تقوم رواية "سبع رسائل لأم كلثوم"، للكاتب علاء حليحل، الصادرة عن دار الأهليّة للنشر والتوزيع في عمّان، على فكرة بسيطة ورشيقة، لكنها عميقة الرؤيا وموغلة في تأملاتها وتداخلاتها. فقد استلهم الكاتب مادته الروائية من سيرة الواقع الاجتماعي، الجندري والسياسي الريفي في جليل فلسطين في ثمانينيات القرن المنصرم، وضخّ في روايته رؤى وتأملات ورحلات في الوعي واللا وعي الإنسانيين والذات والهوية والتاريخ الجمعي، فعمل على توظيف كل ذلك من خلال شخصياته، مع ما تخللها من حيل سردية وأبعاد إنسانية ممتدة، ووضع القارئ أمام سياق إنساني مركّب، يتاخم المكان ويكاشف الزمان.
ولعل المركّب السيكو-اجتماعي ارتقى بالرواية إلى مدراج جديد وعميق من فن الرواية الحديثة؛ فالرواية تحاور الماضي بهموم الحاضر والمستقبل، وتتناول الإنسان وقضاياه الوجودية الكبرى في كل الأزمان، وبحثه الدائم عن الخلاص.
تطرق علاء حليحل، من خلال الرواية، إلى العديد من المواضيع والقضايا الإنسانية، وتناول الحياة في تركيباتها البسيطة تارةً والعميقة تارةً أخرى، مما أكسب روايته بعداً إنسانياً استطاع من خلاله أن يوظف أحداث التاريخ الفلسطيني الجمعي بحمولاته الكثيرة ودلالاته العميقة، ليشكل حبكةً روائيةً متقنة البناء وغير مفتعلة، ومن دون الوقوع في فخ المباشرة السياسية. بالإضافة إلى ذلك، تطرح الرواية سؤال الهوية والانتماء لدى فلسطينيي الـ1948، فالقارئ عندما ينتهي من قراءة الرواية، يتشكل لديه موقف خاص به بخصوص ما تعرضت له كل تلك الشخصيات من أحداث وإرباك، وألم وتخبط، وانكسارات وتحرر.
استلهم علاء حليحل مادته الروائية من سيرة الواقع الاجتماعي، الجندري والسياسي الريفي في جليل فلسطين في ثمانينيات القرن المنصرم، وضخّ في روايته رؤى وتأملات ورحلات في الوعي واللا وعي الإنسانيين والذات والهوية والتاريخ الجمعي
خطوة إلى الأمام... خطوتان إلى الوراء "سكوبي دو"
تبدأ أحداث الرواية مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى، وتتناول قصّة عائلة جليلية، تتكون من هاجر المعلمة التي تترك وظيفتها في سلك التعليم لتعتني بطفليها يزن ونور، هي العاشقة للست أم كلثوم، أو كما تسمّيها في دفتر مذكراتها "سومة"، ذلك الدفتر الذي تسكب فيه جميع مشاعرها وتفاعلاتها مع واقعها من سياسة وعشق، وذكريات، وألم وفرح، ألم تركه الحبيب حين غادر تاركاً إياها تعاني لوعة الفراق وسخرية القدر وشفقة أهل القرية. تعكس شخصية هاجر واقع المرأة الفلسطينية القروية في حقبة الثمانينيات. هذا الواقع المتأرجح بين الرغبة والتوقع، بين الشغف والإحباط بين الرغبة على التمرد والثورة بكأس ماء، كالتماهي مع كلمات الست أو التعبير عن عاصفة من الأفكار على صفحات دفتر مذكراتها. وقد تكون هاجر تحسب خطواتها كراقصة تانغو، فتخطو خطوةً إلى الأمام تارةً، وتارةً أخرى تخطو خطوتين إلى الوراء، واضعةً أمومتها في مركز حياتها. تلك الأمومة التي أصبحت ركيزتها الأساسية في الحياة، والتي تكرّس الفكرة السائدة في الماضي والحاضر بأن دور المرأة الأول والأخير هو الأمومة ورعاية الأبناء.
فنقطة الانطلاق المؤسساتية الاجتماعية في فلسطين، تفترض أن المرأة تريد أن تنجب أطفالاً وأن إنجاب الأطفال هو عمل رائد ووطني وتالياً بطولي. لهذا نلاحظ اعتناق المرأة "التقدمية" الأمومة كرافعة عامة. وهو في نهاية المطاف الدور الذي قامت به هاجر لتحرير نفسها من أنوثتها المضطربة، أمام نفسها وأمام المجتمع ومصطفى. تبدأ أحداث الرواية بالتصاعد والارتباك مع عودة حبيب هاجر السّابق الذي غادر قريتهم للدراسة في ألمانيا، ليستقرّ هناك متخلياً عن حبه لها. تُشكّل هذه العودة نقطة توتر وارتباك كبيرين في عالم هاجر والعائلة. فنراها تعود إلى الماضي بحلوه ومرّه، ثم تعيد ترتيب ذاتها من جديد أمام نفسها وأمام مصطفى ابن عمها.
تطرح الرواية سؤال الهوية والانتماء لدى فلسطينيي الـ1948، فالقارئ عندما ينتهي من قراءة الرواية، يتشكل لديه موقف خاص به بخصوص ما تعرضت له كل تلك الشخصيات من أحداث وإرباك، وألم وتخبط، وانكسارات وتحرر
شيزوفرينية وجودية
ابن العم والزوج مصطفى، يعكس شخصية الرجل الفلسطيني المسالم الذي تربى للعيش بسلام، فهو لا يتدخّل في السياسة. مصطفى ذو الشخصية المتأرجحة بين السلم والتمرد، يمثّل أزمة الرجل الفلسطيني من الجيل الثاني للنكبة، ذلك الجيل المأزوم الذي تربى على الخوف والذي انطبعت في ذاكرته مشاهد الدمار والكارثة التي حلّت بالأهل من فقدان الأرض والذات. فهو يعيش الرغبة في التمرد واستعادة الذات. هو مسالم ولا يحب التدخل في السياسة لكنه يتابع بشغف أحداث اندلاع الانتفاضة، ويرصد التحولات التي تدور بنفسه وبأهل القرية. مصطفى يمثل حالةً من الشيزوفرينية الوجودية؛ الحرية والعدالة أمام الخوف والجبن، والتمرد أمام الانصياع، والحب أمام الكره، والمسالمة أمام العنف. هذه الشيزوفرينية لا تقتصر على الجانب السياسي في حياته، بل تمتد إلى الجوانب الاجتماعية، فهو من قام بالتغاضي عن الأحاديث والشائعات التي دارت حول هاجر ليتزوج بها، ويضع حدّاً للأقاويل التي نهشتها. وهو من قام باقتناء أجمل هدية يمكن أن يحصل عليها كل محبّ للست في سنوات الثمانينيات، برغم قناعته بأن الست ما زالت الرابط بين هاجر وماضيها. ثم قام بتدميرها. ازدواجية في المعايير بين ما يفكر فيه وما يطبّقه، بين آراءه تجاه موقف وآخر، وبين ما يظهره وما يبطنه.
ما حاجة هاجر، المرأة الجليلية، إلى الكتابة لأم كلثوم؟ ولماذا تحولت "سومة" إلى وعاء نفسيّ تفرغ فيه حزنها وألمها وإحباطها وحبها؟ هل هي كلمات الست التي "تعطيك دائما الشعور بأنها تغنّي لك، لك وحدك"؟
قابيل وهابيل... الأخوان العدوّان
تتناول الرواية موضوع "الوالدية"، لتشكل علاقة هاجر ومصطفى مع ابنيهما نور ويزن، حالةً من التحالفات العائلية حيث لكل من الأبناء مكانته الخاصة في قلب هاجر ومصطفى وعيونهما. تعكس هذه التحالفات حالةً من الإسقاطات العاطفية وخيبات الأمل والرغبة في تصحيح الماضي، كما تعكس ارتباكات العلاقات الزوجية وإسقاطاتها على الأبناء. فالمواقف الانفعالية بين هاجر ومصطفى، التي يصفها حليحل في روايته، كانت لها إسقاطاتها على العلاقات بين الأخوين. الغيرة والشعور بالذنب، أو الثيمة العالمية والاجتماعية التي تشمل العديد من المشاعر التي تتراوح بين الشعور بالخوف والتهديد، تشكل عنصراً مركزياً في الرواية. فالسلوك الأناني والعدواني، هو أحد نتائج الغيرة الأخوية والتي تم تناولها على مدار الأجيال ومنذ الحادثة الأولى في تاريخ البشرية، التي انتهت بمقتل هابيل على يد أخيه قابيل. هذا الانفعال المعقد لم يقتصر في الرواية على الأبناء، بل امتد إلى الزوجين مع ظهور الحبيب السابق الذي عاد ليحضر جنازة والده بعد سنوات من الغربة. وهو ميكانيزم صريح يعمل على حفظ حب الذات في ظل واقع متغير وغير آمن. فالغيرة لا تحدث بين شخصين، بل هي غالباً بين ثلاثة أشخاص، أو شخصين وثالث، وتكون تجاه هذا الطرف الثالث، فهو المنافس الذي حظي بالحب.
أم كلثوم والرسائل السبع
ومما لا شك فيه أن رسائل هاجر السبع إلى الست، كانت توظيفاً رائعاً قام به حليحل. فالرقم سبعة يمثل الكثير في عالم الروحانيات؛ فهو الحدس، والتصوف، والتنوير الروحي، والحكمة الداخلية والقوة، والقدرات النفسية، والاستبطان، والفردية، والمظهر، والبحث عن المعرفة والكمال. وأم كلثوم تجسد كل هذا، فهي الأسطورة الصعبة التكرار أو التقليد، وهرم في عالم الغناء العالمي يواصل الارتفاع والارتقاء من جيل إلى آخر، وهو صامد أمام العولمة وموسيقى التكنو. إذاً ما حاجة هاجر، المرأة الجليلية، إلى الكتابة لأم كلثوم؟ ولماذا تحولت "سومة" إلى وعاء نفسيّ تفرغ فيه حزنها وألمها وإحباطها وحبها؟ هل هي كلمات الست التي "تعطيك دائما الشعور بأنها تغنّي لك، لك وحدك"؟ أم أنها الأسطورة التي تربعت على عرشٍ لا جنس له ولا نوع ولا لون؟ أو لعله العزاء بأن الأسطورة هذه في نهاية المطاف امرأة عربية تألمت وأحبت وغضبت وتمردت؟ كل هذا أبقاه علاء مفتوحاً كنهاية الأخوين؛ كلّ وخياله، وكلّ وحقيبته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع