"فجأة رد لي الموت ما أخذه مني. وقفت عربته أمام/ بيتي، وأنزلت كل شيء: أحبتي الذين اختطفهم مني،/ أصدقاء طفولتي، والأمل بتنورته القصيرة/ لم يعد لدي ما أبكيه، أستطيع الآن أن أضع نعلي تحت/ رأسي كي آخذ غفوة طويلة"...
بهذه الكلمات خطّ الكاتب والشاعر والباحث والإعلامي الفلسطيني زكريا محمد وصيّته وتنبّأ برحيله مبكّراً في ديوانه الشعري المعنون "زراوند" الصادر عام 2020 عن دار "الناشر" في رام الله.
مطلع عام 2022، نشر زكريا نبوءة ثانية عن موته عبر حسابه في فيسبوك. كتب: "منحني الله وقتاً مستقطعاً. كان يريد أن يقبضني، غير أنه قرر أن يمنحني سنوات قليلة أخرى أدبّر فيها أمري. وأنا كنت ممتناً له. فقد كنت راغباً في أن أضرب بسهمي بين الأسهم. وقد ضربت، لكن سهمي خاب، وكانت النتيجة صفراً. وهكذا هي الحياة: عند الحساب الأخير يكون الناتج صفراً تقريباً".
وختم منشوره: "واليوم اقترب الوقت المستقطع من نهايته: النار تأكل اشجار التنّوب، وأنا أمسك بالصفر الذي حصلت عليه، وأغني". أعاد نشر هذه الكلمات مرة ثانية منتصف تموز/ يوليو المنقضي.
بعد صراع مرير مع المرض، قضى زكريا الأربعاء 2 آب/ أغسطس 2023 عن عمر ناهز 73 عاماً.
"فلسطين تودّع واحداً من أهم مناضليها ومفكريها"... رحيل مباغت للشاعر والباحث الفلسطيني زكريا محمد، "المثقف الثوري المشتبك مع قضايا أمته وشعبه"، مخلّفاً وراءه ثروة من الإبداع الأدبي
من هو زكريا محمد؟
زكريا محمد هو الاسم المستعار الذي اختاره وارتضاه لنفسه الشاعر والكاتب الفلسطيني داود محمد عيد، الذي وُلد في بلدة الزاوية (محافظة سلفيت شمال الضفة الغربية المحتلة) عام 1950.
درس زكريا الأدب العربي في جامعة بغداد قبل أن ينتقل عام 1975 إلى العاصمة اللبنانية بيروت للعمل في الصحافة. خلال عمله الصحافي، تنقّل زكريا بين عدة منابر إعلامية وثقافية فلسطينية في بيروت وعمَّان ودمشق، بما في ذلك مجلة "الحرية" ومجلة "الفكر الديمقراطي".
ثم كانت عودته إلى فلسطين عام 1994 ليشغل منصب نائب رئيس تحرير مجلة "الكرمل" التي كان الشاعر الفلسطيني محمود درويش يترأسها.
تتسع تركة الراحل الأدبية لثروة من المؤلَّفات في الميثولوجيا والأديان القديمة، من أبرزها "ديانة مكّة في الجاهليّة - كتابُ الميسر والقداح"، و"ديانة مكّة في الجاهليّة - الحمس والطلس والحلّة"، و"ذاتُ النحيين - الأمثال الجاهليّة بين الطقس والأسطورة"، و"نقوشٌ عربيّة قبل الإسلام"، و"اللغز والمفتاح - رُقم دير علا ونقوس سيناء المبكّرة"، و"نخلة طيء؛ كشف لغز الفلسطينيين القدماء"، و"عبادة إيزيس وأوزيريس في مكة الجاهلية"، و"مضرط الحجارة - كتاب اللقب والأسطورة"، و"نقوش عربية قبل الإسلام".
"منحني الله وقتاً مستقطعاً. كان يريد أن يقبضني، غير أنه قرر أن يمنحني سنوات قليلة أخرى أدبّر فيها أمري… واليوم اقترب الوقت المستقطع من نهايته: النار تأكل اشجار التنّوب، وأنا أمسك بالصفر الذي حصلت عليه، وأغني"... ورحل زكريا محمد
وأصدر للأطفال "أول زهرة في الأرض" و"مغني المطر"، علاوة على روايتيه "العين المعتمة" و"عصا الراعي". ومن دواوينه الشعرية: "قصائد أخيرة" و"ضربة شمس" و"حجر البهت" و"كشتبان" و"أشغال يدوية" و"زراوند" و"علندي" و"الجواد يجتاز أسكدار".
وأُعلن بعد وفاته بساعاتٍ عن أحدث إبداعاته غير المنشورة تحت عنوان: "تلّة صغيرة اسمها الأمل".
حصل زكريا، الذي تُرجمت أعماله إلى عدة لغات بينها اللغة الكورية، على جائزة محمود درويش للثقافة والإبداع في عام 2020.
"ركيزة من ركائز الثقافة الفلسطينية"
عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أعرب مثقفون عرب عن صدمتهم من هذا الرحيل المباغت لزكريا، مؤكدين أنه برحيله "تخسر الحركة الثقافة الفلسطينية ركيزة من ركائزها" و"تودع فلسطين ابنها، وواحداً من أهم مناضليها ومفكريها". كما وصفوه بأنه "المثقف الثوري المشتبك مع قضايا أمته وشعبه" والبارع في فن التفكير وفن الحوار.
واعتبرت وزارة الثقافة، وزير الثقافة عاطف أبو سيف، رحيل زكريا بمثابة "خسارة للثقافة وللمثقفين الفلسطينيين، إذ قدّم مساهمات جادة للشعر وللثقافة الوطنية الفلسطينية، وطالما كان نشاطه الأدبي والبحثي محط تقدير واهتمام، وكانت أعماله الشعرية ومساهماته الأدبية تحفز على الإبداع، وكرس جل حياته من أجل قضية شعبه وحريته ونضاله".
ونعى الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين الفقيد، قائلاً على لسان أمينه العام، الشاعر مراد السوداني، "عالياً سرت أم طرت لسماء حرستك يا زكريا، تركت لنا التقاط الدمع عن مطارحك، وما علمت أننا سنتعب بحصادك والفراغ، ماذا عن صهيل الوادي بعدك؟ وعن حجارة الأناجيل، وحصى العبارة الناشفة، ومن لرموز الغارقين في الورى ما لم تكن أنت مفكك طلاسمها".
الحركة الثقافية الفلسطينية تخسر إحدى ركائزها برحيل زكريا محمد أحد "حماة الهوية الوطنية الذين وثقوا للذاكرة الفلسطينية كي تتوارثها الأجيال نبراساً لها في نضال شعبنا حتى استرداد حقوقه الوطنية"
وقالت نقابة الصحافيين الفلسطينيين إن الراحل قضى "بعد حياة حافلة بالعطاء والإنجازات عن عمر ناهز 73 عاماً، وبعد مسيرة بذل وعطاء" كان خلالها "علماً من اعلام الصحافة والأدب والثقافة والوطنية والإنسانية التي نفتخر ونعتز بها" كأحد "حماة الهوية الوطنية الذين وثقوا للذاكرة الفلسطينية كي تتوارثها الأجيال نبراساً لها في نضال شعبنا حتى استرداد حقوقه الوطنية".
وشارك عدد من المثقفين العرب مواقف مع الراحل تعكس تفرّده إنسانياً وثقافياً. قال الشاعر والكاتب والباحث العراقي خزعل الماجدي في رثائه: "زكريا محمد خالد رغم الموت الذي تربصّ به"، مبرزاً أن "علاقة نوعية" ربطت بينهما منذ وجود الراحل في بغداد للدراسة في ثمانينيات القرن الماضي. وأردف الماجدي: "وجهة نظري أن زكريا محمد كان قريباً من روح الشعر مخلصاً له بطريقة استثنائية فعلاً. لتصعد روحك في عليّين... ولتجد الراحة الأبدية بعد معاناتك مع المرض الذي داهمك مبكراً... وستبقى ذكراك في العقول وفي القلوب".
وعبّرت رئيسة مركز مدار للدراسات الإسرائيلية، د. هنيدة غانم، عن صدمتها برحيل زكريا، بقولها: "مصدومة ومش مصدقة وحزينة جداً يا زكريا… يا لخفة هذه الحياة وبؤسها. سلام لروحك الثائرة والمشاكسة يا طيب. علّك تجد السكينة الأبدية الآن في الطرف الآخر من العالم". أما الشاعرة الفلسطينية سهام داوود، فتحسّرت على فراقه قائلةً: "لدي الكثير لأقوله عنه… ليس الآن… كثير علينا هذا الكم من الرحيل… هل لأنه اقترب منّا إلى حد الالتصاق؟".
وروى الكاتب والناقد الفلسطيني حسن خضر عبر فيسبوك: "جمعتني بزكريا محمد محطات في مدن مختلفة كانت آخرها رام الله. لم أشاركه في الكثير من أفكاره ومواقفه السياسية، ولكن شعرت دائماً أنه لا يُمثل، ولا يلعب على الحبال، على طريقة مقاولين معروفين. وما ينبغي أن يُقال في يوم رحيله إنه كان مسكوناً بهموم وجودية عبّر عنها بأدوات إبداعية مختلفة، كان الشعر أكثرها نجاعة بقدر ما أرى.
وبما أن العيش في زمن صعود الفلسطينيين في التاريخ كان تجربة تكوينية نادرة المثال للكثيرين، تضافرت التجربة مع الهموم الوجودية وتفاعلت معها، وتركت كلتاهما أثراً دائماً عليه. كان صادقاً، وعفيفاً، لا يجيد فنون العلاقات العامة، ولا النصب، أو الانخراط في ميليشيات ثقافية كما فعل من هم أقل موهبة وثقافة، ونزاهة منه في المشهد الكارثي الذي وصله حقلنا الثقافي. لذا، في غيابه خسارة وبمثله يليق الرثاء".
بدورها، قالت الناشطة في المجالين الاجتماعي والثقافي لمى فيصل الحوراني إن خبر رحيل زكريا "خبر مفجع" و"محزن كتير"، مشددةً "ذكراك باقية للأبد".
قبل أيام، تعهّد زكريا في منشوره الأخير عبر فيسبوك: "قطعت علاقتي بالصيف نهائياً. لا أريد فواكهه جميعاً. لا أريد فواكه هذا الجحيم. حين يأتي في العام القادم، سأحمل حقيبتي وأرحل إلى بلاد الشتاء والثلوج".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون