شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
تاريخ التشيّع في العراق... ما للوالي العثماني من أثر

تاريخ التشيّع في العراق... ما للوالي العثماني من أثر

سياسة نحن والتاريخ

الخميس 15 يونيو 202312:00 م


تُعدّ المعرفة المكتسبة بالتلقّي عن التشيع، مستقاةً بالدرجة الرئيسية من العدد الكبير من الدراسات التي تدرس المذهب الجعفري في إيران، والمجتمع الإيراني على وجه الخصوص. وفي حين أن هذه الدراسات تسلط الضوء على التشيع في إيران، فإنها أثرت على الفهم العام لطبيعة المذهب الجعفري عموماً، الذي أصبح متماهياً مع الثقافة الإيرانية والقيم الاجتماعية الإيرانية.

لكن هذه الدراسات، أغفلت جانباً مهماً وأساسياً من التشيع كمذهب إسلامي، وهم الشيعة العراقيون (العرب) كونهم الجذر الأساسي للتشيع، خاصةً في بلد بأهمية العراق. ويمكن أن يعزى ذلك إلى ضآلة الدراسات والكتابات التي تعالج المجتمع الشيعي العراقي، ومدن العتبات المقدسة فيه.

يقول هاينس هالم، في كتابه "الشيعة": "كان مركز الشيعة السياسي كما الديني والنقطة التي انطلقوا منها، المدينة العراقية الكوفة، التي أسسها العرب على نهر الفرات. أي أن الشيعة نشأت في العراق وفي وسط عربي بحت. يمكن تحديد زمن نشوء الشيعة في الأعوام الواقعة بين مأساة كربلاء (680 م) ومسيرة الموت (الاستشهاد) التي قام بها التوّابون الكوفيون في سنة (684 م)".

الأقلية تاريخياً

لطالما كان الشيعة في العراق أقليةً لا تتعدّى حدود مدن المقامات المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية. هذه الأقلية لم تستطع أن تمارس أي دور سياسي أو فكري بشكل واضح سواء في العصر الأموي أو العباسي، وما تلاهما، عندما أصبح العراق منطقة نزاع بين الصفويين والعثمانيين، وذلك لأنها دائماً ما تم إقصاؤهم سياسياً وفكرياً، إلا أن هذه الأقلية منذ بداية القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر، أخذت بالتزايد بشكل ملحوظ بالنسبة إلى الدولة العثمانية، نتيجة الإصلاحات السياسة والتنظيمات المركزية للولايات العثمانية التي ازدادت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي عملت على ربط جميع الولايات العثمانية بشكل مباشر بالباب العالي في إسطنبول.

يشرح د. كوكهان جيتين سايا، في كتاب "مشكلة الشيعة والتشيع في العراق العثماني"، أن من آثار هذه السياسة "تناقص إيرادات الوقف من الأراضي التي كانت تدعم المدارس الدينية السنية، والعلماء، وتحوّلها بشكل تدريجي إلى خزينة الحكومة، فكان من نتيجة ذلك انخفاض القدرة المالية، وتالياً ضعف المدارس الدينية السنية، إزاء المدارس الشيعية في النجف وكربلاء والكاظمية، التي كانت تُموَّل من التبرعات، التي تصل من إيران، والهند إلى العتبات المقدسة".

تناقصت إيرادات الوقف التي كانت تدعم المدارس الدينية السنية، والعلماء في القرن الثامن عشر، فيما استمر تدفق الأموال إلى المدارس الشيعية في النجف وكربلاء والكاظمية، من التبرعات التي تصل من إيران، والهند!

ويروي أيضاً أن الحكومة الإيرانية وضعت منحةً سنويةً للأضرحة (العتبات المقدسة). تُضاف إلى هذه المنحة والتبرعات، منحة مالية خيرية سنوية كانت تأتي من وقف أوَدة في الهند، وكانت توزع في العتبات.

وحكم الشيعة دولة أوَدة، وقد اتخذ حكامها من فيض آباد عاصمةً لهم، ثم انتقلت العاصمة إلى لكانو، وقد حكمت هذه الدولة زهاء 134 عاماً، وامتد حكمها بين عامي (1722-1856 م).

في تاريخ 24 آذار/ مارس 1891، يجيب والي بغداد سري باشا، في تقرير موجه إلى السلطان بعد أن طلب منه إبداء الرأي في تقرير أعدّته لجنة تفتيش عسكرية شُكلت في منتصف سنة 1890، وكانت قد أرسلت إلى العراق للتحقق من ارتفاع نسبة الشيعة في الجيش العثماني السادس الذي كان مقره في بغداد.

الدور العثماني

في تقريره، يُعرب سري باشا عن قلق كبير من التمدد الشيعي، محمّلاً اللوم بشكل خاص إلى وقفية الأوَدة التي كان من خلالها، يوزع القنصل البريطاني العام في بغداد سنوياً ما مقداره 40 ألف ليرة إلى المجتهدين الشيعة وطلبة الحوزة والكليداريات في المراقد المقدسة في كل من كربلاء والنجف. في كتابه "شيعة العراق"، يكتب إسحاق نقاش: "في الفترة الواقعة بين 1780 و1844 حول حكام أودة ووزرائها، ووجهائها، أكثر من مليون روبية للأغراض الخيرية والمشاريع الاقتصادية والوظائف الدينية. فكان المجتهدون في لكناو يفضلون العمل مع مجتهدين فرس يشتركون معهم في الأصل والثقافة".

في تقرير آخر كتبه الحجة إسحاق أفندي، بطلب من السلطان في آب/ أغسطس 1885، على أثر صدور كتيب بعنوان "الرسالة الحسينية"، خلص فيه إلى أنه خلال الـ15 إلى 20 سنةً الماضية، طلب والي بغداد من وزارة المالية إيقاف إعطاء القرى إلى رجال الدين، أما وزارة التعليم فقد أسفر تدخلها في أراضي الأوقاف إلى تغيّر دور رجل الدين المفيد وإضعافه في تلك المناطق. والنتيجة كانت تهميش العلماء ورجال الدين في ولاية بغداد والبصرة، بينما هناك ما بين 5،000 إلى 6،000 من طلاب الدين الإيرانيين في المدن الثلاث (العتبات)، يتوزعون بين القرى وبين القبائل؛ ليغرس في ذهنهم ويعلمهم الفكر الضار (التشيّع). بالنتيجة بقي السنّة في العراق في سبات، وبهذا أصبح هؤلاء جيشاً لإيران وتمثل ذلك في ازدياد عدد المتشيعين في الجيش العثماني السادس.

ما هي الدواعي التي دفعت بهذه القبائل/ المجتمعات في كل من ولاية بغداد والبصرة، إلى التحول عن مذهب أهل السنّة والجماعة إلى التشيع الجعفري؟

ولعلّ أهم سؤال يتكون في ذهن القارئ مما تقدم، هو: ما هي الدواعي التي دفعت بهذه القبائل/ المجتمعات في كل من ولاية بغداد والبصرة، إلى التحول عن مذهب أهل السنّة والجماعة إلى التشيع الجعفري؟

يتحدث "دفتردار بغداد محمد رفعت أفندي" في "تقرير مؤرخ في 31 كانون الثاني/ يناير 1892"، عن طبيعة المنطقة المختلفة، فيقول: "بالنقيض بما يعرف به العراق من غنى، فإن الفقر المدقع يسود اليوم وصرخات الفقر هي أحد تلك الأسباب لانتشار التشيع، وربما هو السبب الرئيسي".

في مذكرة مؤرخة في 7 نيسان/ أبريل 1892، يعلل سليمان باشا هذا الفقر المدقع الذي يعيشه العراق بقوله: "الشيعة لا يدفعون الضرائب إلا حين يواجَهون بالقوة العسكرية"، ويدّعي أن هذا هو السبب الرئيسي لضعف الإيرادات في الولاية، وليس بسبب سياسات التنظيمات المركزية التي اعتمدها الباب العالي آنذاك. فيما أغلب العشائر التي تشيّع أغلب أفرادها، كانت الدولة العثمانية تعاملهم كريع عسكري تغذي بهِ جيوشها وحروبها التي لا تنتهي.

يقول إسحاق نقاش في كتابه "شيعة العراق": "ظهور كربلاء والنجف بوصفهما معقلين للتشيع في العراق منذ منتصف القرن الثامن عشر، مهّد الأرض لعملية تكوين الدولة الشيعية. فاتسم تطور الكيان السياسي وتوسعه بتوطن العشائر ثم تشيعهم خلال القرن التاسع عشر، كما تسبب الاستقرار في زيادة الإنتاج الزراعي والتجارة في جنوب العراق. والحق، أن الهيمنة المتزايدة التي مارستها النجف وكربلاء على عمق الأراضي التابعة لهما لم تتحقق من خلال الفتوحات بل من خلال كسب العشائر التي توطنت إلى المذهب الشيعي، والصلات الوثيقة التي اتسمت بها العلاقات بين المدينة والعشائر".

بحسب نقاش، يضاف إلى ذلك أن تطور العراق بين القرن السادس عشر والقرن العشرين تميز بسمتين بارزتين: الأولى كانت العملية البطيئة والمديدة للفتح العثماني وبسط الهيمنة عليه وتوطين القبائل الرحل، والثانية كانت موقع البلد، خاصةً مدن العتبات المقدسة، بوصفها منطقة اتصال ثقافي-ديني بين الإمبراطورية العثمانية السنّية وإيران الشيعية الصفوية، ثم إيران القاجارية، وهكذا أصبح العراق ساحة حرب واسعةً لما كان البلد يحتويه من ثروات كان العثمانيون والإيرانيون على السواء يطمعون في السيطرة عليها.

العشائر والتشيّع

يؤكد محمد رفعت أفندي، دفتردار بغداد، في تقرير 31 كانون الثاني/ يناير 1892، على أن التساهل الذي كان يبديه الموظفون المحليون تجاه الاحتفالات والطقوس الدينية لدى الشيعة، سبب في انتشار التشيع، وهذا ما يتفق فيه نقاش معه: "قيل إن أول شخص عرف بإشاعة التعازي، وترسيخها في النجف خلال الحكم العثماني، هو الشيخ نصار بن أحمد العباسي ويبدو أنه اغتنم فرصةً أتاحتها معاهدة السلام العثمانية-الإيرانية الموقعة في عام 1832، ليعلن رعاية مجالس التعزية في داره، محفزاً بذلك عملية تشيع القبائل بدرجة كبيرة".

ولم يسمح الوالي العثماني علي رضا (1831-1842)، بإقامة مجالس التعزية فحسب، بل حضر واحداً منها على الأقل في عام 1832، والتي قيل إن أوّلها نُظم في الكاظمية بعد عام 1831، وبمبادرة من الشيخ باقر بن الشيخ أسد الله الدزفولي. أما قبل سنة 1831، فكان المماليك يمنعون أي شكل من أشكال الشعائر الشيعية وقيل في المصادر الشيعية إن مجالس التعزية كانت تقام في سراديب داخل بيوت خاصة.

لم يسمح الوالي العثماني علي رضا (1831-1842)، بإقامة مجالس التعزية فحسب، بل حضر واحداً منها على الأقل، والتي قيل إن أوّلها نُظم في الكاظمية، وبمبادرة من الشيخ باقر بن الشيخ أسد الله الدزفولي

يورد صاحب كتاب "عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد"، إبراهيم الحيدري البغدادي، الكثير من المواضيع عن البلاد الثلاثة، أي ولاية بغداد، والبصرة، ونجد. والمهم منها العشائر الذين ترفّضوا من قريب، أي العشائر التي تحولت من مذهب أهل السنّة والجماعة إلى المذهب الجعفري. هذه العبارة تدل على سؤال: هل من عشائر ترفّضت أي تشيّعت منذ زمن بعيد؟ قياساً بتاريخ كتابة الكتاب عام 1869 م، وما بين "الخزاعل" الذين تشيعوا قبل أكثر من مئة وخمسين سنةً، يكون تاريخ التشيع القريب هو سنة 1700 م. أما البعيد فلا تاريخ محدداً له.

والسؤال الأهم: هل كانت حملات التبليغ بالتشيع التي كان يقوم بها المجتهدون ذات بعد سياسي، أم هي تثبيت للهوية الدينية الشيعية المقهورة بكل الأشكال؟

يبقى البعد السياسي حاضراً من خلال التعاون الوثيق بين الحكومات الإيرانية والمجتهدين وتحقيق مصالح كِلا الطرفين. من جانب المجتهدين، كانت الرغبة في نشر التشيع واجباً مقدساً وحتمياً ويحقق نوعاً من النصر الذي ظلّ غائباً لقرون عدة، وأمّا من جانب الشاه فهو يندرج ضمن الصراع المستمر على الموارد والنفوذ مع الإمبراطورية العثمانية، ولعل أبرز صور النفوذ هي ما أشار إليه المتصرف السابق للبصرة محمد علي، في تقرير بتاريخ كانون الثاني/ يناير سنة 1889، بأن "الخطر الأكبر الناتج من ظاهرة التشيع هذه؛ هو التحدي بعدم الولاء للقوات المسلحة المحلية، وارتفاع نسبة الجنود الشيعة في الجيش العثماني السادس بنسبة 90%".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image