تمتلك المحافظة أول الحقول النفطية المكتشفة في البلاد، وهو حقل بابا كركر الذي اكتُشف في 14 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1927، ويُعدّ ثاني أكبر حقل إنتاج نفطي في العالم، وخامس أكبر حقول العالم باحتياطه النفطي الذي يفوق 10 مليارات برميل من النفط الخام والنقي، كما تُعدّ محطة تصدير النفط العراقي إلى ميناء جيهان التركي منذ عام 1934.

كانت للحكومة العراقية اليد العليا في المحافظة بعد عام 2003، بسبب سيطرتها على أنابيب التصدير، ولكن عمليات إرهابيةً شنّها تنظيم الدولة الإسلامية، أدت إلى إعطاب هذه الأنابيب، وعمدت أربيل فوراً إلى بناء محطة جديدة، وبدأت في عام 2014 بتشغيلها بعيداً عن الحكومة العراقية.

سيطرة بغداد على حقول النفط كانت على الورق فحسب، قبل عام 2017، فيما تسيطر أربيل عليها فعلياً

ولفهم المسألة أكثر، فإن سيطرة بغداد على هذه الحقول كانت على الورق فحسب، قبل عام 2017، فيما تسيطر أربيل عليها فعلياً. وبسبب ذلك، سادت المودة لفترة طويلة بين أنقرة وأربيل، واستغلت الأخيرة هذا الأمر، وأقنعت الحكومة التركية بمنحها امتيازات لتصدير نفطها الخاص عبر أنابيب التصدير الاتحادية في المحافظة، بالإضافة إلى فرض رسوم على تصدير النفط العراقي عبر محطتها، وهو ما دفع بالحكومة المركزية إلى منع أربيل من تصدير نفطها إلى موانئ البحر المتوسط.

الحكومة التركية لم تُبدِ سعادتها بهذا القرار، ورفضت الالتزام به، ورداً على ذلك اتجهت الحكومة الاتحادية إلى تفعيل الدعوى المقامة ضد تركيا، لدى المحكمة الدولية، وحكمت الأخيرة في 25 آذار/ مارس الماضي، بإلزام تركيا، تسديد مبلغ مليار ونصف مليار دولار إلى الحكومة العراقية، والالتزام بقوانين الحكومة الاتحادية العراقية.

يقول الباحث السياسي محمد العزي، إن هذه الغرامة عقّدت الأزمة الدبلوماسية بين بغداد وأنقرة وأربيل في آن واحد، وحاول الحزب الديمقراطي الكردستاني، كسرها، عبر تقديم إغراءات إلى الجانب التركي، ولكن الأخير يتخوف من إعادة سيناريو الغرامة المفروضة عليه.

ويضيف لرصيف22، أن "تركيا توصلت إلى تفاهمات مع بغداد، لإعادة تصدير النفط مع تحويل مردوده إلى حسابات وزارة النفط العراقية حصراً، مقابل وقف الدعوى القضائية"، ويستدرك أن "أربيل، ما أن علمت بالاتفاق حتى سارعت إلى استمالة حكومة بغداد، التي وافقت على إعادة المقار لها، مقابل تسليم المحطة النفطية إلى وزارة النفط الاتحادية، الأمر الذي يحفز أربيل على الانتقام من الجبهة التركمانية والتركمان نكايةً بقرار أنقرة".

الانتخابات المحلية

موافقة ائتلاف إدارة الدولة على تسليم المقار إلى الحكومة الكردية، لم يرضِ كافة قادته، إذ يرغب الأخيرون في تفادي ذلك، ليس بسبب الملف النفطي فحسب، ولكن يدرك هؤلاء أن عودة الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى مقاره، سيعزز استعدادات الأخير للانتخابات المحلية، وهو ما سينعكس سلباً على أدائه الانتخابي فيها.

الجانب الكردي يرغب بدوره في العودة إلى رئاسة المحافظة، التي سبق أن شغلها منذ عام 2003، وطردهم منها في عام 2017، وتعيين راكان الجبوري، كأول محافظ عربي للمحافظة منذ احتلال البلاد، ومن أجل تسهيل عودته، سارع إلى توجيه أتباعه لاعتراض تظاهرات خصومه العرب والتركمان.

ويسود اعتقاد شائع بأن عصائب أهل الحق، هي أبرز الأطراف المعترضة على عودة الحزب الديمقراطي إلى مقاره، إذ ترغب في الإبقاء على نفوذها الحالي داخل المدينة، وحدودها، وتعمل ماكينتها الإعلامية على دعم مرشحين معيّنين، لتنفيذ هذا الطموح، وكذلك بالنسبة للأكراد، حيث باشروا الإعلان عن مرشحيهم في المحافظة، ودعم مرشحين عرب آخرين، لكسب مقاعد إضافية تمهد لعودتهم إليها.

عصائب أهل الحق، هي أبرز الأطراف المعترضة على عودة الحزب الديمقراطي إلى مقاره، إذ ترغب في الإبقاء على نفوذها الحالي داخل المدينة، فلماذا التمسك بها وهل لما يحصل علاقة بالانتخابات المحلية؟

مثل هذا الدعم، جعل المحافظة أشبه بالقنبلة الموقوتة، وأدت الحساسية السياسية الحالية إلى تفجيرها، ويؤكد مصدر مطلع في محافظة كركوك أن الأزمة الأخيرة لن تنتهي حالياً، وأن إشارات عدة تؤكد وجود تفاهمات سياسية من أجل تأجيج الوضع بشكل أكبر، لإبعاد المحافظة عن انتخابات مجالس المحافظات.

ومن ثم فإن الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها في منتصف كانون الأول/ ديسمبر القادم، هي واحدة من أبرز أسباب الأزمة الأخيرة التي شهدتها المحافظة.

يُذكر أن العراق خاض 3 دورات لانتخابات المجالس المحلية، ولكن كركوك لم تخُض سوى واحدة فقط، بسبب الاضطرابات المستمرة بين بغداد وأربيل.

منفذ حدودي بارز

تقع محافظة كركوك في شمال شرق البلاد، على الحدود العراقية الإيرانية، بالإضافة الى ذلك، فهي معبر رابط بين إقليم كردستان وباقي المحافظات الجنوبية، ويجعلها موقعها الإستراتيجي، مقراً أساسياً للتهريب.

الأحزاب السياسية من كلا الجانبين العربي والكردي، تدرك أهمية هذا الجانب، وترغب في استمرار الفوضى في المحافظة لاستمرار عمليات التهريب، ليس تهريب النفط فحسب، ولكن كل البضائع الداخلة إلى البلاد بصورة غير شرعية، كالدراجات النارية القادمة من إيران، والبضائع التجارية، ومواد البناء.

مصدر أمني في محافظة كركوك، يؤكد أن الأحزاب العربية والكردية تتصارع في ما بينها من أجل السيطرة على هذه المنافذ، نظراً إلى مردودها المالي الضخم، ويؤكد تورّط الأجهزة الأمنية في ذلك.

ويوضح لرصيف22، أن الأحزاب السياسية تسعى من أجل وضع القادة الأمنيين المقربين منها، في المواقع الأمنية الحساسة، من أجل تسهيل استمرار عمليات التهريب، بعيداً عن الرقابة والحساب.

النفط، المزيج السكاني المتنوع، حدود المنطقة، كل ذلك جعل من المحافظة أشبه بمحطة لتجييش الصراعات السياسية، ليس في الوقت الحالي فحسب، ولكن منذ سنوات سالفة.

لن تهدأ كركوك حتى "قيام الساعة"، كما يقول سياسي متابع للأزمات المتجددة في المنطقة، إذا ما استمرت الأحزاب السياسية في توظيف جماهيرها كوقود لخلافاتها، الأمر الذي جعل من المحافظة أشبه بمحطة لتصريف الصراعات السياسية بين المكونات العراقية المتشعبة.

وفي حين تخضع الجماهير لخلافات الأحزاب السياسية، تقف المحافظة على خيط رفيع قد يؤدي إلى الانفجار، وتالياً إلى إحراقها بقاطنيها، أو جرّ العراق إلى محصلات جديدة من الأزمات السياسية بسبب أخطاء اقترفها السياسيون.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image