"العراضة فلكلور يُقصد من ورائه الفرح بالعرسان، وفي وقتٍ سابق، لم تكن هناك فرقة خاصة، إنما لمّة شباب الحارة، التي كانت تتجمع في دار العريس في الأحياء القديمة، ﻹيصاله إلى الحمام، ثم التلبيسة، وعادةً ما يتبرع أحد الحاضرين من أصحاب العريس، ويمتاز بقرض الشعر العامي والتوصيف، ليبدأ بهما بينما يردد الحاضرون خلفه"؛ هكذا يصف محمد أبو كاسم (45 عاماً)، وهو قائد فرقة الشام القديمة، العراضة الشامية.
والعراضة هي عبارة عن أهازيج وعبارات شعبية تراثية، تنمّ عن البهجة، وتتزامن معها طقوس من الرقص واستعراض القوة، وهي ليست مخصصةً فقط للأعراس، ففي الكثير من المناسبات اﻻجتماعية كـ"طهور اﻷولاد"، والاقتصادية وحتى السياسية والوطنية، تكون "فرقة العراضة بلباسها التقليدي حاضرةً"، ولها في كل بابٍ كلماتها، لكنها ارتبطت جذرياً بـ"العرس الشامي" وباتت ملاصقةً له، في العرف والتقاليد منذ عشرات السنين.
فلكلور شامي خاص بالعرسان
يقول أبو كاسم لرصيف22: "قديماً، لم يكن هناك إﻻ الدف ورقصة الشباب التي تظهر نوعاً من القوة، من خلال استخدام السيف والترس والخنجر والمزاهر والدف، وتحديات بين الشباب في الساحة الملاصقة لبيت العريس، أشبه ما تكون بمعركة واقعية كنوع من إضفاء جوٍّ حماسي، تنتهي بتبويس الشوارب والضحك".
تحوّلت تدريجياً تلك العادات والطقوس الفلكلورية إلى مهنة يمتهنها بعض الشباب الدمشقيين، وبرغم ظروف الحرب في سوريا، إﻻ أن التهجير القسري، لم يؤثر على تلك العادات وإنما زاد من انتشارها على رقعة جغرافية واسعة، سواء في الداخل أو حتى بلاد المهجر التي استضافت السوريين.
وتحولت العراضة مع الوقت إلى فلكلور منظّم أكثر، فتأسست عدة فرق عراضة في دمشق في ثمانينيات القرن الماضي، وكان أشهرها "فرقة الشام القديمة"، التي ضمت إليها شباباً ممن يجيدون التوصيف بصوت حسن، ومن يمتازون باللعب بالسيف والترس.
بحسب أبو كاسم، "تتكون فرقة العراضة من القائد الذي يدير العراضة، ويُسمّى الوصيف، و12 إلى 42 شاباً يجيدون اللعب والمبارزة بالسيف والترس، ولفرقة العراضة لباسها التقليدي القديم 'الشروال اﻷسود'، والقميص بألوانه المختلفة، وهذا الزي انتقل من جيل إلى آخر، بهدف الحفاظ على التراث الشامي".
يتباهى بعض الوصّيفة بقدرتهم على اﻻرتجال الذي يُعدّ شرطاً أساسياً في الأداء، والوصلة قد تصل إلى ما يزيد عن ساعتين من دون توقف
يروي أبو كاسم لرصيف22، أن "الوصيف يمتاز بكاريزما خاصة وقوّة حضور وشخصية، وفي تعابير وجهه الكثير من الرجولة، والشيء المهم قدرته على إنشاد الشعر العامي، ممّا يحفظه أو يحضر بالبديهة في خاطره من اﻷهازيج التي تتوافق مع المناسبة، عرساً كانت أم حفلاً، ويترافق ذلك مع صوت حسن وعذب وقوي".
ويتباهى بعض الوصّيفة بقدرتهم على اﻻرتجال الذي يُعدّ شرطاً أساسياً في الأداء، ويشير إلى أن "الوصلة قد تصل إلى ما يزيد عن ساعتين، فترى الحضور يردد منذ البداية عبارة التحدي ويقولون: 'أقول القول ما عيدو... الله حامي عبيدو'"، ويُكمل الشاب الأربعيني أن حضور فرقتين للعراضة، يضفي على المناسبة أجواءً خاصةً، إذ هنا تحدث منافسة بين الفرقتين، سواء من ناحية اﻻستعراض بالسيف والترس، أو حتى اﻷهازيج التي تبدأ عادةً بعبارة: "أبو فلان رد علينا... مالك تقلان علينا... أبو فلان مالك صفنان... سمعنا الصوت الرنان".
ومن الرديات المعروفة:
"عريس الزين يتهنّى يطلب علينا ويتمنى
يا عريس كفّك محنى يا عريس كتر ملبّس
يا سباع البرّ حومي اشربي ولا تعومي
اشربي من بير زمزم زمزم عليها السلام
ويا سلام اضرب سلام عللي مظلل بالغمام
الغمامة غمتو غمتو وما لمتو غمتو خوفاً عليه
وعلينا... وعليه وعلى من زار قبره وعلى من حج إليه".
وينشد الوصيف برفقة فرقته من "الرديدة"، كلماتٍ موزونةً وعلى قافية واحدة، في زفّتهم للعريس. وما أن يتوقف الوصيف حتى يبدأ استعراض "السيف والترس"، برفقة أصوات السنّيدة التي تكرّر ما ردّده الوصيف، ما يشكل رقصةً شاميةً بامتياز اشتهرت منذ ما يقارب الـ200 عام في دمشق، إذ تؤدى من قبل مجموعة من الرجال المدرّبين المتمرسين، وبحذر شديد، برغم ما يعلوها من حماسة في أثناء أدائها، والحذر هنا من السيوف التي يتم اللعب بها، والمصنوعة من الحديد والتي يمكن أن تؤذي من يقوم بالاستعراض.
حاضرة في شمال سوريا
مع التهجير القسري الذي فرضه نظام اﻷسد نتيجة سنوات الحرب، حضرت العراضة الشامية وانتشرت في شمال سوريا، برغم أنها بدأت على نحو ضعيف نتيجة الحملات العسكرية والقصف الذي كان يشنّه النظام، ولكن مع التهدئة، عادت لتنتشر خاصةً في افتتاح المحال واﻷعراس.
يقول أبو العز، وهو قائد عراضة "فرقة عز الشام"، إن العراضة باتت تزدهر في شمال سوريا منذ رحلة تهجير أهالي الغوطة الشرقية منذ عام 2018، ولاقت استحساناً في الأفراح في مناطق حلب وإدلب لغيابها وحصر هذه الفرق لسنوات في دمشق كونها تراثاً شامياً.
ويشير إلى أن أجور العراضة تتراوح من فرقة إلى أخرى، ما بين 75 دولاراً أمريكياً إلى 200 دولار، وذلك بحسب عدد الساعات وعدد عناصر الفرقة ومكان الحفل، والعدد قد يصل إلى 42 عضواً داخل العراضة وقد تصل مدة العرض إلى 5 ساعات متواصلة.
وبخصوص توزيع الأجور، يقول إن حاملي المزهر والطبل والدف والسناير يتقاضون في الحفلة 10 دولارات على الساعة الواحدة، وأمّا السنيدة وحاملي الرايات 5 دولارات في الساعة.
ويذكر أبو العز، أن انتشار فرق العراضة الشامية في شمال سوريا، دفع العديد من الشبان إلى تعلّم هذا الفن وفهم تعاليم هذه العراضات وأصولها، الأمر الذي وصفه بأنه هدم للتراث الشامي، لما تضمّه تلك الفرق من شبان لا يحملون صفات رجال الفرق، وأبرزها "تربية الشعر ومضغ العلكة وعدم توحيد اللباس واستخدام الوصيف لجمل شعرية مسروقة من فرق أخرى".
ويوضح أن هذه الفرق باتت تنافس الفرق الشامية الأصيلة لعروضها المغرية والرخيصة، مثلاً أجر حفلة كاملة "50 دولاراً أمريكياً" فقط.
العنصر النسائي
ينفي أبو العز، أي وجود للنساء في العراضات الشامية الأصيلة أو حتى تواجد العراضات في أماكن تجمّع النساء، لافتاً إلى أن الفرق المنشأة حديثاً أضافت هذا الطابع وبدأت ترافق العريس إلى عرس النساء وإنشاد رديات للعروس وأهلها، الأمر الذي يصفه أبو العز بغير المقبول كونه "يخالف أعرافنا كدمشقيين"!
تدللي يا عيني... على عريس الزيني... تدللي وتدللي... اليوم رح تدللي... على العريس الشامي... تدللي يا غالية... ليطالعك ع العالية... والعالية قصر البنات... يا بنات ويا بنات
في المقابل، يقول أبو ماجد الشامي، وهو قائد فرقة الغوطة التي تأسست مطلع 2019، إن "عراضة العروس لها طقوسها الخاصة، التي لا تختلف كثيراً عن عراضة العريس".
وتمتاز التوصيفات في هذه اللحظة بتوصيف العروس، كتلك العبارة التي ردّدها أمامنا الوصيف "أبو ماجد"، وهي: "تدللي يا عيني... على عريس الزيني... تدللي وتدللي... اليوم رح تدللي... على العريس الشامي... تدللي يا غالية... ليطالعك ع العالية... والعالية قصر البنات... يا بنات ويا بنات... يا أم شعور مجدلات... يلي شعرك شعر الخيل... يا فرس ولف ع الخيل".
ليست مصدراً للرزق
يؤكد خالد (23 عاماً)، من ريف دمشق وهو مهجّر إلى إدلب شمال سوريا، إنه ورث المهنة عن أجداده ويعمل على الحفاظ عليها، فهي تراث وتقليد جميل وعريق، ويقول لرصيف22: "لا أعمل فعلياً في العراضة فقط، فاﻷوضاع اﻻقتصادية في الشمال سيئة، وإنما أحاول أن أجعلها مصدر دخل آخر، أسدّ به الرمق، وأحافظ به على هذا الفلكلور الشعبي الدمشقي".
ويشير إلى أن المردود المالي من العراضة يُعدّ ضعيفاً، "فاﻹقبال ليس بالقوة التي كانت في الماضي، نتيجة الظروف المعيشية القاسية، لكن يزداد الطلب على العراضة الشامية خلال الصيف، خاصةً في موسم الحج، أو حين افتتاح بعض المحال التجارية".
من جهته، يعمل أبو مؤيد (30 عاماً)، كمساعد قائد فرقة الغوطة للعراضة، في محل للأدوات الصحية، كمهنة أساسية، أمّا "العراضة" التي بدأ عمله فيها قبل قرابة 3 أعوام، فهي عمل ثانوي، ﻷن دخلها اليوم ضعيف لا يسد الحاجة، لكنه يعتقد أنها تساعد في كسب دخل مقبول، في ظل هذه الظروف الصعبة، وأحياناً يتعارض العمل في مهنته الرئيسية مع توقيت الحفل الذي قد يكون افتتاح محل تجاري نهاراً، أو عند العصر.
رمز دمشقي
يروي الحاج أبو رضوان (65 عاماً)، وهو مهجر من دمشق، لرصيف22، أنّ العراضة الشامية، رمز دمشقي أصيل، فهي تحمل رسائل تراثيةً تركز على القوة، كما أنها تمثل صفات نبيلةً تظهر فيها حقيقة الدمشقيين والسوريين بوجه عام، وهذا يلاحظ في نهاية اللعب اﻻستعراضي بالسيف والترس.
ويضيف: "فيها لمة الشباب واﻷحباب وهذه وحدها كافية لفهم طبيعة السوريين وتكاتفهم في المناسبات واﻷفراح، حتى إن تحولت إلى مهنة اليوم".
واستطاع الدمشقيون المحافظة على تراثهم ونشره خاصةً "العراضة الشامية"، التي باتت عنواناً حاضراً في الكثير من المناسبات في شمال سوريا، خاصةً بعد تراجع الأعمال القتالية، وكلهم يجمعون على تمنّي أن ترجع العراضة بقوة على أبواب دمشق، بعد سقوط نظام الأسد.
دﻻﻻت تاريخية
ولكل عادةٍ فلكلورية، جذورها وتاريخها، فالعراضة الشامية، ليست بعيدةً عن تلك القاعدة وﻻ استثناءً، كما يجمع أصحاب الشأن واﻻختصاص، ويرجع تاريخ بعض الفرق إلى ما يزيد عن مائة عام؛ ففي دمشق مثلاً، هناك "فرقة فرسان المحبة" كنموذج عن تلك الجذور الضاربة في التاريخ بحسب محمد القاضي(50 عاماً)، ابن دمشق، وأحد رموز العراضات الشامية.
مصطلح (شامية) مجرد إشارة إلى هذه الرقعة الجغرافية، وفي كثير من الحاﻻت كانت العراضة الشامية، شكل من أشكال الرسائل للمحتل الفرنسي، تجوب الحارات العتيقة
يقول الدكتور محمد الشيخ، المختص بالدراسات التاريخية والباحث اﻻجتماعي؛ إنّ العراضة الشامية، رسالة في مرحلة تاريخية، عاشتها سوريا، لعل أبرز ما يمكن الإشارة إليه هي فترة اﻻستعمار الفرنسي، وحركة المقاومة ضده.
ويضيف في حديثه لرصيف22: "لا يعني عبارة (شامية) نسبة العراضة للدمشقيين، فمحافظة حماة وحلب على سبيل المثال، لهم لمساتهم وبصمتهم، إﻻ أن مصطلح (شامية) مجرد إشارة إلى هذه الرقعة الجغرافية"، ويستطرد: "في كثير من الحاﻻت كانت العراضة الشامية، شكل من أشكال الرسائل للمحتل الفرنسي، تجوب الحارات العتيقة".
يعطي الشيخ مثالاً، ويقول: "إحدى العبارات التي استخدمت (حملتنا ع الشيخ رسلان... شيخ رسلان يا شيخ رسلان... يا حامي البر والشام)، فالمفهوم السائد لدى الدمشقيين تحديداً منهم أصحاب التيار الصوفي أن الشيخ رسلان المدفون في دمشق، هو الذي سيحمي البر الشامي من غزوات المعتدين".
ويتابع: "وفي مثالٍ آخر، نسمع من يردد في العراضة الشامية توصيفه (زينوا المرجة والمرجة لينا... شامنا فرجة وهي مزينة)، وللمرجة في العرف الشامي دﻻﻻت تاريخية على المقاومة".
بدورها اﻷستاذة وصال عزاوي، الباحثة في التاريخ، تؤكد لرصيف22 أن "للرقصة الفلكلورية في العراضة مفهومها الخاص، فهي تجمع بين الرجولة واﻻستعراض والفرح، وهي نموذج يمثل شكل الحياة في تلك الحقبة الزمنية، خاصة أيام الحكم العثماني، فالسيف والترس والراية والرمح، دﻻﻻت على القوة والمنعة، وإيحاءات نفسية خاصة".
وتنوعت تاريخياً فرق العراضة وحملت مسميات المحافظات السورية، كالحمصية والحلبية والحموية، لكن الشامية تبقى أكثر حضوراً، بحسب محمد الشيخ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.