شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"زي حقنة تدوب جلطه في القلب"... "أم كلثوم الغربية" كما يرويها زكريا إبراهيم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 7 مارس 202306:10 م

"غناء شفيقة كان عامل زي حقنة تدوب جلطه في القلب"؛ عندما قال أحد المعجبين هذه الجملة في الفيلم التسجيلي الذي حمل اسمها ومدته 29 دقيقة من سيناريو وإخراج زكريا إبراهيم، أدركتُ مدى الولع والمكانة اللذين صنعتهما المغنية الشعبية شفيقة في قلوب الكثيرين ممن استمعوا لها وأحبوها على مدى سنوات طويلة، حتى صارت تُلقّب بـ"أم كلثوم الغربية" أو "أم كلثوم الشعبي".

تلك الخلطة الشعبية لصوت نسائي يجمع بين الشجن والقوة والطرب وكاريزما لامرأة جميلة، صنعت بها شفيقة شعبيةً جارفة بحفلات الشوارع التي انطلقت من مسقط رأسها مدينة طنطا (مدينة مصرية. عاصمة محافظة الغربية٫ وتقع 93 كم شمال القاهرة) لتُغطي كل محافظات الدلتا والقاهرة، وعبر شرائط الكاسيت التي بِيعت في كل الأنحاء خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي حتى لُقّبت بـ"ملكة الكاسيت".

يقول الفنان زكريا إبراهيم مخرج الفيلم في حديثه لرصيف22 : "كنا محتارين في تسميه الفيلم (هرم الغربية) أو (أم كلثوم الشعبي)٫ فاكتفينا باسم (شفيقة) فقط٫ لأنه (براند) في حد ذاته٫ وله معنى وبريق٫ وبرغم موتها عام 2011 إلا أنها تركت فراغاً لا يمكن تعويضه".

زكريا إبراهيم فنان شعبي ومؤسس فرقة "الطنبورة" البورسعيدية ومركز "المصطبة" للموسيقى الشعبية المصرية، و"شفيقة" هو فيلمه التسجيلي الثاني بعد الأول "النداهة"٫ الذي يرصد فيه أسطورة سادت عند عازفي آلة "السمسمية" التي يقال إنها "نداهة" تختار ضحاياها من العازفين وتغويهم بنفسها. كان لنا هذا الحوار مع مخرج الفيلم:

- في البداية٫ ما الذي دفعك لتتبع رحلة المطربة الشعبية شفيقة وتخرج فيلماً عنها؟

لم ألتقِ بشفيقة أبداً٫ ولكنها أدهشتني عندما سمعتها لأول مرة في بداية التسعينيات تشدو "جابْلي العنب ياما "، وبعد أكثر من 30 عاماً استمعت بالصدفة لذات الأغنية عام 2019 بِرفقة مجموعة من الأصدقاء. هناك تأملت رحلة صمود هذا الصوت واستمرار نجاحه برغم مرور الزمن، ومع ذلك لم يعرف عنها الجمهور المُحب كثيراً، وعن رحلتها ومشوارها الغنائي.

وتساءلتُ لماذا لا نتتبع رحلة شفيقة٫ خاصة أنها لم تحصل على التقدير الكافي من الدعاية والظهور الإعلامي، فلا يوجد لها لقاء صحافي أو تلفزيوني أثناء رحلة بحثنا عن مشوارها الفني، برغم شعبيتها الجارفة خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات، فهي رفضت الدعاية والميديا الرسمية وقررت أن تصنع شعبيتها من خلال أفراح الشوارع بالدلتا وشرائط الكاسيت. فكرت أن الفيلم التسجيلي سيكون نوعاً من التكريم البسيط لرحلة عطائها الفني ويتيح لجمهورها الاقترابَ أكثر من تجربتها الفنية والإنسانية.

- كيف كانت رحلة البحث عن أفراد عائلتها وأعضاء فرقتها الموسيقية؟

صعبة للغاية. حتى ساعدني الصديق محمود شرير وهو محامٍ مولود بمدينة طنطا في الوصول إلى متعهد الحفلات جمال عبده الشهير بـ"الورد"، والذي عمل مع شفيقة لسنوات في طنطا، وكان بمثابة الدليل الذي نجحنا من خلاله في مقابلة اللبيسة (Dresser) الخاصة بها راوية غريب، والموسيقين والشعراء الذين تعاونت معهم شفيقة، وشقيقتها السيدة عزيزة محمود وأبنائها، والراقصة هناء شعبان التي زاملت شفيقة في الأفراح.

الخلطة الشعبية لصوت نسائي يجمع بين الشجن والقوة والطرب وكاريزما لامرأة جميلة، صنعت بها شفيقة شعبيةً جارفة بحفلات الشوارع التي انطلقت من مسقط رأسها مدينة طنطا لتُغطي كل محافظات الدلتا والقاهرة

الجميع استقبلني بترحيب شديد وقبول لفكرة الفيلم الذي أثار لديهم نوستالجيا وشجناً لشفيقة وأغانيها، وتحدثوا جميعاً من قلوبهم بصدق وحميمية عن هذه المغنية التي كانت قريبة من الجميع، فكما يصفونها كانت "بنت بلد"، وكانت تُنفق بسخاء على عائلتها وبيوت أُسر كثيرة٫ ولا تتأخر عن خدمة أي شخص سواءً قريباً كان أم غريباً.

- في ضوء خبرتك الفنية٫ ما الذي يُميِّز شفيقة كمغنية شعبية وما كَتب لمشوارها الفني النجاحَ حتى الآن؟

الصوت المميز، الشعبية الجارفة التي حققتها في معظم محافظات ومدن الدلتا كالزقازيق، المنصورة، طنطا، دمنهور٫ وصولاً إلى الإسكندرية. فكانت كاريزما حاضرة بقوة على المسرح. تعاونها مع شعراء وموسيقيين وملحنين مؤمنين بموهبتها وصوتها، واختيار كلمات أغانٍ قريبة من المزاج العام والجمهور الذي كون شعبيتها. كما أعتقد أن نشأتها فى أسرة فنية -حيث كان والدها يعزف الأكورديون- ساهمت بشكل ما في تشكيل موهبتها. ثم تلمذتها على يد الفنانة الشعبية روحية سعد التي تبنتها فنياً، إلى أن انطلقت شفيقة صانعةً شعبيتَها بمفردها خلال مشوارها.

وكما ظهر في الفيلم تؤكد اللبيسة وأعضاء فرقتها أن حضور شفيقة لإحياء الفرح (العرس) كان أحد شروط الاتفاق على الزواج من الأهالي أثناء خطبة عريس لعروسة! بل إن شفيقة كانت هي من تحدد موعد العرس٫ وليس أهل العريس أو العروسة، نظراً لانشغال جدولها دائماً بمواعيد الحفلات. وكان أهل العرس ينتظرون اختيارها الميعادَ بصبرٍ واشتياق٫ حتى قال أحد كبار مُعجبيها٫ نشوت كاور: "الفرح اللي فيه شفيقة عازم نفسه، الدنيا كلها هتجيلك لأنك جايب شفيقة". أي أنه لا داعي لدعوة الناس فهم سيأتون للفرح من كل مكان يُهرولون خلف صوتهم المفضل.

- وجود النساء في عالم صناعة الموسيقي صعب، فما بالنا بالغناء الشعبي؟ كيف صنعت شفيقة لنفسها مكانة جيدة في هذا العالم؟

لا شك أن المجتمع الذكوري يفرض شروطاً معينة على المغنيات وخاصة الشعبيات، ولكن عندما تصل الفنانة الشعبية للأفلام والميديا فهي تحرر من هذه الشروط وتُصبح محصنة بالشهرة الرسمية. إنما شفيقة كانت تُغني في الشارع، وكانت تمتلك الدراية والخبرة والفطنة لتتواصل مع جمهور مختلف الخلفيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، خاصة أن معظم جمهورها كان ينتمي للمهن الشعبية كالسباكين، الحدادين، النجارين، و"صنايعية" البلد. ولكن كما روى أفراد عائلتها وفرقتها كانت لها القدرة على "تدوير الفرح كله" بمدعويه وأصحابه، وفرض سيطرتها على المسرح بكل تفاصيله.

حضور شفيقة لإحياء الفرح (العرس) كان أحد شروط الاتفاق على الزواج من الأهالي أثناء خطبة عريس لعروسة!

من خلال الحكايات عنها بالفيلم نكتشف امرأة قوية، لها ذكاء اجتماعي يسمح لها بحماية نفسها؛ فهي تغني بالشارع في النهاية٫ وليس على مسرح داخل مركز ثقافي. فكانت واعية جداً ألا تتورط في الشائعات الرائجة والصور النمطية التي تُحيط الفنانات الشعبيات بأنهن "نساء لعوبات"، فهي تزوجت 5 مرات، وكانت حريصة على أن تكون كل علاقاتها العاطفية رسمية وواضحة للعلن، حتى لا ينال أحد من سُمعتها كفنانة.

- إلى أي مدى أثرت حياتها الشخصية على فنها؟

اثرت لدرجة أدت لقرار اعتزال عندما أجبرها زوجها الأخير محمد حسني على الاعتزال والتوقف نهائياً عن الغناء عام 2004. ولكنها لم تستطع الابتعاد عن الغناء، وبعد طلاقها عادت عام 2007 ولكنها لم تستمر طويلاً نظراً لمداهمة المرض لها.

- كيف تُفسر أسباب ولع شباب اليوم بصوت شفيقة والذي ظهر جلياً في التعليقات والتفاعل منذ بث الفيلم على اليوتيوب؟

يعود ذلك إلى كونها لوناً مختلفاً ومساحةً مفقودة من الغناء في مصر حالياً، وأيضاً كونها امرأةً صاحبة كاريزما طاغية وشخصية وحنجرة قويتين. صوت شفيقة يغرد حتى الآن في مقاهي الدليا وطنطا، وينشأ الجيل الجديد محاطاً بمحبتها والإخلاص لغنائها.

- من أفراح الشارع لعالم الكاسيت وإصدار أول ألبوماتها عام 1980، ومبيعات ضخمة جعلت شفيقة تُلقَب بـ"ملكة الكاسيت". كيف حققت هذا النجاح برأيك؟

حفلات الشوارع وشرائط الكاسيت كانتا مُكملتين لبعضهما، وساهما بقوة في تنمية شهرتها وانتشارها. صوت شفيقة كان مُغرياً لأي مُنتج آنذاك؛ فهي كانت تغني أمام الآلاف كل ليلة، ولها قاعدة جماهيرية عريضة بكل محافظات الدلتا، ولكن خلال فترة ألبومات الثمانينيات لم تحظ بالنجاح والشهرة التي حققتها في التسعينيات، نظراً لوجود مُنتج محترف كأحمد فخري صاحب شركة الغربية للصوتيات.

فخري كان له وعي بأهمية تكوين فريق موسيقي محترف يصاحب غناء شفيقة، وأنفق على الفرقة بسخاء، وجلب لها مجموعة من كبار الشعرء والملحنين آنذاك، وحجز لها الأستوديوهات المتخصصة بالإسكندرية من أجل البروفات والتدريب المستمر، وصولاً إلى تسجيل الأغاني وإصدار الألبومات الثمانية التي حققت طفرة كبيرة فى المبيعات والانتشار لشفيقة، وهذه المرحلة تُعد المرحلة الأكثر نجاحاً وتألقاً في مشوارها الفني.

حفلات الشوارع وشرائط الكاسيت كانتا مُكملتين لبعضهما، وساهما بقوة في تنمية شهرتها وانتشارها. صوت شفيقة كان مُغرياً لأي مُنتج آنذاك؛ فهي كانت تغني أمام الآلاف كل ليلة، ولها قاعدة جماهيرية عريضة بكل محافظات الدلتا

- انتشر في هذه الحقبة استثمار السينما لنجاح المطربين الشعبيين. أين كانت شفيقة من هذه المساحة؟

رفضت. من خلال رحلة توثيق الفيلم علمت أنها تلقت دعوةً من الراقصة فيفي عبده للغناء في أحد أفلامها، دون الظهورأمام الكاميرا، ولكنها رفضت وقالت لها: "أنا شفيقة"، وقررت بعد هذه الواقعة عدمَ المشاركة أو التفاعل مع الميديا الرسمية والأفلام، وبناء شعبيتها من خلال حفلات الشوارع فقط أو الكاسيت. كانت لشفيقة شخصية تتمتع بالثقة والاعتزاز بالنفس ورفض لإغراءات شهرة العاصمة ومؤسساتها التي تريد استغلالها فقط.

- ماهي التحديات التي واجهتك في صناعة الفيلم؟

بدأت في التحضير للفيلم عام 2019، ولكن توقفنا عن التصوير عام كامل أثناء جائحة كوفيد-19. والفيلم مصنوع بجهود ذاتية وميزانية منخفضة (low budget) مثل فيلمي الأول"النداهة". ما يدفعنى لصناعة أفلامي هو الشغف والإيمان والحماس، ولا أرغب في تحويله لمجرد مشروع، أراسل به الجهات المانحة لتمويله.

واجهتنا التحديات التقنية من حيث التصوير والصوت والاعتماد على أرشيف بصري منذ 30 عام منقول على شرائط الفيديو (VHS) لحفلات قامت شفيقة بالغناء فيها. ساعدني في الوصول إليها اللبيسة ومتعهد الحفلات الذين جمعوها من المعجبين وأصحاب "الأفراح". وهنا يجب عليّ توجيه التحية لمصور ومونتير الفيلم ممدوح القاضي، الذي اجتهد بصعوبة لمعالجة هذه الشرائط ذات الجودة الضعيفة وتحويلها إلى عالم الديجيتال.

- أخيراً، أين "غناء الشوارع" الآن الذي يُقدم لنا "شفيقة" أخرى؟ وكيف يحصل الغناء الشعبي على مساحته الحقيقية بعيداً عن التهميش واختزاله في أغاني المهرجانات؟

لم تختفِ أفراح الشوارع ولكنها أصبحت محدودة ومنتشرة أكثر خارج القاهرة. يمكن الإشارة مثلاً إلى المغنية الشابة أمل الشريف، ابنه الغربية التي يرى فيها محبو شفيقة امتداداً لها. وأتفق أنه لا زال الفن الشعبي يواجه تهميشاً، ولكن وجود الإنترنت الآن يسَّر المهمة على الفنانين الشعبيين، فكلما كانوا واثقين من موهبتهم سيستمرون وينجحون.

في الماضى واجهتُ شخصياً هذا الاحتقار من الميديا الرسمية كفنان شعبي مؤسس لفرقة "الطنبورة" البورسعيدية التي كانت محدودة في قنوات التلفزيون والصحف الثلاث القومية. كان علينا أن نبحث بصعوبة عن صحافي أو وسيط يكتب أو ينشر فيديو عن فرقتنا، ولكن الآن عبر اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي يحقق المطرب الشعبي ملايين المشاهدات بسهولة، ومن ثم المنع أو النبذ الذي يظهر من آن لآخر تجاه المطربين الشعبين من نقابة الموسيقيين وإداراتها المختلفة في عهد هاني شاكر ثم مصطفى كامل لن يجدي مع الوسائط الحديثة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard