"سوريا من جديد؟ لماذا؟ ألم ينســـنا العالم؟ أوَلم نسقط بعد بالتقادم؟".
وجهتُ تلك الأسئلة لنفسي حين سمعت أن نتفلكس تعدّ فيلماً درامياً عن الصبيتين السوريتين، سارة ويسرى مارديني، وكيف أن الشركة تعتزم توثيق قصتهما السوريالية، بالمقياس العالمي، الطبيعية بالمقياس السوري.
مرّت بعدئذ الأيام وبدأ عرض الفيلم، ثم صارت الأختان "السبّاحتان" في قلب بؤرة الضوء العالمية، وحصد الفيلم أعلى مستويات للمشاهدة على المنصة في كل دول العالم، ما يبشّر بجوائز مستقبلية أكيدة.
أجل، منصة نتفلكس "بيضاء" جداً، و"هواها غربيّ"، ولا تنجو في كثير من الأحيان من الضحالة والسطحية والانحياز الصارخ في عدة قضايا، ويليق بها الكثير من الصفات اللزجة كأيّ شركة رأسمالية تبحث عن الربح.
هممت أن أتفرّج على الفيلم بعين النقد أولاً، ولكني ما إن بدأت بالمشاهدة حتى ارتجفت صورة الأمس أمامي، كأنني ارتطمت بشخص داخلي كنت أتجاهله، وصارت الفراشات ترقص بعنف في معدتي، وهويتُ داخل القصة، ثم أصابني الانحياز للفيلم كمن يعيش داخله، خاصة أنني عبرتُ نفس التجربة، وغرق بي القارب المطاطي عينه، و نزلت في ليسفوس، نفس الجزيرة التي حطت عليها الفتاتان.
عادت إليّ صور الناس الذين شاركوني التجربة، صدى صراخ الأطفال، رعبنا حين بدأنا نحسّ بالغرق، تباطؤ القارب وامتلاؤه التدريجي بالماء، الفوضى والجلبة وتوقّف المحرّك عن العمل، ثم جفاف حلقي أمام احتمال الموت الذي تصاعد مع هبوط القارب التدريجي إلى أسفل، ومن ثم نشوة النجاة على الشاطئ: "أجل فعلناها". كل تفصيل صار واضحاً أمامي كأنني في داخله.
عاد إلى رأسي كل شيء، وكأن القارب المطاطي الذي غرق وهو يحملني إلى أوروبا حملني مرة أخرى كي يحاول أن يعتذر مني عن هذه التجربة البشعة.
يوثّق فيلم "السباحتان"، مع بعض التعديلات الدراميّة، قصة وصول فتاتين سوريتين إلى أوروبا، عبر "قوارب الموت"، في إشارة مباشرة وغير مباشرة إلى الكثير من جوانب القصة الحقيقية لما حدث، برمزية واختصار شديدين
سأترك تحليل الفيلم سينمائياً لمختصّي ومختصّات هذا المجال، ولن أحرق أيّاً من الأحداث، ولكنني بالمقابل سأسرد بشكل مقتضب أسباب كون هذا الفيلم (برأيي) قيمة مضافة للقصّة السورية، رغم كونه مشروعاً ربحياً من إعداد نتفلكس.
توثيق إنساني، لا تمثيل ديمقراطي
وثّق هذا الفيلم، مع بعض التعديلات الدراميّة، قصة وصول فتاتين سوريتين إلى أوروبا، فقط لا غير، وهي قصة ذات قيمة سرديّة، وبكل المعايير القياسية لجودة القصة، ناهيك عن أن القائمين والقائمات عليها لم يدّعوا بأنهم "يمثلون الشعب السوري"، فلا يمكن "دمقرطة" ساعتين من السرد السريع لتشمل جميع شرائح أي شعب، رغم الإشارة المباشرة وغير المباشرة إلى الكثير من جوانب القصة الحقيقية لما حدث، برمزية واختصار شديدين.
وبشكل شخصي، ورغم أنني لا أتّسق سياسياً مع طريقة الفيلم الضبابية، إلا أنني لا يمكن إنكار أنه أرسل رسائل سياسية في منتهى الوضوح، واتهامه بالرمادية ليس صحيحاً برأيي، وأرى أيضاً أن المخرجة سالي الحسيني كانت موفقة في تصوير المشهد الشبابي السوري، لشريحة واسعة من الطبقة الوسطى، إذ لمستني الكثير من المواقف التي ذكّرتني بمزاحي مع أخي وأختي، وحياتنا في سوريا وخارجها كعائلة، وكأن المخرجة سالي الحسيني تفهم المجتمع السوري جيداً وتحبّه، إذ إنّها أيضاً كاتبة الفيلم.
بصمة فنية سورية واضحة
يبدو أن "صيّادي المواهب الفنية" الذين تواصلوا مع فناني وفنانات فيلم "السباحتان" كانوا انتقائيين إلى حد كبير، إذ اختاروا بعناية طائفة من أجود الفن السوري نوعاً، من فنانين وفنانات، يعيشون خارج سوريا بتجارب اغتراب مختلفة، ليصير لهم اسم وبصمة واضحة في هذا الفيلم.
تحدثتُ إلى الرسّامة السورية ديالا برصلي، التي نفّذت البوستر المفعم بالشفافية والقسوة معاً، والذي أغنى الفيلم كثيرا برأيي.
ديالا كان لها باع كبير في رسومات قناة الأطفال الشهيرة Spacetoon فيما مضى، وساهمت في ما بعد بمشاريع فنية كبيرة لدعم أطفال مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان وفي كل العالم.
بوستر الفيلم. رسم: ديالا برصلي (تم النشر بموافقة الفنانة)
رسمت ديالا بيديها بوستر الفيلم باستخدام الألوان المائية على لوحة مشدودة بالماء، تصوّر أمواجاً عاصفة تطارد السباحتين المجهدتين والحالمتين بهدوء وسلام المياه الأولمبية، وهما تحاولان النجاة من رحلة القارب المطاطي. لتقضي ديالا أسبوعاً كاملاً دون نوم كي تنجز المهمة الكبيرة التي أسندت إليها من نتفلكس، و"في وقت قصير وغير كاف" ومع ذلك أنجزت هذا العمل الجميل.
بو كلثوم، المنتج الموسيقي والمغني السوري واسع الصيت، شارك في الفيلم بأغنيته "ممنون".
لينا شماميان، العلامة الشهيرة في الموسيقا السورية وإحدى أعمدتها، ساهمت بأغنيتها المعروفة والتي كتبتها بنفسها "شآم".
يوسف كيخيا، الموسيقي السوري المرهف شارك بأغنيته المينمالية الحالمة "فراغ".
قراءة جديدة لرحلة قارب الموت ومحاكاة صدمة رعب الغرق
لم يكن التوصيف لتجربة "قارب الموت" متكلفاً أو مبهراً إخراجياً في هذا الفيلم، إلا أنه كان من البساطة بمكان ليستطيع محاكاة التجربة بصيغة أقل عنفاً بصرياً، وهذا مفهوم لما تفضله الذائقة الغربية حين تتعاطى مع القضايا الإنسانية، حيث إن طرطشة الدماء غير مستحبة، فعلى الضحايا بالمفهوم الغربي أن يتعذبوا بلباقة ونظافة.
الجملة التي قالها هذا الفيلم للشباب والصبايا من سن "السبّاحتين": "قصتكن تعني الكثير وتستحق إنتاجات ضخمة. أنتنّ مضادات للرصاص، و لا شيء لتخسرنه"
نتفلكس تفهم عملها جيداً، وتعرف كيف تقشّر وتجهّز القصص كي يصير استهلاكها أسهل حول العالم.
جميع من عاشوا تجربة القارب المطاطي وغرقه، وأنا من ضمنهم، نريد أن نرى هذه التجربة مجسّدة بأمانة ،إذ نعلم تماماً ماذا تعني هذه اللحظة المصيرية، ونعرف ماذا حصل لنا بعدها، في حال النجاة، من عقدة الناجي، العقدة التي (برأيي) ساهمت في دفع سارة مارديني "في الحياة الحقيقية" فيما بعد للعودة إلى اليونان، وإلى جزيرة ليسفوس تحديداً، ومحاولة مساعدة اللاجئين الذين مرّوا بنفس التجربة، إلى أن اتهمت ظلماً بالإتجار بالبشر، ولازالت تواجه المحاكم اليونانية حتى يومنا هذا.
عائدات القصة على الصورة النمطية للمرأة السورية/الشرقية
كان هنالك دائماً "برقع" يؤطر شخصية ومبادرة المرأة العربية في عين الغرب، حتى إذا تم تداول المرأة العربية بطريقة حداثية، وكانت هوليود تصرّ على إهانة المرأة الشرقية في كل المناسبات تقريباً.
فضّلت في هذه الجزئية ألا أكون كاتب الرأي، وأن أقدم سرداً لشهادات سورية لنساء عايشن تجربة اللجوء بقوارب الموت، وأصوات أوروبية لصديقات لي في ألمانيا.
قالت الصديقة سنا (24 عاماً): "أنا ممتنة للفيلم، صار هنالك منتج أستطيع أن أريه لأصدقائي في الجامعة وأنا أشعر بالفخر، نعم أنا من نفس بلد سارة ويسرى".
قالت لين (22 عاماً): "أفتخر كثيرا أن البطلتين امرأتان سوريتان مثلي، وأن قوة القلب خرجت أمام عيون الغرب من قالبها الشرقي الرجولي".
قالت سمر: "الفيلم مبالغ فيه ومدعي تحرّر مالو موجود، وعم يضحك عاللحى".
قالت نينا (30 عاماً)، صديقة من ألمانيا: "الآن أعرف من أين أتت قوة صديقاتي السوريات، الفيلم أخبرني الكثير".
قالت هانا الصديقة الألمانية أيضاً (28 عاماً): "لم أفهم فعلاً من الفيلم ما حدث في سوريا ومن كان الجاني والضحية، ولكني أرى المرأة السورية فعلا بطريقة جديدة".
قالت سوزانا، صديقة من ألمانيا (23 عاماً): "تأثرت كثيراً، كنت لأبكي كالأطفال لو حدث لي ما حدث للفتاتين، أحسست أني كنت معهما".
مفهوم المهنة والطموح وارتباطه بحرية الجسد عند المرأة
كانت أغلب العائلات السورية تتمنى مستقبلاً مهنياً "آمناً" وهادئاً لبناتها، دون الكثير من "خطر" إقحام أجسادهنّ في المهنة كإحدى ضرورات العمل.
"ما حصل لنا في القارب ليس عادياً، لقد اتفقنا مع أنفسنا على اعتباره عادياً، وهذا خطأ. هذا ما قاله لي الفيلم، ما حصل ليس عادياً، وما تجاوزناه كبير وذو معنى و يتحمل مسؤوليته كل البشر"
قائمة من المهن "المحترمة": "معلمة"، "طبيبة"، "خياطة نسائية"...، ومهن "محرّمة" وهي التي يتم فيها توظيف أو إظهار الجسد: "رياضية"، "إعلامية"، "عارضة أزياء"، "راقصة"…، كانت تحمل وصمة اجتماعية أكيدة لكل من تمتهنها، حتى لو كان أهلها ومجتمعها الصغير داعمين لها.
من الجميل أن نرى نساء كالأختين، ممثلتين بشكل جيد في الإعلام.
بعيداً عن الفيلم، يسرى مارديني الآن صبية في الرابعة والعشرين، تعيش حياة صبية سورية في ألمانيا، مع الكثير من الشهرة، تريد أن تكون جزءاً من المجتمع الألماني، تكمل دراستها الجامعية وتريد السباحة، بكل الامتيازات المستردة لأي امرأة، يتابعها مئات الآلاف من السوريين والسوريات، ولا شك أن تأثيرها واضح على أبناء وبنات جيلها، وخاصة من كان منهم في أوروبا.
قالت الصديقة علياء (25 عاماً): "المرأة السورية عادية، بتلبس مايوه وبتسبح لتحقق حلمها، وأهلها يسمحون لها تستثمر بصحتها وجسمها، هي عندنا منها، بس قليل، وهالقليل شو حلو يكتر".
قالت الصديقة يارا: "تركت الهندسة المعمارية واتجهت لتحقيق حلمي كي أصير راقصة محترفة، وأنا اعلم أني أستثمر في جسدي، وهذا غير مستأنس في مجتمعاتنا، ولكني سأمضي في ذلك للنهاية".
نقطة في صالح اللاجئات واللاجئين
أظن أن "السبّاحتان"، وباعتبار أنه مطبوخ على الطريقة الهوليودية، هو جيد الوصول والهضم لدى الرأي العام الأوروبي، والآن، حين يتصدر الفيلم قائمة مشاهدات نتفلكس في العالم أجمع، فليس هنالك شك أنه سيدعم الصورة الإنسانية لمأساة اللجوء، في وجه الصعود المتسارع والوحشي للتيارات اليمينية في كافة أوروبا، وخاصة في ظل الأزمة الاقتصادية، والتي تصور اللاجئين كوحوش يهدّدون مصير القارة ككل. ولا أظن أن الكثيرين من الناس يعون خطورة وجدية وفعالية اليمين الجديد الصاعد في كل مكان.
أريد أن أشدّد على أنني كاتب منحاز في هذا المقال، وأفتقر إلى الموضوعية والتجرد، وحتى إلى الثقافة والنخبوية الكافية كي أحلل كما يحلل الناس، لأن الفيلم يحكي قصتي أنا، ولكني أعتقد أنني حقيق بهذا الانحياز، وأن لي وللملايين من أمثالي حقاً في رؤية فيلم حاكى قصتهم بالطريقة التي يريدون، إذ إنه صوّر لحظة تاريخية من عمري، ومن أعمار أناس كثيرين مثلي، تحمل الكثير من الهزات والدروس.
قالت لي الصديقة لين بحرقة وحزم معاً: "ما حصل لنا في القارب ليس عادياً، لقد اتفقنا مع أنفسنا على اعتباره عادياً، وهذا خطأ. هذا ما قاله لي الفيلم، ما حصل ليس عادياً، وما تجاوزناه كبير وذو معنى و يتحمل مسؤوليته كل البشر".
هذا السطر ربما هو الذي دفعني كي أتمسك بإنهاء هذا المقال وتقديمه.
دائماً ما تتحكم المنفعة بمحدّداتي الشخصية لتقييم الأعمال الفنية التي تحكي القضية والتغريبة السورية.
ما هي الجملة التي قالها هذا الفيلم للشباب والصبايا من سن يسرى مارديني، وما هو السطر النفسي الجديد الذي قيل فيه؟
سمعته جلياً في الفيديو الدعائي للفيلم: "قصتكن تعني الكثير وتستحق إنتاجات ضخمة. أنتنّ مضادات للرصاص، و لا شيء لتخسرنه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.