مع سطوع أول شعاع من الفجر، تستيقظ أمل ذات الأعوام السبعة على صياح والدتها، تفتح جفنيها ببطء في محاولة للاستمتاع بلحظات تغفو فيها بعيداً عن تفاصيل عمل شاق ينتظرها، تزيح غطاء فراشها ببطء، وتسارع لجمع أواني المياه الفارغة والمتناثرة عشوائياً في أنحاء غرفتها، تحملها على رأسها مع أكوام من الملابس المتسخة، متجهة إلى ترعة عميقة ترافقها مجموعة من الكلاب الضالة. تنحني لثلاث ساعات متواصلة لغسلها، قبل أن تبدأ مهمتها اليومية في الحقل لجني المحاصيل الزراعية.
ليست أمل الوحيدة التي تقضى يومها على الترعة وداخل الحقول، ففي طريقك إلى قرية صان الحجر أحد مراكز محافظة الشرقية التى تبعد مسافة 150 كيلومتراً عن القاهرة، تستقبلك سيدات وفتيات يفترشن حافة ترعة في مدخل القرية، يغسلن ملابسهن وأوانيهن، وتحيطهن لافتات المبادرة الرئاسية "حياة كريمة" والمنتشرة على جانبي الطريق الترابي غير الممهد لسير السيارات، ومواسير مكسورة من مياه الشرب والصرف الصحي، وسيارات متهالكة هي الوسيلة الوحيدة لنقل الأهالي بين القرى.
ومع اقتراب الساعة من السابعة صباحاً، وفي منتصف جسر خشبي في مدخل القرية، تتجمع السيدات والفتيات، تدخل أمل وسط العشرات منهن وتنحشر بجسدها الضئيل داخل سيارة متهالكة، تخفي ملامح وجهها الطفولي بإيشارب يغطى شعرها، تتمايل السيارة بهن على الطرقات لمسافة تصل إلى 35 كيلومتراً وصولاً للحقول التي يعملن بها، وتحاول أمل جاهدة التمسك بالسيارة منعاً لسقوطها.
مضخات ومياه ملوثة
ما يقرب من 80 ألف مواطن يعيشون داخل قرية صان الحجر البحرية والقرى التابعة لها، تشتغل سيدات وفتيات القرية في جني المحاصيل الزراعية طوال شهور السنة لتوفير ثمن جرن مياه، فالقرية محرومة من مياه الشرب النظيفة، ورغم وعود المسؤولين لهم بتوفيرها منذ سنوات، إلا أنها مجرد وعود زائفة على حسب وصف الأهالي. ويقع على كاهل نساء القرية وفتياتها العبء الأكبر لتوفير المياه النظيفة لهن ولعائلاتهن، سواء من خلال شرائها أو التنقل للقرى المجاورة للبحث عنها، فقطرة المياه الواحدة تساوي حياة عند ريفيات الشرقية.
وقد صرح محمد عبد العاطي، الوزير السابق للموارد المائية والري المصري، بأن نصيب الفرد في مصر من المياه حالياً هو 500 متر مكعب سنوياً، في حين كان 800 متر مكعب منذ 10 سنوات، ونحو 1000 متر مكعب قبل عشرين سنة، إلا أن سكان كثير من القرى النائية ومنها قرية صان الحجر محرمون من مياه الشرب ويستخدمون مياه الصرف، رغم أن القرية تقع ضمن المبادرة الرئاسية "حياة كريمة" التي تهدف إلى التخفيف عن كاهل المواطنين ضمن التجمعات الأكثر احتياجاً في الريف.
اللجوء إلى المضخات أو ما يسمى محلياً "الطلمبات الحبشية" كان الحل الوحيد أمام أهالي صان الحجر بديلاً عن حنفيات مياه الشرب، إلا أنها ضارة بالصحة لارتفاع نسبة الأملاح واختلاطها بالميكروبات والطفيليات ومياه الصرف الصحي.
وتتحدث عنها سعاد مرسي لرصيف22: "الطلمبات الحبشية هي مواسير خاصة يدفع بها المزارع إلى باطن الأرض للحصول على المياه بديلاً عن الصنبور داخل المنازل، وهي الملجأ الوحيد أمامنا بعد أن أُغلقت جميع الأبواب في وجوهنا من جانب المسؤولين، ورغم أنها أحد الأسباب الرئيسية في إصابتنا بالإسهال والأعياء والفشل الكلوي، لا يستطيع أحد التخلي عنها".
ما يقرب من 80 ألف مواطن يعيشون داخل قرية صان الحجر البحرية والقرى التابعة لها، تشتغل سيدات وفتيات القرية في جني المحاصيل الزراعية طوال شهور السنة لتوفير ثمن جرن مياه، فالقرية محرومة من مياه الشرب النظيفة
تناول كوب مياه نظيف وبارد يروي العطش ويطفئ حرارة الصيف الحارقة، أصبح أمنية لليلى عبد العال التى تجاوز عمرها الستين عاماً، وتقول: "منذ الصغر اعتدنا ملء المياه بالجرار الكبيرة وغسل الملابس في الترعة، ومعظم سيدات القرية يعملن في الفلاحة وإلا فلن يحصلن على مياه للشرب. أعمل في حصاد المحاصيل الزراعية مقابل يومية 70 جنيهاً (دولارين)، ونشتري جرن المياه الواحد بثلاثين جنيهاً. حصلنا على كثير من الوعود بتركيب خطوط مياه نظيفة، إلا أنها كالعادة مجرد وعود".
وذكر تقرير صادر عن منظمة اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية في تموز/ يوليو الفائت، أن قرابة ملياري شخص في العالم يعيشون في منازل تفتقر إلى إمدادات المياه، وتقع مسؤولية جلب المياه بشكل رئيسي على النساء والفتيات، كثيرات منهن دون سن الخامسة عشرة. وفي معظم الحالات، تقطع النساء والفتيات مسافات أطول لجلب الماء، مما يحرمهن من الوقت المخصص للتعليم أو العمل أو الترفيه. كما أنهن يواجهن خطر التعرض لإصابات جسدية ومخاطر أخرى في الطريق، إلى جانب مواجهة خطر الأمراض المعدية المرتبطة بالحصول على مياه ملوثة.
تحذيرات الأطباء من شرب المياه الملوثة داخل قرى صان الحجر، لم يمنع الأهالي من استخدامها في حياتهم الروتينية، وتقول هناء صفوان إحدى سيدات القرية لرصيف22: "طلب مني الطبيب إحضار زجاجة مياه بعد إصابة ابنتي بنزلة معوية متكررة، وبالفعل أكد أنها غير صالحة للشرب أو طهو الطعام، حتى بعد غليها والتخلص من الشوائب".
أعمل في حصاد المحاصيل الزراعية مقابل يومية 70 جنيهاً، ونشتري جرن المياه الواحد بثلاثين جنيهاً.
وقد تسبب حرمان قرى صان الحجر من المياه النظيفة، في إصابة العشرات من سكانها بالفشل الكلوي. رحلة طويلة تقطعها أسبوعياً والدة هنا التي لم تكمل عامها الثالث عشر، من قريتها إلى المستشفى العام بمركز الحسينية. لا تتذكر سارة وجوه المارة أو الركاب، وإنما تذكر تلك الحجرة التي تضم عدداً من الأسرّة ترقد هي على واحد منها لعدة ساعات، وتتشابك فوقه أسلاك الكهرباء. ينتهي يومها بإرهاق شديد وعدم قدرة على السير، لتحتضنها أمها بين ذراعيها وسط دعاء الحاضرين بالشفاء القريب لها.
قصور قانوني
استثنى قانون العمل الموحد رقم 12 لسنة 2003 النساء العاملات بالزراعة، فهن غير مشمولات ضمن نطاق القانون، وليس لهن الحق في إقامة أية علاقات تعاقدية مع أصحاب العمل، وبالتالي محرومات من الحقوق الاقتصادية والتأمينية، وهو ما رأته النائبة منى عبدالله بمجلس النواب تمييزاً قانونياً صارخاً ضد النساء.
وتساءلت عبدالله في حديثها لرصيف22 عن سبب إهدار حقوق العاملات في مجال الزراعة، رغم أنهن يتعرضن للحرارة المرتفعة واستنشاق الأتربة والغبار والأسمدة والمبيدات بأنواعها، والإغماءات الحرارية وضربات الشمس، وكذلك لكثير من الأمراض التي تصيب العاملين في قطاع الزراعة، وهو ما يستوجب ضرورة تعديل قانون العمل ليضمن شمول العمالة الزراعية من النساء ضمن نطاقه.
ومن جانبه قال الدكتور مجدى علام أمين عام اتحاد الخبراء العرب، إن قانون العمل حدد ساعات العمل بثماني ساعات يومياً، باستثناء السيدات في حالات الحمل والولادة والدورة الشهرية، فيتم تقليص عدد ساعات العمل لهن، لافتاً خلال تصريح لرصيف22 إلى أن مقاول الأنفار المسؤول عن تشغيل العمالة الزراعية لا بد أن تكون لديه رخصة عمالة زراعية، ويتم فحص العامل طبياً للتأكد من سلامته الجسدية وقدرته على العمل، لأن مرضى السكر والضغط غير مؤهلين للعمل في الحقول وحياتهم تكون معرضة للخطر.
وذكر المتحدث وجود بروتوكولات دولية تتبعها جميع الدول من بينها مصر، يتوقف فيها العامل والمزارع عن العمل تحت أشعة الشمس في ساعات الذروة من الثانية عشرة ظهراً حتى الرابعة عصراً، ويستكمل العمل بعد غياب أشعة الشمس منعاً لحدوث إجهاد حراري قد يصل حد الإصابة بضربة الشمس.
نستيقظ من نومنا في منتصف الليل ونبحث عن كوب مياه لأولادنا، وقد نقطع عدة كيلومترات وسط عتمة الليل للحصول عليه. ننتظر اليوم الذي توفر فيه الحكومة المياه النظيفة للمواطنين في مختلف المحافظات، فالمياه ليست سلعة تجارية وإنما حق للجميع دون أي تفرقة
وأشار علام إلى أنه في الماضي كان مقاول الأنفار يتجه إلى وزارة القوى العاملة للحصول على رخصة مزاولة للتعامل مع الفتيات والنساء لضمان التعامل معهن بإنسانية، واتخاذ الإجراءات القانونية معه في حالة استغلالهن، وهو ما لم يعد يحدث الآن، وناشد الأهالي بضرورة التأكد من حصول المقاول على رخصة مزاولة المهنة، لضمان حقوق أبنائهم وبناتهم.
ويحذر الدكتور خالد سمير استشاري القلب من خطورة العمل تحت أشعة الشمس لساعات طويلة، ويشير إلى أنه من المحتمل أن تصل درجة الحرارة في الشمس إلى 50 أو 55 درجة مئوية، خاصة في ظل التغيرات المناخية التي يشهدها العالم، وتكمن الخطورة في احتمال الإصابة بضربات الشمس، وتأثر الدماغ وهو المسؤول عن تنظيم درجة حرارة الجسم والمحافظة عليها، بمعزل عن درجة الحرارة الخارجية سواء انخفضت في الشتاء أو زادت في الصيف.
ونوّه سمير بخطورة ارتفاع درجات الحرارة على الأطفال وكبار السن لأنها قد تُسبب لهم الجفاف الحاد، لذلك يجب أن تراعي عمالة الأطفال اختيار الساعات المناسبة للعمل بعيداً عن وقت الذروة، وتوفير المياه النظيفة لهم لتعويض الأملاح التي يفقدها الجسم بسبب الحر الشديد، وتغطية الرأس أثناء التعرض المباشر لأشعة الشمس.
اليوم، تحلم شيماء رفاعي وهي إحدى القرويات، بالتوقف عن التدافع وسط المئات من السيدات بعد انتهاء يوم شاق فى الحقول، للفوز بجرن مياه نظيفة من سيارة الوحدة المحلية التى تدور فى شوارع القرية، وذلك كي توفر قيمة هذا الجرن مقابل مستلزمات أخرى لبيتها.
تقول لرصيف22: "نستيقظ من نومنا في منتصف الليل ونبحث عن كوب مياه لأولادنا، وقد نقطع عدة كيلومترات وسط عتمة الليل للحصول عليه. ننتظر اليوم الذي توفر فيه الحكومة المياه النظيفة للمواطنين في مختلف المحافظات، فالمياه ليست سلعة تجارية وإنما حق للجميع دون أي تفرقة بسبب مستواهم الاقتصادي والتعليمي".
لا تستبعد شيماء "الإعلان عن ثورة العطشانين في القرى المحرومة من مياه الشرب النظيفة"، إذا لم تبادر الحكومة في توصيل خط رئيسي لمياه الشرب، وسط حالة الغضب الشديدة التي تسيطر على الأهالي بسبب تجاهل المسؤولين المطالب المشروعة لأهالي القرى.
تصوير: محمود الخواص
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.