تستمر الأزمة السياسية في العراق، في الانتقال من قصة إلى أخرى، وآخرها كانت الاضطرابات المرتبطة بانتخابات مجالس المحافظات، إذ أبدت قوى سياسية اعتراضها على غايات سياسية لتعديل قانون انتخابات المجالس المحلية، فيما تزمع الأحزاب المهيمنة على السلطة على تمريره وإحياء الانتخابات بعد 4 سنوات من تجميدها.
كان محتجّو تشرين عام 2019، قد طالبوا بإلغاء هذه المجالس، على خلفية فسادها، فاضطر البرلمان العراقي وقتها إلى تلبية هذا المطلب، وأصدر في 28 تشرين الأول/ أكتوبر، من العام نفسه، القانون رقم 27، الذي أفضى إلى تعليق عمل مجالس المحافظات حتى إشعار آخر، في ما عُدّ آنذاك إنجازاً للحراك التشريني في مواجهة الفساد المعشش في البلاد.
ووُجدت مجالس المحافظات في عام 2005، ولكنها لم تُنظَّم بقانون حتى عام 2008، بعد أن أصدر البرلمان العراقي، القرارين المرقّمين 21 و36، اللذين نُظّمت بموجبهما طبيعة عمل هذه المجالس، وطريقة احتساب مقاعد أعضائها نسبةً إلى أصوات الناخبين، أي قانون الانتخابات المُعتمد.
كانت الغاية الرئيسية من هذه المجالس، مساعدة الحكومة في إدارة شؤونها محلياً، ويشير القانون رقم 21، إلى أن هذه المجالس تعبّر عن وحدة إدارية ضمن حدودها الجغرافية، وتتكون من أقضية ونواحٍ وقرى، ومُنحت على هذا الأساس صلاحيات مرتبطة بعملها، كونها الممثل الشرعي لناخبيها، ولكنها وبحسب الرأي السائد، فتحت أبواب هدر مالي جديد في خزينة الدولة.
تزمع الأحزاب المهيمنة على السلطة في العراق على تمريره وإحياء الانتخابات بعد 4 سنوات من تجميدها
بوابة فساد مالي
استنزفت مجالس المحافظات منذ تأسيسها مالية الدولة العراقية الجديدة، فالأخيرة وبرغم اقتصادها الريعي، أصبحت ملزمةً بتحمّل مصاريف شهرية تتجاوز الـ200 مليون دولار شهرياً، هي رواتب ومخصصات أعضاء 15 محافظةً غير منضوية في إقليم، ونحو 120 قضاءً إدارياً، وأكثر من 400 ناحية من عموم البلاد، بالإضافة إلى شمول أعضائها جميعاً بقانون التقاعد، بعد إتمام خدمتهم المحددة بـ4 سنوات، وعادةً ما تتراوح رواتبهم التقاعدية ما بين 2 إلى 4 ملايين دينار عراقي شهرياً (ما بين 1،500 و3،500 دولار أمريكي)، قبل أزمة الدولار الأخيرة في العراق.
ولا تقتصر أبواب الخسائر المالية على رواتب هذه الفئة، إذ لم تكن مشاريع الفساد بعيدةً عن المجالس، لا سيما في ما يتعلق بإقرار مشاريع وهمية، ساهمت بشكل أو بآخر في فقدان البلاد أكثر من تريليون دولار منذ عام 2003، بحسب تصريحات صحافية لرئيس الجمهورية السابق برهم صالح، ومثالاً على هذه المشاريع، فقد خصصت محافظة كربلاء في عام 2018، مبالغ وصلت إلى 800 مليون دولار، نظير بناء 5 مستشفيات ومشاريع خدمية أخرى، ولكنها بقيت حبراً على الورق، كما ذكرت منصات صحافية عدة، من دون أن يتم نفيها من قبل المعنيين.
وفي محافظة الديوانية، جنوب البلاد، أصدر القضاء العراقي في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2019، أوامر استقدام بحق 23 عضواً في مجلس المحافظة، على خلفية ضلوعهم في صفقات ومشاريع تجارية مخلّة بالقانون، كما اعتُقل محافظها السابق عمار المدني، فيما تمكّن محافظها الأسبق أيضاً، جبير سلمان الجبوري، من الهرب إلى إيران، بعد اتهامه بقضايا فساد أخرى.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، قررت محكمة التمييز الاتحادية، حبس أحد أعضاء مجلس محافظة ميسان، دون تسميته، بتهمة الكسب غير المشروع على حساب الشعب، كما استقدمت مطلع العام الحالي، ثلاثةً من محافظي بابل في قضايا مشابهة.
ولمحافظة بغداد نصيبها في الفساد، إذ سبق أن حكم القضاء بالسجن على محافظي بغداد حسين الطحان، وصلاح عبد الرزاق، بالإضافة إلى أمينها صابر العيساوي، بتهم تتراوح ما بين إهدار المال العام إلى الاختلاس، ولكن أحكامهم جميعاً، لم تتجاوز السنتين بسب قربهم من أحزاب السلطة.
وتتم صفقات الفساد غالباً بعد تواصل يجمع بين أعضاء مجلس المحافظة وممثلي إحدى الشركات، يتم خلاله عرض بدل مالي ضخم مقابل التصويت على منحها استثماراً معيناً، أو تمرير مناقصة استثمارية لإحدى شركات الأحزاب الوهمية، بحسب تصريح عضو سابق في مجلس محافظة بغداد.
ويفيد المصدر الذي تحدث إلى رصيف22، شريطة عدم الكشف عن اسمه، بأن تمرير هذه العقود، يتم أمام أنظار كافة أعضاء مجلس المحافظة، حيث يتم تخييرهم بين المساهمة فيه، أو التهديد بوسائل مختلفة إذ لا مجال لاختيار الصمت أو رفض المشاركة.
في السنوات الماضية، حصلت مجموعة من الاعتقالات على خلفية ملفات فساد في مجالس المحافظات، لكن غالبيتها تبيّن أنها للتشفي السياسي وليست بغرض مكافحة الفساد فعلياً، فما الذي ينتظر العراقيين اليوم؟
ويلفت المصدر، إلى أن سبب ذلك، يرجع إلى رغبة الأحزاب المسيطرة في إمساك ملفات فساد ضد الجميع، وابتزازهم مستقبلاً، وأنهم بذلك مساهمون في الفساد، نظراً إلى عدم إبلاغهم هيئة النزاهة بحقيقة هذه الحيثيات، ويؤكد أن الأحزاب السياسية قادرة على اتهام الأعضاء بشتى أنواع التهم، في حال معارضتهم لها، ويصنّف الكثير من الاعتقالات الماضية وفقاً لذلك.
على مقصلة الإرهاب
وبالفعل، فإن قضايا الإرهاب لم تكن بعيدةً عن مجالس المحافظات، ففي حين يعتقد البعض أنها تضفي رقابةً على عمل المحافظة والمحافظين، فإنها وعلى النقيض من ذلك، تعبّر عن تحزب سياسي سائد.
ولعل قصة اعتقال نائب رئيس لجنة التعليم في مجلس محافظة بغداد ليث الدليمي، وبعض عناصر حمايته، في أيار/ مايو عام 2012، نموذج لهذا التحزب، إذ اتُّهم الدليمي، بالانتماء إلى تنظيم القاعدة، والمساهمة في محاولة اغتيال رئيس مجلس محافظة بغداد كامل الزيدي.
وبحسب الاعتقاد الذي ساد آنذاك، فإن اعتقاله يرجع إلى خلافات سياسية بين القائمة العراقية، التي ينتمي إليها الدليمي، وائتلاف دولة القانون المسيطر على مجلس المحافظة وقتها.
وضجت حينها وسائل الإعلام، بمقطع فديو يظهر الدليمي، وهو يندد بقرار حكم الإعدام ضده، ويصرح بانتزاع الاعترافات منه تحت التعذيب. وفي عام 2017، أُفرج عن الدليمي في صفقة سياسية، بُررت بعدم كفاية الأدلة ضده، ليشارك بعد ذلك في انتخابات مجلس النواب، ويحصد مقعده فيه.
وكذلك بالنسبة إلى رئيس مجلس محافظة صلاح الدين السابق، عمار اليوسف، بعد تمكّنه من الهرب، عام 2012، إثر اتهامه بقتل العميد أحمد الفحل، والمساهمة في التخطيط لعملية اقتحام مجلس المحافظة في نيسان/ أبريل عام 2011، والذي أسفر عن مقتل 58 شخصاً، في حين يعتقد كثيرون أن الأزمة مرتبطة أيضاً بالصراع الحاصل على استثمارات داخل المحافظة وقتها، بين الحزب الإسلامي الذي ينتمي إليه اليوسف وباقي الأحزاب السنّية.
مجالس مخالفة للدستور
لا تقتصر سلبيات مجالس المحافظات على الإرهاب والفساد، فبالرغم من أنها سلطة تشريعية منتخبة، وتُعدّ أعلى سلطة تشريعية ورقابية ضمن الحدود الإدارية للمحافظة، بحسب المادة الثانية من قانونها المرقم 21، لعام 2008، فإن قانونها الأخير يعارض أحكام الدستور العراقي في الوقت ذاته.
تُعدّ المجالس أعلى سلطة تشريعية ورقابية ضمن الحدود الإدارية للمحافظة، بحسب المادة الثانية من قانونها المرقم 21، لعام 2008
إذ تشير المادة السابعة في بنديها الرابع والعاشر، إلى صلاحيات مجالس المحافظات، في رسم السياسة العامة للمحافظة، والمصادقة على الخطط الأمنية المحلية، ولكن الدستور العراقي حدد في المادة 122، صلاحيات هذه المجالس، بالشؤون الإدارية والمالية فقط، ولم يُشِر إلى الجانبين السياسي والأمني فيها.
عدم اكتمال الفهم القانوني لدى مشرّعي القانون، يتّضح أكثر في عدم التمييز بين اللا مركزية الإدارية واللا مركزية المالية، وبين السلطتين السياسية والقانونية، ففي حين يؤكد الدستور في المادة 19 أولاً، على أن القضاء مستقل، ولا سلطان عليه لغير القانون، فإن قانون مجالس المحافظات، يعارض ذلك في مادته الـ11، وينص على أنه "في حالة التعارض بين قرارات مجالس القضاء وقرارات المحافظة، تكون الأولوية للأخير في ما لو كان القرار المتخذ متعلقاً بعموم المحافظة"، وهي بذلك تعارض الفقه القانوني والدستوري في آن واحد.
عدم التعاطي مع المواطنين
كل مشكلات مجالس المحافظات اعتيادية، إذا ما أُخذ الوضع العراقي العام بعين الاعتبار، ولكنها لكونها أقرب السلطات إلى الشعب، لم تحقق أي تقدم ملحوظ في حياتهم، ويدفع ذلك بعض السياسيين والناشطين إلى وصف غاياتها بالسياسية والشخصية.
فعلى غرار أي فترة انتخابية، معظم منجزات أعضاء مجالس المحافظات، تظهر في أثناء فترة ترشحهم حصراً، وهدفها جذب أكبر عدد ممكن من الناخبين، ليس على المستوى المحلي فحسب، ولكن اتحادياً، وتنظيم صفوفهم في انتخابات مجلس النواب، وهو سبب إصرار بعض القوى السياسية على إعادة إحيائها.
كانت قوى الإطار التنسيقي، قد قادت مؤخراً حملةً لتمرير تعديل قانون انتخابات مجالس المحافظات، وإلغاء نظام القائمة المفتوحة، والدوائر الانتخابية المتعددة، داخل المحافظة الواحدة.
ويُرجع أستاذ العلوم السياسية المتقاعد، عثمان الموصلي، هذا الأمر، إلى أن نظام الدوائر الانتخابية الموحدة، يتيح للأحزاب الكبيرة، توحيد جهود مقرّاتها على مستوى المحافظة، وتالياً، جمع أصوات ناخبيها، لصالح مرشحين محددين، ويقلّ بذلك احتمال فوز القوى المدنية أو المستقلين، نظراً إلى عدم قدرة ماكيناتهم الترويجية على تغطية المحافظة بأسرها.
نظام القوائم المغلقة، يهدد هذه القوى أيضاً، حيث يجبر المرشحين على الانضمام إلى قوائم معيّنة، وتالياً هيمنة هذه القوائم على أصوات ناخبيها، في حال عدم تحقيق نسب الأصوات المحددة للفوز، وبحسب تصريح الموصلي لرصيف22، يزيد احتمال خسارتهم في حال تطبيق نظام سانت ليغو 1.7 أو 1.9.
واعتُمد نظام "سانت ليغو" الانتخابي في انتخابات مجالس المحافظات عام 2013، وطُبِّق في الانتخابات البرلمانية لعام 2018، وهو قائم على أن كل محافظة دائرة انتخابية بحد ذاتها، ويُحدَّد الفائزون فيها وفقاً لناتج قسمة عدد المصوّتين للشخصية المرشحة على القيمة 1.9، وتضاف الأصوات الزائدة إلى رصيد الكتلة السياسية الانتخابي، وتالياً تحجيم قدرة الكتل الصغيرة أو المستقلة على نيل مقاعد نيابية.
عودة سياسية صدرية
تشير دلائل كثيرة إلى رغبة التيار الصدري في العودة إلى المعترك السياسي. وبرغم أن زعيمه، مقتدى الصدر، سبق أن أعلن منذ شهر حزيران/ يونيو الماضي، إلا أن انضمام أتباعه إلى ثلة المعترضين على قانون الانتخابات يعزز هذه المزاعم.
نظام الدوائر الانتخابية الموحدة، يتيح للأحزاب الكبيرة،جمع أصوات ناخبيها، لصالح مرشحين محددين، وهو ما تريده الأحزاب السياسية، لمنع أي خرق، فهل تنجح في تعديل القانون؟
وكان نائب رئيس البرلمان السابق، والقيادي الصدري، حاكم الزاملي، قد قال في منشور على صفحته في فيسبوك، في 25 شباط/ فبراير: "لا للقائمة المغلقة ولا للدائرة الواحدة"، وسرعان ما تحوّل نص منشوره إلى هاشتاغ ضجت به وسائل التواصل الاجتماعي.
هذا فيما شهدت بغداد صبيحة 27 شباط/ فبراير الماضي، تظاهرات، طالب فيها المحتجون، بعدم المصادقة على تعديل قانون مجالس المحافظات.
الباحث السياسي محمد العزي، يؤكد أن الصدر يدرك أن ابتعاده عن الساحة السياسية، سيضعف قاعدته الجماهيرية، ولذلك يحاول العودة إلى الحياة السياسية عبر أتباعه، ولكنه يعتقد أن هناك عوائق كثيرةً قد تقف أمامه، ومنها ابتعاد حلفائه السياسيين عنه، بعد انسحابه من البرلمان، بالإضافة إلى سيطرة خصومه في الإطار التنسيقي على مفاتيح الحكومة، ومن ثم فإن عودته ستكون منوطةً بمسار المفاوضات السياسية الجارية بين الكتل السياسية ومنها تياره.
والاعتراض على التعديل المزمع تقديمه للبرلمان، لا يقتصر على التيار الصدري، إذ ترى قوى مدينة أن الإطار التنسيقي يرغب في تنفيذ أجندات معيّنة، عبره، تساهم في زيادة نفوذه وتقليص نفوذهم في المقابل، لا سيما أن إصراره على الدوائر المغلقة، سيعرّض القوى المدنية لخسارة كبيرة، بعد حساب الأصوات على مستوى المحافظة الواحدة، بدلاً من الدائرة الانتخابية، بسبب ضعف قدراتهم التنظيمية، كما سيبعد المستقلين عن الساحة، ويمنعهم من الترشح بعيداً عن القوائم الانتخابية.
حتى الآن، مصير هذا التعديل لا يزال مجهولاً، ولكن هناك جوّاً عاماً يفيد باستحالة تنفيذ هذه الانتخابات خلال السنة الحالية، إلا في حال توافق الكتل السياسية كافة على بنود القانون وتمريره بسهولة على البرلمان، في وقت يرزح المواطن العراقي فيه تحت أزمة تمتد، وتتعمّق، يوماً بعد يوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع