شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الصقّارون شمال سوريا ينتظرون

الصقّارون شمال سوريا ينتظرون "سنجار" و"عاشوق" وغيرهما… وأموال أمراء الخليج

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 5 نوفمبر 202201:00 م

ينتظر أبو علي الحسن، في هذه الأشهر الثلاثة الممتدة من منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي، حتى أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، حتى ينطلق برفقة مجموعة من الصيادين إلى ريف الرقة، وصولاً إلى الحدود العراقية، في رحلة قد تقلب حياتهم رأساً على عقب.

رحلة البحث هذه عن "الطير الحرّ" (كل أنواع الصقور والشواهين/ الجوارح)، تُعدّ هوساً قديماً في حياة الخمسيني المتحدر من البوكمال المحاذية للحدود العراقية في محافظة دير الزور. وبالرغم مما يحيط بها من متاعب وسفر وتكاليف باهظة، إلا أنها حسب وصفه هي "صيدة العمر إن تمت".

أخذ الحسن المهنة كابراً عن كابر، من جدّه إلى أبيه، وأصبحت طقساً سنوياً يمارسها إلى جانب عمله في الزراعة، وبالرغم من الخسائر التي تكبّدها في آخر خمسة مواسم، وفشل الحصول على هذا الصيد الثمين، إلا أن الحلم ما يزال يراوده.

يروي الحسن لرصيف22، أن والده يُعدّ واحداً من أشهر صيادي الطير الحرّ في المنطقة، وأنه كان يرافقه في التنقل بين الجزيرة والبادية وصولاً إلى جبال القلمون، حيث نجح مرات عدة خلال رحلاته مع أصحابه في صيد الطير الحرّ، ما أدى إلى تحسّن وضع الأسرة المادي بشكل لافت، بعد بيعه لأحد الأمراء في الأنبار في العراق.

"لقد كانت أياماً مليئةً بالخير، وكانت السماء تجود علينا بأنواع مختلفة، وكانت هناك أعراف وقواعد للمهنة، وسماحة في التعامل، فمثلاً كان كل من يشترك في عملية الصيد يوزَّع عليه من ثمن الطير عند بيعه، أما اليوم فنادراً ما يوافقنا الحظ ونصطاد طيراً، والأندر أن يكون الطير من الأصناف النادرة غالية الثمن، والأندر من ذلك كله مَن يلتزم بأعراف الصيد والقنيص"، يقول الحسن.

تحتاج الرحلة إلى تحضيرات عديدة، من مركبة قادرة على السفر والتحمل، وأطعمة وأشربة وأغطية وخيام للاستقرار الطويل الممتد لأسابيع

رحلة العمر

تحتاج الرحلة إلى تحضيرات عديدة، من مركبة قادرة على السفر والتحمل، وأطعمة وأشربة وأغطية وخيام للاستقرار الطويل الممتد لأسابيع، وسلاح ناري لأي طارئ في هذه المناطق المقطوعة، وعدّة القنيص من طُعم وشبكة لاستدراج الطيور ومنظار لمراقبتها، والأهم من ذلك كله هو الصبر والمراقبة والرصد، فقد تمر أيام وليالٍ من دون صيد، كما يجب اكتساب الحرفية في الاصطياد كتعليق شبكة الصيد على ظهر الطُعم، والابتعاد عن الضجيج والحركة.

يصف الحسن الأيام التي كان يمضيها في البوادي، قائلاً: "نرصد الفريسة بشكل دقيق، ثم نطلق طُعماً حياً يفضّله الطير الحر، وهو حمامة أو قطاة، نربطها من أرجلها بخيط طويل ونثبت على ظهرها شبكةً من الأسلاك حتى تعلق مخالب الطير الحر فيها عند انقضاضه عليها، فإذا ما علق في الشبكة نشدّ خيط الطعم العالق به الطير الحر، وكم تكون الفرحة عارمةً إذا كان الطير من النوع النادر، لأن ثمنه باهظ".

أسعار خيالية

قبل قرابة الأسبوع، شهدت مناطق شمال شرق سوريا، وتحديداً ذيبان التابعة لريف دير الزور الشرقي، تسجيل أعلى سعر لبيع الطير الحر في تاريخها، وذلك عبر مزاد علني افتُتح من خلال اتصال بالفيديو، واشترى تاجر سعودي الطير بمبلغ تخطّى 66 مليون ليرة سورية، أي ما يفوق 13 ألف دولار، في حين سُجلت في العام الفائت عملية بيع طائر من نوع "شاهين فارسي"، بمبلغ 51 مليون ليرة سورية في ريف محافظة الحسكة الشرقي.

ويعيش في سوريا 11 نوعاً مختلفاً من الطيور الجارحة (الفصيلة الصقرية)، ومنها: "الصقر الحر، والشاهين، وسنجار، وحوران، والجير، والوكري، والعاسوق (صقر الجراد) أكثر الجوارح الصقرية انتشاراً وأغزرها عدداً، بالإضافة إلى 31 نوعاً من رتبة الجوارح (الفصيلة البازية)، أشهرها: "الحوّام، والمرزة العُقيب، والباشق، والعقاب البونلّي المخطط البطن بالأبيض، وعقاب الثعابين".

ومن المعروف أن جغرافيا البلاد تمتاز بتنوع نظمها البيئية ما بين الصحراوية الجافة والرطبة، ما ساهم في جعلها مستقرّاً للعديد من هذه الطيور، إلا أن هذه الجغرافيا اليوم بدأت تشهد ندرةً كبيرةً في هذه الأنواع، إذ بلغ عدد الطيور المقيمة والعابرة نحو 411 نوعاً، منها 185 متوالدةً، و27 مهددةً بالخطر.

أعراف غائبة

يعزو أبو حسين الطياوي (صياد طيور جارحة)، سبب ندرة هذه الطيور إلى عدم احترام قواعد مهنة الصيد، وكثرة الدخلاء عليها وخاصةً من الشبان حديثي التعلم الذين يستخدمون الرصاص في اصطيادها من جهة، ويعتدون على مبيت الصياد (هو حرم صيد خاص بكل صياد يُقدَّر بكيلومتر واحد)، طمعاً في الصيد من جهة أخرى، فضلاً عن تحول المهنة إلى نوع من التباهي والافتخار، وما يرافقها من استعراض ترف الحياة كالسلاح والسيارة وغيرهما.

تعود سبب ندرة الطيور الجارحة اليوم إلى عدم احترام قواعد مهنة الصيد، وكثرة الدخلاء عليها وخاصةً من الشبان حديثي التعلم الذين يستخدمون الرصاص في اصطيادها، فضلاً عن تحول المهنة إلى نوع من التباهي

يتحدر "الطياوي" (45 عاماً) من منبج شمال شرق حلب، ويتنقل في أرياف الجزيرة السورية عند حلول موسم الصيد الذي امتهنه منذ أن كان في الخامسة عشر من عمره. يروي لرصيف22، أن أول طير حرّ اصطاده كان برفقة أبناء عمومته في العام 2004، عند أطراف بلدة القحطانية في ريف القامشلي، وقد باعه في تلك الفترة لتاجر عراقي بمبلغ 900 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل تقريباً 20 ألف دولار، ومن وقتها تعلّق أكثر بمهنة القنيص كما يحب تسميتها، وأصبحت هوساً بالرغم من تكاليفها المرتفعة، في هذه الظروف المعيشية القاسية التي تمر بها البلاد عموماً.

وتقطع الطيور الجارحة الأراضي السورية سنوياً، ما بين شهري أيلول/ سبتمبر، وكانون الأول/ ديسمبر، وهي أشهر هجرة هذه الأنواع، إذ تقطع آلاف الكيلومترات من الشمال من تركيا وروسيا وشمال العراق وإيران، وتتجه نحو المناطق الدافئة جنوباً باتجاه سواحل البحر الأحمر والقارة الإفريقية، مروراً بالجزيرة السورية وباديتها، حيث تتنوع أحجامها وألوانها وطولها وأعمارها وشكل عيونها وأنفها وكفوفها وأجنحتها، وهذا ما يؤثر بشكل كبير في تحديد أسعارها.

وبحسب الطياوي، فإن للمقناص فترتين للصيد، صباحية قبل شروق الشمس، ومسائية وهي الأفضل، فالطير الحر لا ينام إلا بعد اقتناص عشائه، وهو ما يجعل الصيد أكثر فائدةً، مستدركاً: "لكن يجب الانتباه إلى عدم الإضرار بريش القنيصة خلال صيدها، لأن ذلك يؤثر في عملية بيعها وسعرها ومدى الإقبال عليها".

معقل التسويق والتهريب

تُعدّ الرحيبة في القلمون الشرقي في ريف دمشق، عاصمة الصقور، نسبةً إلى موقعها ضمن سلسلة جبال القلمون والبادية، وشغف أهلها بهذه المهنة، كما تُعدّ أرياف محافظة الرقة شبه الصحراوية وأطراف المعيزيلة (عروس بادية البوكمال)، كما تُسمى، موئلاً لهذه الأنواع. وقبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، كان يعمل في الرحيبة قرابة 170 صقّاراً، ما جعل منها سوقاً لهذه التجارة، ومعبراً لتهريب الطيور الجارحة إلى لبنان والأردن ثم دول الخليج، بعد استقبالها من شمال شرق سوريا وشمال غربها، عبر مهرّبين وسماسرة يتكفلون بشرائها ومرورها بسلامة عبر الحواجز الأمنية والنقاط العسكرية.

تُعدّ الرحيبة في القلمون الشرقي في ريف دمشق، عاصمة الصقور، نسبةً إلى موقعها ضمن سلسلة جبال القلمون والبادية

تواصل رصيف22، مع اثنين من السماسرة الذين يتاجرون بالطيور الجارحة، أحدهما في رأس العين شمال سوريا، والآخر في ريف دير الزور الشرقي، لكنهما رفضا الإدلاء بتعليق حول طبيعة عملهما، بسبب ما وصفاه بالمخاوف الأمنية، إلا أن الطياوي وهو المطّلع على آلية عمل السماسرة، وصف السماسرة بـ"أنصاف التجار" الذين يتبعون لرؤوس كبيرة متحكمة بأسواق الطير الحر، وهم في أكثر الأحيان يشترونها بأسعار أقل مما هي عليه في الحقيقة، وفي النهاية الصياد مضطر إلى بيعها، للاستفادة من سعرها، وفق تعبيره.

ويضيف: "لهؤلاء طرق في التهريب وإيصال الطيور عبر حواجز النظام وقوات قسد، بعد دفع الإتاوات عليها، إلى القلمون الشرقي، حيث البورصة التجارية، إذ يتعامل تجارها مع نظرائهم في لبنان والأردن وأغلبهم ممن لديهم علاقات عنكبوتية مع صيادين من جهة، وأمراء-زبائن من الخليج العربي من جهة أخرى، فضلاً عن علاقاتهم بضباط الجمارك أيضاً، الذين يساعدونهم في تهريب هذه الطيور عبر الحدود بطرق قانونية من خلال شهادات مزورة على أنها طيور داجنة، وطرق أخرى غير قانونية وهي الأغلب".

سمسرة إلكترونية

ينبّه الطياوي إلى أن العديد من الصفحات التي تهتم بالطيور الجارحة، باتت اليوم منتشرةً على مواقع التواصل الاجتماعي حيث تروّج لها، إذ سهّلت التعامل المباشر بين البائع والزبون من دون وسيط، وساهمت في إقصاء بسيط للسماسرة، لأنهم ما زالوا على علاقات واسعة بالزبائن ويتفقون معهم لتحديد سعر منخفض يناسب الزبون الذي يدفع لهم أيضاُ لقاء وساطتهم، لافتاً إلى أن هناك أرقاماً خياليةً تُدفع لكل عملية شراء، وبالرغم من ذلك فهي منخفضة مقارنةً بدول العراق والأردن والخليج العربي.

وتُعدّ سوريا من الدول الموقّعة على اتفاقية "سايتس-CITES" العالمية، عام 2002، التي تمنع تجارة الحيوانات والطيور البرية والنادرة المهددة بالخطر، ونقلها من بلد إلى آخر، ومنها الصقور، وتسمح فقط بالاستيراد ولغرض الإكثار، بشرط إعادة التصدير مرةً أخرى، وبشرط وجود موافقة من وزارة البيئة، ووجود شهادة من بلد المنشأ، وجواز سفر عليه صورة الطير.

وتشير إحصائيات رسمية صادرة في العام 2012، عن مديرية الصحة الحيوانية في وزارة الزراعة، إلى أن سوريا تصدّر 300 طير حرّ سنوياً، وبمعدل وسطي، إلى دول الخليج تحت بند إعادة التصدير، إلا أن تلك الأرقام لا تعبّر عن أرقام عمليات التهريب الواسعة بطرق قانونية وغير قانونية التي تجري عبر الحدود السورية، فوفقاً لتقرير صادر عن مراقبي سايتوس الدولية عام 2001، نُشر على الإنترنت، فإن كل 4 آلاف طير حرّ تذهب إلى السعودية، وألف طير إلى قطر، ومن 500 إلى 1000 تذهب إلى الكويت والإمارات، وكل هذه الطيور مصدرها دول عدة في مقدمتها سوريا.

أضرار بيئية محتملة

بجانب المردود المالي الوفير، يرتبط صيد الطيور الجارحة بمعاني الشموخ والأصالة والقوة والسيادة والتحمّل، خاصةً أنها قد تقطع مسطحات مائيةً ومساحات خضراء واسعةً، متحملةً الجوع، كما بإمكانها اقتناص فرائسها في الليل إذ ترى أضعافاً مضاعفةً منها وتتجه نحو الفريسة بسهولة، إلا أنه يبدو واضحاً أن تزايد عمليات الصيد الجائر للجوارح وخاصةً الشواهين، من دون ضوابط، باتت تؤثر على أعدادها في بيئتها، وزادت احتمال انقراضها، في ظل ظروف الحرب والفلتان الأمني التي تعيشها المجتمعات السورية في مناطق النفوذ المختلفة.

أول طير حرّ اصطدته كان برفقة أبناء عمومتي في العام 2004، عند أطراف بلدة القحطانية في ريف القامشلي، وبعته لتاجر عراقي بمبلغ 900 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل تقريباً 20 ألف دولار، ومن وقتها تعلّقت بمهنة القنيص

في حديث رصيف22، مع الخبير البيئي جميل الخضر، يلفت إلى أن هناك إقبالاً كبيراً على اصطياد الطير الحر من طبقات مختلفة في المجتمع، وخاصةً فئة الشباب، بسبب ما يعانونه من بطالة وفقر مدقع، ووجود شبكات منظمة عابرة للحدود، لتسويقه وبيعه بشكل أسهل وبمبالغ طائلة تدفع الفقر والفاقة، مضيفاً أن هناك بعض الطبقات الغنية تخرج في رحلات الصيد هذه بقصد الهواية والسياحة والاستجمام، ولا يهمها كثيراً إذا حصلت على ذلك الصيد أم لا.

يحذر الخضر من عمليات القنص والصيد العشوائي، التي ساهمت بشكل كبير في تغيير مسار هجرة الطيور الموسمية بحيث أصبحت تتجنب المرور عبر أجزاء واسعة من الأراضي السورية، واصفاً العشوائية في الصيد بـ"الخطر القديم الحديث"، إذ يحتاج ضبطه إلى جهود دولية على طول المسار الذي يسلكه الطير، ذهاباً وإياباً، كما يحتاج إلى وجود اتفاقيات دولية تضع قوانين صارمةً تضمن عمليات الصيد المنظمة، بالإضافة إلى ضرورة نشر الوعي الثقافي والعلمي بأهمية هذه الثروة من الناحية البيئية ودورها الكبير في التوازن البيئي، فأي خلل في أعدادها يؤدي إلى ازدياد الفئران الحقلية والجرذان، التي تضرّ بالمزروعات، وفق حديثه.

واعترفت منظمة اليونسكو في العام 2016 بـ"الصقارة"، كتراث ثقافي غير مادي تجب حمايته وفق شروط نظمها الاتحاد الدولي للصِقارة، منها:

- أن يقوم الصقّار بتربية الصقور المفرّخة في الأسر أو التي يتم صيدها من الطبيعة، بحسب قوانين كل بلد.

- الالتزام بالصيد فقط في موسم "الهجرة" الذي يوافق الخريف في حال الرغبة في الصيد بشرط إطلاق الصقر مرةً أخرى في البرية بعد تدريبه واستخدامه في الصيد في موسم الربيع.

وبناءً على ذلك، فإنه لا يحق لأي صقّار الاحتفاظ بصقر تم اصطياده من البرية أكثر من أشهر معدودة في كل عام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image