تتقاطع حياتا نوال ولورين وتنسجم قصصهما المتشابكة معاً لتسلّط الضوء على تحديات المرأة في المجتمع الأردني، بل العربي بشكل عام، وبينما تتعرّض نوال للقيود الاجتماعية والتمييز بما يخص قانون الإرث، تعاني لورين من القيود الثقافية والجنسية في حضرة زوج معنّف وقوانين دينية تحول دون طلاقها، ومعاً تحاولان تحقيق العدالة بطرق لا تتناسب مع طبيعة المجتمع وقوانينه المجحفة.
نتحدّث هنا عن الشخصيتين الرئيسيتين في "انشالله ولد"، الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج الأردني أمجد الرشيد، الذي عُرض في مسابقة أسبوع النقاد في مهرجان "كان" السينمائي في دورته الفائتة، كما عُرض في مهرجان "فينيسيا" وحصد العديد من الجوائز.
تلعب دور نوال الممثلة الفلسطينية منى حوا، و دور لورين تؤديه الممثلة اللبنانية يمنى مروان، مع حضور مميز للممثل الفلسطيني هيثم العمري و الطفلة سيلينا ربابعة وغيرهم، وهو من كتابة المخرج أمجد الرشيد وديلڤين آكوت، وإنتاج رولا ناصر.
التجربة الأولى
بأسلوب سينمائي متقن وتصوير استثنائي يقترب من السينما الإيرانية، وربما السينما الإيطالية أيضاً، يتيح لنا الفيلم دخول العوالم العاطفية والعقلية للشخصيات، نتعاطف معهم ونعيش تجاربهم وتحدياتهم، حيث نجد أنفسنا مشدودين ومعجبين بتصميم نوال ولورين على مواجهة المجتمع وتحقيق التغيير الذي تطمحان إليه، ولو كانت النتائج غالباً غير مرضية.
بتجربته الأولى في صناعة فيلم روائي طويل بعد تجربته المهمة في الفيلم القصير "الببغاء"، استطاع أمجد الرشيد أن ينقل ببراعة معنى إدارة الممثل في فيلم "انشاالله ولد"، وتمكّن من استخلاص أداء مذهل من الممثلين/ات
بتجربته الأولى في صناعة فيلم روائي طويل بعد تجربته المهمة في الفيلم القصير "الببغاء"، استطاع الرشيد أن ينقل ببراعة معنى إدارة الممثل في الفيلم، وتمكّن من استخلاص أداء مذهل من الممثلين/ات، فتمّ تجسيد الشخصيات بصورة قوية ومؤثرة، تفاصيل تعابير الوجه ولغة الجسد، تعكس بدقة الانفعالات والمشاعر العميقة للشخصيات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تتميز العديد من العناصر الفنية في الفيلم والتي تخدم تجربة المشاهدين/ات، كالاستخدام المتقن للإضاءة والتصوير لإنشاء أجواء متفاوتة، حيث تجمع المشاهد الداخلية المعتمة والإضاءة المختلفة لخلق توتر وتأثير درامي، كما تظهر التركيزات الحادة وتقنية التصوير التي جابت الكاميرا فيها شوارع و أزقة لنقل الواقعية والقرب الشديد من الشخصيات.
يلعب أيضاً التصميم الصوتي دوراً بارزاً في تعزيز المشاهد وإيصال الأحاسيس والتوترات الداخلية للشخصيات. تتناغم الموسيقى التصويرية (تأليف جيري لين) مع الأحداث وتعزّز الجو العام للفيلم، سواء بتأثيراتها الحميمة والمؤثرة أو بالصمت التام لتعزيز التركيز والتوتر في بعض المشاهد المشحونة.
على صعيد المونتاج، يلاحظ الاستخدام المتقن لتسلسل الأحداث وتناغمها بشكل يحافظ على الإيقاع ويثير الاهتمام، ويتمتع المونتاج بإيقاع محكم وتركيب جذاب يعزّزان الأحداث ويجعلانها تتدفق بشكل طبيعي ومترابط. بشكل عام، يمكن القول إن العناصر الفنية في الفيلم تعمل بشكل متناغم لنقل المشاهدين/ات إلى عالم القصّة وتعزيز التجربة السينمائية بشكل عام.
الحكاية الضرورية
البيئة التي اختارها المخرج في فيلم "انشالله ولد" تعكس الفروقات الطبقية في المجتمع الأردني، وعلى الرغم من أن الدين قد يكون له دور مهم في حياة الأفراد، إلا أنه يصبح مشتركاً في القمع والتمييز عندما يؤدي إلى سلب حقوق المرأة، ففي الفيلم نرى أن الدين يُستخدم كأداة للسيطرة والقهر على الشخصيات النسائية، بحيث يظهر تمييز المجتمع تجاه المرأة وعدم اعتبارها كاملة الحقوق، ويتم تجاهل رغباتها وحقوقها الشخصية.
ويسلًط الفيلم الضوء أيضاً على الدور الذكوري القائم على القوة والسلطة في المجتمع، وكيف تُستغلّ الأحكام الدينية لتبرير قمع وسلب حقوق المرأة، يصبح الدين غطاء للظلم الاجتماعي والتحكم في حياة المرأة.
أماً بالنسبة لحكاية الفيلم، فهي تدور حول نوال التي تعيش في شرق عمّان، أم لطفلة، تستيقظ في الصباح لتجد أن زوجها قد مات، بعد محاولتها في الليلة السابقة إقامة علاقة حميمية معه، ورفضه، وهي التي تحسب أيام الإباضة كي تستطيع إنجاب طفل آخر، ويعتبر هذا التفصيل مهماً في البناء الذي يرتكز عليه الفيلم والذي يظهر من عنوانه.
البيئة التي اختارها المخرج أمجد الرشيد في فيلم "انشالله ولد" تعكس الفروقات الطبقية في المجتمع الأردني، وعلى الرغم من أن الدين قد يكون له دور مهم في حياة الأفراد، إلا أنه يصبح مشتركاً في القمع والتمييز عندما يؤدي إلى سلب حقوق المرأة
إذن، يموت زوج نوال فجأة، قد تعتقدون أن هذا سيكون تعقيداً كافياً لأرملة لديها ابنة صغيرة، ولكن تتعرّض لسلسلة متتابعة من الأحداث المؤسفة التي تتراكم وتضعها في متاهات لم تكن بالحسبان، تبدأ مع ظهور شقيق زوجها الذي لم ينتظر أن يجفّ قبر شقيقه ويطالبها بسداد الدين الذي أعطاه لشقيقه، مروراً بشقيقها الذي يخاف أن تصبح عالة عليه، وليس انتهاء بقصة البيت الذي تعيش فيه والذي اشترته من إرثها الخاص وعملها في التمريض المنزلي، لكنها سجّلته باسم زوجها كيلا يتعرّض لسخرية المجتمع كونه يعيش في بيت زوجته.
كل هذه المعضلات في كفّة، وقانون الإرث في كفة أخرى، والتي تكون أول صفعة على وجه نوال، لأنها أم لطفلة، فهذا يسلبها الحق في المنزل الذي يستطيع شقيق زوجها محاصصتها فيه، وفي حق حضانتها إذا أثبت أنها غير مؤهلة، خاصة في ما يتعلق بسمعتها.
في المقابل، تظهر شخصية لورين، ابنة العائلة الثرية التي تعيش في غرب عمّان، والتي تعمل لديهم نوال كممرضة لمسنّة تعاني من الزهايمر. لورين شابة جريئة، تعبر عن رغباتها بصوت عال أمام عائلتها المحافظة، تحاول أن تجد مخرجاً لإجهاض طفلها من زوج يتلذذ بخيانتها وتعنيفها، وهنا تلتقي نوال ولورين في مشهد غاية بالدقة، فنوال التي كذبت أمام القاضي بخصوص حملها كيلا تخسر منزلها، تقف أمام لورين التي تريد إجهاض طفل لا تتمنى أن يكون زوجها والده، وتصبح لكل من نوال ولورين حكايات تتشاركان بها، تصل إلى حد اقتراح لورين أن تتواصل نوال مع تطبيقات التعارف لإيجاد حل لمشكلتها، لكن كل هذا يحدث في عزّ اليأس والخوف اللذين يعشّشان داخلهما، دون أي تطبيق فعلي.
الجانب الآخر
من جهة أخرى ومع تسارع وتيرة الأحداث التي تصل إلى حد الكارثة، أراد المخرج أيضاً أن يظهر نماذج لرجال متفهمين وحاضنين، وكانت عبر شخصية هشام، زميل نوال في العمل (إسلام العوضي)، فشكّل حضوره محاولة لخلق توازن كاد ينهار مع شدة وتيرة التصعيد الدرامي. قبلة بينهما كانت كافية لتدرك نوال كيف كانت حياتها السابقة. كان لا بد من لحظة تمرّد خاصة بعد الذي حدث مع لورين، والذي لن يتم الكشف عنه في المقال كيلا يتم حرق الأحداث، مع تفصيلة الولد الذي سيأتي أم لا.
ننتقل للحديث عن التمثيل الذي يؤكّد على موهبة وتفرّد منى حوا، وقدرتها على فهم ما يُراد منها، حيث قدمت أداءً مؤثراً يُظهر التوتر النفسي والصراع الداخلي الذي تعيشه، ونجحت في نقل تلك العواطف وإيصالها بطريقة واقعية ومؤثرة.
من المحتمل أن يتعرّض فيلم "انشالله ولد" لحملة رفض كبيرة فور عرضه في الأردن، تحت حجّة أنه "لا يشبهنا" التي باتت تحضر عندما يقرّر أي كاتب أو مخرج أن يفتح جروحاً مجتمعية تكشف المستور
الحملات المجتمعية المعتادة
فالفيلم يعمل كمرآة تعكس تحديات المجتمع والظلم الذي يحيق بالنساء، ويدفعنا إلى التفكير في قضايا المساواة والحقوق. إنه فيلم يلقي الضوء على الحاجة إلى التغيير والتحرر من القيود التي تعيق تقدم المجتمع وتقوض حقوق الأفراد، والميزة فيه أنه اختار شخصيات تعيش في تمايز طبقي وديني، لكن ما يجمع هذا التمايز هو قمع المرأة الذي يوحّد صفّ المجتمع الأردني.
باختصار، فيلم "انشالله ولد" عمل سينمائي ينقلنا في رحلة تحت الجلد إلى عالم الإنسانية والظلم الاجتماعي، نتابع قصّتين مؤثرتين تعبّران عن الصمود والتصميم في مواجهة التحديات، وبفضل إخراج الرشيد المميز وأداء الممثلين، يتمكّن الفيلم من إثارة الانفعالات وتحفيز التفكير في قضايا العدالة، ونقل واقع يشبهنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.