شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"ثلاثون عاماً مع شادية وبناتها"... و"الغارق الأبدي" في بحر اللامبالاة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والنساء

الأربعاء 30 أغسطس 202312:48 م

تعود المخرجة اللبنانية-السويدية ليلى عساف تانغروث (77 سنةً)، بفيلم وثائقي "جديد" للعام الجاري 2023، بعنوان "ثلاثون عاماً مع شادية وبناتها"، عبر شاشة القناة السويدية الأولى أس في تي. ولئن كان الفيلم بحد ذاته ليس جديداً، فهو إعادة تدوير توثيقية لفيلمها "ريم وأخواتها" (2015)، والكتابة عنه من هذه الزاوية لا تقلل من شأن المادة الوثائقية نفسها التي تعيد عساف اقتراحها علينا مجدداً لأسباب تخصها على ما يبدو.

ربما تغيَّرت بعض أحوال العائلة نفسها التي لا تزال المخرجة تدور حولها، عبر عقود ثلاثة لا يراد لها أن تنتهي على ما يبدو، وحالها من المؤكد من حال سوريا نفسها، فهي ترصد التطورات النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على هذه العائلة القادمة من الريف السوري القريب منذ أن اكتشفت في الابنة اللاجئة في لبنان، ريم، وهي فتاة جميلة في ربيعها التاسع، وتقضي معظم وقتها ببيع العلكة للسيارات والمارة في شوارع بيروت، وجهاً لا يُنسى، وكان أن اجتذبتها لتصبح بطلة فيلمها الروائي الأول "عصبة الحرية" (1994)، فقد أبهرتها قوة شخصيتها وعفويتها في الوقوف أمام الكاميرا، إلا أن سرعان ما انهارت ريم أمام ضغوط الحياة الأسرية ومتطلباتها القهرية، والتي لا يمكن الفكاك منها.

ملصق فيلم "ثلاثون عاماً مع شادية وبناتها"

ويمثل "الوحشيةَ" خير تمثيل دون ماكياج أو أقنعة، الأب المستبد اللاهي أحمد، وقد جرى انتزاعها من طفولتها، وتمَّ تزويجها على عجل، قبل أن تكتشف شيئاً من أنوثتها، وهي في الرابعة عشرة من عمرها ودون أن تعي شيئاً من مستقبلها الغامض الذي ينتظرها في بيت زوجها محسن، الجنايني السوري في بيروت والذي يعيش تحت درج من أدراج البنايات العامرة.

ترصد المخرجة في فيلمها الجديد التطورات النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على العائلة القادمة من الريف السوري إلى لبنان 

في المقترح البصري الجديد من حكاية هذه العائلة السورية القادمة من تلكلخ إلى لبنان، ينبغي النظر بجدية إلى توزع "الذكور" على خريطة ست نساء من أصل ثماني، هنَّ في الواقع بنات الأم شادية والأب أحمد، وهذا الأخير "الغارق الأبدي" في بحر من اللامبالاة لا يقلّ عنفاً وترويعاً لبناته الإناث من أزواجهن، بل يبدو أنه يبارك هذا العنف، ويعتاش منه، فهو يمارسه دون مواربة وخجل، بل يحكي أمام الكاميرا عن تكسير عظام من تمتلك منهن رأياً مخالفاً له، وأنه يمتلك كامل الحقوق في معاقبة من يشاء منهن، حد التسبب بالموت لهن، وهو يتكلم عن زوجاته الثلاث بإسفاف واحتقار. يكفيه أن يقول عن زوجته الثانية مثلاً: "شلّحتها الولاد، وقلتلها مع السلامة". يفكر أن هذا المصير نفسه قد يحدث لشادية التي رافقته على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وقد أصبح اللحم أخاً للّحم، "وصار الواحد لازم يغيّر طعمة تمه".

تضحك شادية باستهزاء، وليس في وسعها فعل شيء، فهي صارت مثل بناتها الأثيرات تتّقي شرّه، وتفضل أن يترك البيت وأن يعيش على هواه شريطة أن يتركها بسلام، فما عادت "فارقة معي".

أحمد، والد بنات شادية

الرجل الفاشل أحمد يضحك بفم مفتوح على مصير قلق يعاني منه اللاجئون السوريون في لبنان، وهو يقول إنه غير مكترث البتة بما يحدث حوله، فأمه لبنانية، وهو يقيم في لبنان منذ نصف قرن، لا بل إن نزقه وانسلاخه من آدميته، وتحكّمه بعائلته، تكشف في جانب منها عن أحوال السوريين أنفسهم الذين يعيشون على وقع طبول الحرب في سوريا، وتمزقها، وهروبهم إلى لبنان تباعاً، واستسلامهم لتنمر "الأشقاء"، إذ لا تفصل مدينة تلكلخ السورية عن مدينة طرابلس اللبنانية أكثر من خمسين كيلومتراً، ولطالما شكلت هذه المسافة القصيرة نسبياً متنفساً دائماً لشباب القرى الملاصقة لتلكلخ نفسها، بالعمل في التهريب عبر الحدود السورية اللبنانية، وهي الأعمال التي لم تتوقف أبداً، حتى بعد اندلاع الحرب في 2011، بل أخذت طابع تهريب أسلحة في الاتجاهين مع اشتداد أوارها في بعض الأحيان.

لا تترك المخرجة ليلى عساف شيئاً للصدفة، وليس مهماً هنا الاتكاء على بديهة عودتها إلى المادة الخام نفسها التي تجمعت لديها عبر العقود الماضية، وهي من المؤكد ما زالت تعود إلى أرشيف هذه العائلة لتصويب لقطة هنا، أو لقطة هناك، لكن معاينة مصائر الشقيقات الأخريات لا تقلّ إفزاعاً عن مصير ريم.

ربما كان وضع داليدا التي تمردت على قوانين العائلة واقترنت بشاب مسيحي اسمه سيزار، أفضل من أوضاع شقيقاتها، بسبب تفهّم زوجها لها، لكن صفية وزوجها اللبناني "أبو حديد" لا يبدوان في حال جيدة أبداً. أبو حديد الذي يعمل في تصليح السيارات لا يخفي شيئاً من "فحولته" وقدرته على ضرب زوجته بيد من حديد فعلاً، إن تطلّب الأمر، وهو لا يتورع عن إسكات طفليه بعنف، وإرعابهما بنظراته القاسية.

في المقترح البصري الجديد من حكاية هذه العائلة السورية القادمة من تلكلخ إلى لبنان، ينبغي النظر بجدية إلى توزع "الذكور" على خريطة ست نساء من أصل ثماني، هنَّ في الواقع بنات الأم شادية 

يقول إنه تربّى في حضرة الخالة، زوجة الأب، التي لم تكن تهتم سوى بأولادها، وقد وصف نساء أبيه بالعقارب في معاملتهن له. إنه يهرب بعينيه من مسؤولياته الأخلاقية، فيما تفضحه الكاميرا بسهولة، وقد تعمّدت المخرجة تجريح الفضاء الذي يعتمل أمامه، وهو "يفنجر" عينيه على وسعهما، علَّه يخيفها أيضاً، ويفرض عليها إتاوة حضوره.

فيلم "ريم وأخواتها"

تكاد عائلة شادية وبناتها تختصر حكاية سوريا نفسها بالفعل، وليس من المؤكد أن الخطوط الأخرى التي اشتغلت عليها المخرجة اللبنانية-السويدية بعد معايشة طويلة استمرت طوال عقود ثلاثة تخالف بديهيات صناعة الفيلم الوثائقي لجهة أن تقدح شرارة الإلهام، وتترك فسحةً من الألفة بين صانع الفيلم وشخصياته.

من المثير أن تُظهر بنات شادية تلك الحميمية في أحاديثهن وانفتاحهن على المخرجة، حتى في تطويرهن لبعض التفاصيل الأنثوية الدقيقة التي تتطلب عادةً في مثل هذه الأحوال، رحلةً صعبةً إلى أعماقهن، ما كانت لتتوفر على ما يبدو لسواها من المخرجات، فبنات شادية ينحدرن من عائلة محافظة وتقليدية جداً، ولا يخفي الأب أحمد "بطريركيته" الحامية، التي تفتل رأس كل من يشاهده على الشاشة، أو يراه متجسداً أمامه في شخصية رجل من أوباش الأرياف، فالت من عقاله، وقد أضاع هويته الضائعة أصلاً على رصيف مدينة متغيرة، تأبى أن تهضمه، وهي تتغير مع كل دقيقة وثانية، فيما يغرق أياماً بأكملها في لعب الورق مع رفاق السوء، الذين يجدهم بسهولة حين يحتاج إلى قضاء بعض الوقت معهم.

اللافت بالطبع في سيرة الفيلم هو إصرار المخرجة ليلى عساف تانغروث (نسبةً إلى زوجها الجندي السويدي الذي اقترنت به سنة 1966)، على أن تواصل رصد حياة هذه العائلة التي توزَّعت في عائلات أخرى، وصارت لديها قصصها عن أولاد وأزواج آخرين. بعض أفرادها يواصلون الغرق في الظلمات التي توقدها الحياة أمامهم، وبعضهم ما زال متمسكاً بالابتسامة والأمل، وهذا أجمل ما في شادية، المرأة الطيبة، وبناتها الطيبات!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image