"ليست الوطنية بالكلام والادعاءات والأقوال. الوطنية مرتبطة بالحقوق العامة. وطالما لا توجد حقوق ورخاء، فإن كلامكم عن وطنيتكم وعبادتكم لـ الله مجرد هُراء، وغطاء للجهل والظلمة والجشع للثروة والسلطة"؛ هكذا وصف العملاق الراحل الإيراني إبراهيم كٌلستان، الوطنية.
بعد قرن من حياة مليئة بالعطاء في مجالَي الأدب والفن الإيرانيين، رحل إبراهيم كٌلستان في 23 آب/ أغسطس الحالي عن عالمنا، وترك وراءه إرثاً كبيراً من الأعمال الفنية المميزة، وأبرزها رواية "الديك" وفيلم "النار" الحائز على جائزة مهرجان البندقية للأفلام القصيرة في عام 1961، وهي أول جائزة يحصل عليها مخرج إيراني من المهرجانات الدولية.
من شيراز إلى عبادان
وُلد كٌلستان في 19 تشرين الأول/ أكتوبر 1922، في مدينة شيراز جنوب إيران، في عائلة تقوي شيزاري المعروفة، وهو نجل سيد محمد تقي تقوي شيرازي (كٌلستان)، مؤسس "جريدة كٌلستان" وأحد نواب محافظة فارس في "مجلس المؤسسون"، الذي أسقط حكم "القاجار" ونقل الحكومة إلى "البهلويين".
كسر القواعد في معايير الكتابة وقوانينها، التي تحداها في ترجمته وتأليفه، وواصل حتى أبدع في أسلوبه الخاص النثري اللحني، الذي تأثر به الأدب والأدباء الإيرانيون/ات، وأحدث طفرةً نوعيةً في الأدب الفارسي
كبر إبراهيم وترعرع ودرس في مدينة شيراز، وانتقل إلى طهران عام 1941 لدراسة الحقوق في جامعتها، وتزوج بعد سنتين من بنت عمه فخري كٌلستان. وفي 1944، ترك الدراسة في الجامعة، ليصبح عضواً في "حزب توده"، المعارض للنظام في ذلك العهد، ومنذ بداية عضويته عمل مصوراً في صحفيتي "القائد" و"الناس" التابعتين للحزب، وبعد فترة وجيزة أصبح رئيس دفتر الحزب في مدينة قائم شمال إيران.
بعد ثلاث سنوات انفصل عن الحزب، ليس لاختلافات أيديولوجية، بل كان يعتقد أن هناك علاقات وأنشطةً وطموحات ليست صحيحةً للأعضاء، وفي العام نفسه نشر كتاب "المسروقون"، أول كتاب له، وهو عبارة عن مجموعة قصص قصيرة.
من هنا سطع نجمه، حيث انتقل إلى مدينة آبادان جنوب غرب إيران، للعمل في دار نشر شركة النفط الإيرانية البريطانية (قبل نهضة رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق لتأميم النفط)، إذ بدأ عمله كمترجم للشاعر الويلزي ديلان توماس، الذي أوتي به لتأليف إعلانات للشركة، وتطور حتى عُيّن بعد فترة مديراً لدار النشر نفسها، وبعد ذلك أصبح رئيس العلاقات العامة والشؤون الدعائية لمكتب اتحاد النفط الإيراني الدولي، ما أدى إلى إنتاجه الأفلام المصورة وتصميم الكتيبات الترويجية للشركة.
كٌلستان الكاتب والمترجم العملاق
في أثناء تواجده في دار نشر شركة النفط، لم يكتب سوى كتاب واحد من مجموعة القصص القصيرة، وهو كتاب "ديسمبر، الشهر الأخير من الخريف"، كما ترجم روايتَي "حياة فرانسيس ماكوبر القصيرة السعيدة" لإرنست همنغواي و"مغامرات هكلبيري فين" لمارك توين.
يمكن القول عن هذه الأعمال إنها ليست سوى انطلاقة لظهور عملاق في التأليف والترجمة، سيكون أسلوبه كسر القواعد في معايير الكتابة وقوانينها، التي تحداها في ترجماته وتأليفاته، وواصل حتى أبدع في أسلوبه في النثر الفارسي، الذي تأثر به الأدب والأدباء الإيرانيون، وأحدث طفرةً نوعيةً في الأدب الفارسي.
من بين هذه الأعمال القيمة التي ألّفها يمكن ذكر "صيد الظلال" و"الموضة والضباب" و"الديك" و"الأقوال" وتأليفات كثيرة أخرى، كما له تاريخ ثري في عالم الترجمة إذ قام بترجمة كتب وروايات عالمية شهيرة، هي "ماركس وملخص للماركسية" لفلاديمر لينين، و"الموت" لماكسويل بودينهيم"، و"رسائل مختارة من فلوبير" لغوستافو فلوبير، وغيرها من الأعمال. كما له العديد من المقالات التي يتحدث فيها عن الثقافة والسياسة والأدب والفن.
إستديو كٌلستان للإنتاج السينمائي
أنهى عمله مع شركة النفط في سنة 1957، بعدما أسس إستديو خاصاً تحت عنوان "إستديو كٌلستان"، وقد أنتج أفلاماً وثائقيةً بالتعاون مع شركة النفط، وفيلمين "النار" و"الموج والمرجان والشوك"، وجلبت هذه الخطوة له العديد من الانتقادات من قبل المثقفين والمفكرين في تلك الفترة، وأطلقوا عليه لقب "كٌلستان النفطي".
لفترة 8 سنوات، ظل ينتج الأفلام القصيرة والوثائقية، حتى أخرج في عام 1965 أول فيلم طويل له هو "الطوب والمرآة"، الذي كان من إنتاجه وكتابته، حيث أحدث تطوراً كبيراً في السينما الإيرانية، وبات الكثير من المخرجين يقلدون أسلوبه في صنع الأفلام.
وفي سنة 1971، أخرج فيلم "أسرار كنز وادي الجن"، الذي تم صنعه بناءً على إحدى رواياته التي تحمل العنوان نفسه. ينتقد كلستان في هذا الفيلم التطوير الاستبدادي وعمليات التحديث السطحية لملك إيران في تلك الفترة (محمد رضا شاه البهلوي). ظل هذا الفيلم يُعرض في دور السينما، حتى سحبه رئيس الوزراء أنذاك، أمير عباس هويدا، إلى الأبد من الشاشات.
وفي أثناء عمله في إنتاج الأفلام القصيرة، وتحديداً في عام 1962، أنتج فيلماً قصيراً مدته 20 دقيقةً تحت عنوان "هذا البيت أسود" (the house is black)، من إخراج وتأليف الشاعرة الإيرانية "فروغ فرّخ زاد"، وربما هذه الدقائق العشرون كانت كفيلةً ببداية قصة حب بينه وبينها.
فروغ وإبراهيم
في أوائل ستينيات القرن العشرين، وقع فروغ وإبراهيم في حب بعضهما البعض، وعاشا قصة هيام عنيفة، وذلك برغم اختلاف سنّيهما، ففروغ كانت امرأةً مطلقةً وفي الرابعة والعشرين من عمرها، وإبراهيم كان يكبرها بثلاثة عشر عاماً، ولديه طفلان من زوجته، هما "ليلي" و"كاوه".
وبرغم أن علاقتهما لم تكن سرّيةً، وكان الجميع يعلم بالأمر، لكن لم تصل هذه العلاقة إلى أي مكان، فإبراهيم طلب يد فروغ للزواج مرات عديدة، وواجه الرفض من قبلها، وذات مرة قررا الزواج جدّياً، فحجز وانتظرها في مكتب الزواج لعقد قرانهما، لكن لم تحضر فروغ في اللحظة الأخيرة، لأنها كانت تحب زوجته كثيراً ولم ترد ظلمها بهذا الزواج.
تقول بوران فرّخ زاد، الأخت الأكبر لفروغ عن هذا الموضوع، إن حبهما بدأ منذ أن كانت فُروغ تعمل في مجال السينما، حيث تعرفت إليه وأعجبت به وبأسلوبه كثيراً، وتطورت هذه العلاقة حتى باتت تغيب فروغ عن البيت كثيراً وتقضي معظم وقتها معه، وعندما بنى إبراهيم بيتاً لفروغ بجانب شركته الإنتاجية، تيقنت أن هذه العلاقات دخلت مراحل حساسةً وجديدةً.
وعن أحوال فروغ تضيف أنها عاشت أياماً مرةً بحبها لكلستان، وأن أختها كانت تعاني، وتروي: "ذهبت يوماً لأزور فروغ، فوجدتها تذرف الدموع وبيدها أوراق. كانت تلك الأوراق رسائل إبراهيم لزوجته، حيث أكد لها أن فروغ ليست مهمةً في حياته وهي فقط للتسلية".
تقول السيدة بوران إن أختها قررت أن تقطع علاقتها مع كٌلستان، لكنها لم تفعل ذلك وبقيت معه وتدهورت حالتها أكثر، حتى جاءها الخبر بأن فروغ أقدمت على الانتحار ونُقلت إلى المستشفى. عند لقائها بأختها سألتها عن السبب ولم تردّ عليها فأجابتها خادمة فروغ: "جاء كٌلستان إلى المنزل، وكانا يتجادلان مع بعضهما البعض، وبعد خروجه تناولت فروغ الحبوب".
لا يمكن الحزم في ما إذا كان السبب الرئيسي في تغيّره، هو موت حبيبته فروخ فرّخ زاد، لكنه لم يكتب أو يترجم كتاباً لأكثر من 10 سنوات بعد رحيلها، وهذا يدل على حزنه لمفارقة من أحبّها بصدق
لم تنجح علاقتهما حتى توفيت فروغ إثر حادث سير وهي في ريعان شبابها في الثانية والثلاثين من عمرها عام 1967، ويقول ابن كٌلستان، حول حالة أبيه النفسية بعد رحيلها: "على الرغم من أن والدي كان لديه العديد من الإنتاجات القيمة بعد وفاة فروغ، إلا أنني لم أرَه كشخص حي... فهو توفي مع فروغ".
توفي بعد وفاة فروغ
صحيح أن كلستان كانت له إنتاجات كثيرة من الأفلام بعد وفاة فروغ، بيد أنه لم يعد ذلك الإنسان الذي كان، وظل يعمل فقط دون إحساس. لا يمكن الحزم في ما إذا كان السبب الرئيسي في تغيّره، هو موت حبيبته، لكنه لم يكتب أو يترجم كتاباً لأكثر من 10 سنوات بعد رحيلها، وهذا يدل على حزنه لمفارقة من أحبّها بصدق.
وحتى صنعه للأفلام توقف في عام 1971، فآخر فيلم له هو "أسرار كنز وادي الجن"، وابتعد عن عالم الأفلام حتى خرج من إيران سنة 1979، بعد الثورة الإسلامية، وتوفي في 23 آب/أغسطس الحالي، في بيته في مقاطعة ساسك جنوب شرق إنكلترا، كما سيُدفن في جنازة عائلية حسب وصيته.
وطوال فترة مكوثه خارج بلده، لم ينتج أي فيلم أو عمل فني على الإطلاق، وذلك على الرغم من أنه كان بمثابة أعجوبة في هذا المجال. تكاسله أو عدم رغبته في العمل جلبا له الكثير من الانتقادات من الوسط الفني بالأخص السينمائي، لكن دون أن يكترث لهذه الانتقادات عاش حياته في الغربة بعيداً عن الأفلام.
قد يكون دليل هذا الابتعاد هو موت فروغ، أو من الممكن أن تكون وطنيته، التي تمنعه من إنتاج عمل خارج بلاده، لكن ما هو أكيد أن السينما الإيرانية خسرت عبقرياً رفع من مستواها كثيراً، والشاهد على ذلك أن أفلامه القليلة التي أخرجها وكتب روايتها وأنتجها، أحدثت نقلةً وكان لها تأثير على السينمائيين/ات في إيران، فهو لم يمت الآن بالنسبة للوسط السينمائي في إيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 19 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...