ينتمي إلياس إلى الجيل الثالث لعائلة الخليفي المتحدرة من "تاغزوت" في إقليم الحسيمة المغربي. كان أجدادُه كما أبناء منطقة صنهاجة الصراير في منطقة الريف يعملون في دباغة الجلد وتحويله إلى منتوجات تقليدية كـ"البَزْطامْ" (حقيبة) و"الصَّنْدَالَة" (حذاء)، لكن في السبعينيّات من القرن الماضي قرَّر والد إلياس الهجرة إلى مدينة فاس، وتطوير حرفته من خلال الانفتاح على باقي الحرفيين، وصناعة الحقائب وغيرها من المنتوجات الجلديّة.
"حرفة بوك، لا يْغَلْبُوك"
يستشهد إلياس حول إتقانه لصنعة الجلد، التي تعود إلى تقاليد تمتدّ مئات السنين، بمقولة "ابن الحرفيّ يملك نصف الحرفة دون أن يتعلّم".
لكن هذا لا يكفي، فقد تمكّن الشابّ من صقل مهاراته في المجال بعد نهاية الدوام المدرسيّ وفي العطل الصيفية.
لم يختر الخليفي حرفة صناعة الجلد، بل هي التي اختارته حسب تعبيره، فبعد حصوله على الإجازة (البكالوريوس)، لم تُمكّنه شهادته الجامعية كمعظم الشباب المغربي من الحصول على عمل، فلم يجد أمامه سوى حرفة أجداده التي تربى في كنفها منذ صغره، وأصبح متمكناً من صناعة منتوجات جلدية وموديلات معينة، كأنه يحقّق مثلاً مغربياً آخر يقول: "حرفة بوك، لا يغلبوك"، أي من اتبع مهنة أبيه لا يغلبه أحد.
يؤكد الشابّ الثلاثينيّ أن الطلب ارتفع على منتوجات الصناعة التقليدية المغربية، منذ سنة 2010 إلى حدود الساعة. فالزبون يبحث حالياً عن الجودة، جودة المادة الأوّلية وجودة الصانع التقليدي، إذا لا يمكن أن نقارن بين حقيبة يدويّة ذات صنع صيني وبثمن زهيد، وبين حقيبة مغربية الصّنع، فالزبون في نهاية المطاف وإن اشترى الاثنتين سيفضل الأخيرة على الأولى من حيث الإتقان والجودة.
يوضح صانع الجلد المغربي، أنه لا يمكن الاستغناء عن المعلمين والحرفيين الكبار في الصناعة الجلدية، ثم يكمل "لكن يلزمنا نحن الشباب أيضا مسايرة العصر والحداثة. نوظف حالياً آلات وتقنيات جديدة في صناعة الحقائب والأحذية. ونستعمل مواد وصبغات مستوردة لإرضاء الزبون والحصول على منتوج بجودة عالية وفي وقت وجيز".
يؤكد الشابّ الثلاثينيّ أن الطلب ارتفع على منتوجات الصناعة التقليدية المغربية، منذ سنة 2010 إلى حدود الساعة. فالزبون يبحث حالياً عن الجودة
يضيف الشّاب أن المهن التقليدية تحتاج إلى تحديث قائلاً "نحرص على بعض الإضافات. مثلاً لا يمكننا صناعة حقيبة يدوية دون وضع جيب خاص للهاتف أو للأغراض الشخصية والتجميليّة للسيّدات، ولا يمكننا أن نغفل مكان وضع الحاسوب المحمول بالنسبة لحقيبة الظهر. هذه الأمور تبدو تفاصيل بديهية لكنها مهمّة، فمنتوجات الصناعية التقليدية يلزمها مسايرة التطور الذي يعرفه العالم والمجتمع المغربي، وبهذا لن تموت الصناعة التقليدية المغربية وستبقى حيّة للأبد".
الإنترنت تسهم في تجديد الحِرف
ظهرت في الآونة الأخيرة تجارب كثيرة لشابّات وشبّان مغاربة اختاروا المهن التقليديّة والتعريف بالحِرف المغربية على وسائل التواصل الاجتماعي. وهم شباب يعملون على إنتاج مصوغات ومنسوجات وغيرها من أمور تُعرف بها الصناعة التقليدية.
يسوّق البعض منهم هذه المنتوجات على حسابات في إنستغرام وفيسبوك، فيما يرى البعض من هؤلاء الشباب أن الشبكات الاجتماعية، هي مجرّد بوابة للتعريف بمنتوجهم بشكل واسع وتفيدهم في عقد شراكات مع شركات أجنبية، ومؤسسات مانحة غربية تدعم التجارب الشابة في المقاولة. وهذه العيّنة هي من شباب درسوا التسويق والتجارة ويتقنون لغات عدة.
لكن هذه التجارب الإيجابية ليس ما ينتشر في الإنترنت فقط، فهناك آخرون يحاولون جني المال معتمدين على جهل الزبائن بالغث من السمين في المنتج الحِرفيّ، وقد يسيئون من حيث لا يدرون بالمنتج التقليدي المغربي الذي تحتاج صَنْعته إلى احترام معايير معيّنة.
يرى الخليفي أن "وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت كثيراً في الرفع من إنتاجية منتوجات الصناعة التقليدية، رغم انخفاض جودة بعضها، بسبب الدخلاء على الحرفة. لكن كان لها الفضل الكبير أيضاً على الصانع المغربي التقليدي".
ظهرت في الآونة الأخيرة تجارب كثيرة لشابّات وشبّان مغاربة اختاروا المهن التقليديّة والتعريف بالحِرف المغربية على وسائل التواصل الاجتماعي
ينتقد الصانع بالمقابل معارض الصناعة التقليدية التي تنظم عبر المدن المغربية، ويعتبرها "تْخَرْبيقْ" أي مضيعة للوقت وتبذيراً للمال العام، حيث يرى أنه من الأجدر على الجهات المسؤولة، أن تُحدِّث طرق تسويق المنتج التقليدي للحفاظ عليه من الزّوال عبر "خلق منصة رقمية، ونشر منتوجات الصناعة التقليدية المغربية مع التعريف بصناعها التقليديين، ودعم المنصة من خلال الإعلانات والترويج لها على وسائط التواصل الاجتماعي، وأن يعمل فيها تقنيون ومتخصصون في مجال التسويق الرقمي"، وهذا حسب إلياس لن يكلف الأموال التي تبذر في معرض واحد فقط، لا يقبل عليه الزوّار بكثرة.
وبنبرة تذمر يتابع الصانع التقليدي الشاب ذات قوله "تبذير كل هذه الأموال، والتمييز في استدعاء الصناع التقليديين إلى المعارض سواء داخل المغرب أو في الخارج، والتي يستثنى منها الحرفيون المتميزون وذوو الخبرة الطويلة، كلها عوامل تساهم في نفور الشباب من إرث الأجداد، واندثار هذه الحرف التقليدية".
سفراء المعمار المغربي في الخليج
تعرف منتوجات الصناعة التقليدية المغربية إقبالاً متزايداً في بلدان الخليج، خصوصاً فن العمارة والديكور، ومن أجل توسيع آفاق هذه الصناعة، اختار بعض الحرفيين الشباب الاستقرار في المنطقة وتأسيس مقاولات تقدّم المنتجات إلى الزبائن المحليين.
من بين هؤلاء الشباب نجد ابن مدينة الدر البيضاء خالد أنور الذي استقر في أبو ظبي الإماراتية لما يزيد عن 17 سنة، بعد احترافه لفن العمارة والديكور المغربي عن طريق الصدفة.
يخبرنا أنور "تلقيت تكويناً في المجال السمعي البصري، كان لمهنة أبي الهندسة المعمارية وإلمامي الكبير بالحاسوب في تلك الفترة، فضل في ولوجي عالم الديكور".
يضيف أنور "ذات يوم حلّ الحرفي المغربي الحسين لمان ضيفاً على منزلنا. ساعدته وأبي في تنفيذ مشروع حرفيّ في إسبانيا، وظلت علاقتي بقيدوم الحرفيين في المغرب الذي كان ضمن المبدعين في تصميم زينة الجبس في مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء ومجموعة من القصور الملكية، إلى أن اتصل بي لتنفيذ مشروع آخر في الإمارات".
يتابع المقاول المغربي "كانت تلك المحطة وربما الصدفة هي سبب احترافي لهذا المجال، واستقراري في دولة الإمارات، كما عملت على تطوير قدراتي في مجال الديكور والجبس المغربي، وأسست مقاولة تقدم خدمات الصناعة الحرفية المغربية".
بخصوص الإقبال الذي تعرفه منتوجات الصناعة التقليدية المغربية في دول الخليج، يؤكد أنور أن مختلف قصور المنطقة تحمل طابعاً تقليدياً مغربياً في معمارها، "بسبب العلاقة الأخوية التي تجمع البلدين، فضلاً عن الإعجاب الذي تحظى به الصناعة في المنطقة، لعكسها للهوية المغربية المتميزة والعريقة".
ويضيف المتحدث أنه في عشر سنوات الأخيرة تراجع الطلب على هذه الصناعة، بسبب الديكور والمعمار العصريّ، إلا أنه وفق قوله يحاول دائماً إدراج المنتوج المغربي كاقتراح وإن كان طلب الزبون عصرياً، "للمساهمة في تسويق جزء من ثقافتنا المغربية، رغم المنافسة الشرسة في المجال".
وبخصوص اللّمسة الإبداعية للشباب في تطوير الحرف التقليديّة، يؤكد أنور أنه كان من المحظوظين باستخدام التكنولوجيا في الديكور والمعمار المغربي، وهو ما ساعده في تطوير هذا المجال لكن مع المحافظة دائماً على الطابع المغربي التقليدي.
ويعتمد في المقاولة التي يديرها على الحرفيين المغاربة، ويخلص إلى أن الزبون يفضل دائماً الحرفي المغربي على غيره في تنفيذ تصاميم الديكور المتعلّق بالمهن التقليديّة المغربية لما يتمتّع به من حرفية وإتقان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...