"خليني أكون لحالي ما بدّي حدا
وما يكون أصوات ف راسي غير صوت الصدى
ولمّا بحتاج بنادي تسمعني أنا
منفي لكنّي راضي ما بدّي حدا
الضو هلكني، تعبوا عينيّ
خلي لي العتمة، والليل يغني
يا ليل يا ليل يا ليل…".
بهذه الكلمات يتغنّى فنان البوب والمخرج الفلسطيني - المقدسي بشار مراد في أحدث أغنياته، "يا ليل"، التي أطلقها منتصف تموز/ يوليو 2023، وهي تتعمق في الواقع الصعب المؤلم الذي يعيشه هو وأبناء شعبه تحت الاحتلال الإسرائيلي في محاولة للهروب من هذا الواقع عبر الخيال والتأمل في النفس والاحتجاج بالغناء وإيصال رسائل سياسية قوية برمزية فنية لا تخلو من الإبداع.
الأغنية التي أنتجت وصورت خلال أيار/ مايو 2022 في مدينة القدس، من إخراج بشار مراد وإنتاج المنتج والموسيقي الكندي تشين إنجتي، بالتعاون مع فريق من الفنانين الفلسطينيين من مصممي الأزياء والمكياج والفنانين التشكيليين وغيرهم. حظيت الأغنية بدعم لتصويرها من خلال برنامج الإقامة الإبداعي التابع للقنصلية البريطانية في القدس.
"يا ليل" هي أولى أغنيات ألبوم بشار مراد الثاني الذي يصدر خريف 2023، وهي عبارة عن أغنية صوتية ومرئية للفنان، تأخذ المشاهد والمستمع في رحلة عبر مراحل الحياة المختلفة. باستخدام الأساطير الخيالية، تتكشف لقطات الفيديو فوق تلال القدس لتعطي للأغنية بعداً سياسياً ووطنياً أيضاً.
الاحتجاج بالغناء وإيصال رسائل سياسية قوية برمزية فنية لا تخلو من الإبداع… عن أغنية فنان البوب الفلسطيني بشار مراد الجديدة "يا ليل" أو كيف تبدو الموسيقى كفعلٍ سياسي بالنسبة لفنان مقدسي…
البيئة وتأثيرها على الخيارات
ولد بشار وترعرع في أسرة فنية. كان والده، الموسيقار سعيد مراد، مؤسس فرقة صابرين التي اشتهرت في بداية تسعينات القرن الماضي. هذا الانكشاف المبكر على الموسيقى والآلات الموسيقية والحفلات، ساهم في ظهور وتطوّر موهبة بشار.
يقول بشار عن بدايته الفنية: "كبرت وتربيت في بيت يقدّر الموسيقى ويعمل بها، وقد كنت محظوظاً جداً بذلك. ولدت عام 1993، تزامن ذلك مع ذروة نجاح فرقة صابرين الّتي أسسها والدي، فانكشفت منذ صغري على الآلات والعروض الموسيقية، وعرفت أهمية الموسيقى وجماليتها وكيف يمكن لها أن تتحوّل إلى وسيلة رائعة للتعبير عن النفس وعن القضايا الأخرى".
يتابع بشار: "لقد كنت شغوفاً منذ الطفولة بالموسيقى، لكنني لم آخذ الأمر على محمل الجد إلا عندما تخرجت من الجامعة وعدت إلى القدس. عملت في القدس لسنتين في وظيفة مكتبية، وشعرت خلال هذين العامين بأنني أفقد نفسي وهويتي الحقيقية وأهمل الجانب الأحب إليّ - شغفي بالموسيقى. فقررت البدء بالعمل على كتابة وإخراج أغانيّ الخاصة. إضافةً لذلك، عملت على إخراج وإنتاج الفيديوهات لأني لم أعرف أحداً يمكن أن يقوم بذلك".
"أي فعل فلسطيني هو فعل سياسي بالضرورة"
غالباً ما يجد المبدع الفلسطيني، فناناً كان أو كاتباً أو أياً كان، نفسه في موضع الفعل السياسي إذ يتوقع منه عادةً أن يحمل قضية شعبه ووطنه وتمثيلها ومحاكاتها. بشار مراد ليس استثناءً من ذلك. بل هو من أكثر الفنانين الفلسطينيين المهمومين بالقضية.
يحكي بشار كيف تبدو الموسيقى كفعلٍ سياسي بالنسبة له كفنان فلسطيني - مقدسي، لكن وضعه يبدو مركباً أكثر. يقول لرصيف22: "أعتقد أن أي فعل فلسطيني هو فعل سياسي بالضرورة لأننا نعيش حالة من محاولة محو قصتنا وروايتنا بشكل دائم. وموسيقى البوب والموسيقى والفن بشكلٍ عام هي منصات يستطيع الفنان التعبير عن نفسه ومواقفه من خلالها".
وهو يتابع: "بالنسبة لي كحالة خاصة، كوني أغني في القدس وأبني مجتمع فني حولي فهذا طبعاً فعل سياسي. لكن في ذات الوقت، لا أعتقد أن الموسيقى تحل مكان أي فعل آخر، بل هي عنصر ضمن عناصر كثيرة تمكننا من طرح الرواية الفلسطينية وليست بديل لطرق مقاومة أخرى".
ويلفت بشار إلى أن "هناك مسؤولية كبيرة بالذات عند وصول الفنان إلى مستوى عالمي للحديث عن فلسطين والمكان الّذي جاء منه. شخصياً، أحاول دائماً ألا أنسى المكان الّذي جئت منه. ولكن في الوقت ذاته، أنا ضد محاولات إرغام الفنان الفلسطيني الحديث عن فلسطين، نحن نفعل ذلك لأننا نرغب في طرح القضية من خلال الفن. فنانون آخرون لا يطرحون اسم فلسطين بشكل مباشر لكن أعمالهم تُذكِّر بفلسطين بشكل أو بآخر".
هذه المسؤولية تجاه فلسطين تولّد تحديّات على الصعيدين المحلي والعالمي أمام الفنان الذي يحمل القضية الفلسطينية سيّما إذا كان فلسطيني. عن ذلك يقول بشار: "أعتقد أننا في فلسطين نواجه بشكل كبير مشكلة في إيجاد مساحات حرة لإقامة الحفلات والعروض، فمعظمنا نكوّن مجتمعات صغيرة ونحاول إيجاد حلول شخصية لأماكن العرض، وهذا يضع حمل كبير على الفنان لأنه يعمل في مكان بدون بنية تحتية تدعم فنه بحيث يقوم هو بكل العمل من ناحية موسيقى وفن وأيضاً من ناحية تسويقية وإيجاد أماكن للعرض".
هذا على الصعيد المحلي، أما على الصعيد العالمي، فيضيف بشار: "لدينا صعوبات مشتركة كفنانين فلسطينيين بدءاً من استخراج الفيزا لدخول الدول ورفضها في الكثير منها، وارتفاع تكاليف السفر بالنسبة للفنانين الفلسطينيين. لذلك، معظم الفنانين الذين يأخذون فرصة موجودون في أوروبا وأمريكا بالفعل لأنه من السهل على المنتج أن يعمل مع فنان موجود هناك بحيث لا يتحمّل تكاليف إضافية للفيزا والسفر".
فرص محدودة لدعم الفن الفلسطيني
ويشير بشار إلى قلة الدعم المتاح للفن والفنانين الفلسطينيين إذ يقول: "على صعيد شخصي، أجد صعوبة بالغة في الحصول على دعم ومنح لتغطية الأعمال الّتي أقوم بإنتاجها. معظم الدعم الذي أتلقاه هو من مؤسسات خارج البلاد وعملها يتمحور حول دعم الفن البديل الذي يكسر الصور النمطية. لكن داخل فلسطين، من الصعب جداً إيجاد مثل هذا الدعم. توجد الكثير من المؤسسات المحلية الّتي تقول إنها تدعم الفنانين والفن، لكن فعلياً هي لا تقدم شيء يذكر".
يذكّر بشار في هذا السياق بتعرضه حديثاً لهجوم ومنع من أداء حفل مبرمج له في رام الله بالضفة الغربية المحتلة، منوهاً "لم تقف أي مؤسسة محلية بجانبي حتى ببيان مقتضب، هذه المؤسسات كانت تقول طيلة الوقت بأنها تدعم الفنانين الفلسطينيين، لكن عندما نحتاج منهم موقفاً واضحاً يفضلون التزام الصمت".
وعن تفاصيل حادثة منع حفله، يشرح: "قبل صعودي إلى المسرح في مستودع رام الله، جاء 40 شاباً إلى المساحة المقام فيها العرض وهددوا بتكسير وإغلاق المكان إذا استمرت الحفلة بزعم أن الحفل ‘يعارض تقاليد وقيم المجتمع الفلسطيني‘. ومع أننا استجبنا لهم وأوقفنا الحفل إلا أنهم قاموا بتكسير المكان ونشر صور وفيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي تسيء إليّ وتمس حياتي الشخصية لتشويه سمعتي في البلد". لا يلوم بشار هؤلاء المهاجمين، حسبما يقول، لأنه يعتبرهم "ضحايا للمجتمع". يلوم فقط "تخاذل" المؤسسات الفلسطينية.
يعود بشار ليعبر عن امتنانه لدعم القنصلية البريطانية لتصوير فيديو "يا ليل" إذ يقول: "هي واحدة من المنح القليلة الّتي تمنح للفنانين داخل فلسطين، وكنت محظوظاً كفاية للحصول عليها. كانت الفكرة من المنحة تقديم مشروع لشغل مساحة عمل مهجورة لدى القنصلية، فكانت الفكرة من استخدامي المساحة كأستوديو للتصوير وكذلك مساحة عمل للاجتماعات للفريق الخاص بي".
شراكات عالمية وجمهور جديد
لم يكتفِ بشار مراد بجذب الجمهور الفلسطينيّ والعربيّ، ووضع نصب عينيه منذ بداية مسيرته جذب فئات مختلفة من الجمهور ومن مناطق جغرافية ولغات متنوعة، ساعده في ذلك بعض العقود والشراكات في بداية مسيرته الفنية.
ومن الخطوات التي يرى بشار أنها فتحت له "أبواباً مغلقة"، توقيع عقده مع "بوب أرابيا" من خلال مهرجان "فلسطين ميوزك إكسبو". يعتبر أن "هذا العقد أدخلني العالمية"، علاوة على تعاونه مع فرقة هاتاري الأيسلندية وإقامة حفل هناك رفع خلاله علم فلسطين.
بعد ذلك، حظي بشار بالعديد من الشراكات مع فرق عالمية مختلفة من كندا وأمريكا وغيرها من البلدان. وهي الشراكات التي قال إنها "لم تؤثر فقط على نوعية الجمهور المستمع للأغاني التي أخرجها وأغنيها بل جعلتني أنظر لنفسي بطريقة مختلفة، لأنني منذ البداية حلمت بأن أكون فناناً عالمياً وليس فقط للمجتمعات العربية، ولم يكن الأمر فقط من أجل التعبير عن نفسي، بل كان طموحي إدخال القضية الفلسطينية إلى موسيقى البوب".
يشدد بشار على أن التعاقد مع "بوب أرابيا" جعله يؤمن بأنه يستطيع التأثير على "دائرة أوسع" والوصول إلى "مجتمعات أكبر" مقارنةً بالغناء في القدس وفلسطين.
إخراج "ضوء أمل من العتمة"
لكن جائحة كورونا حلّت عام 2020 وترتب عليها إغلاق كافة العروض والمؤسسات الفنية والثقافية. تأثر بشار كما غالبية الفنانين الآخرين، وألغيت عروضه وحفلاته، وتوقفت التعاونات والعقود المبرمة، وعاد إلى البيت بانتظار مرور أشهر الإغلاق الطويلة. ثم جاءت هبة أيار وأحداث الشيخ جراح والحرب على غزة لتفاقم معاناة الفلسطينيين والفنانين منهم.
استطاع أن يترجم بشار كل هذه الأوجاع في أغنية، فكانت "يا ليل". يروي: "كتبت يا ليل مع بداية جائحة كورونا، لم يكن هناك عروض ولا فرص. وكل الوعود التي أبرمت قبل كورونا اختفت فجأة، حتى العقد مع ‘بوب أرابيا‘... فجأة كأن كلّ هذه الأحلام توقفت وتكسرت".
"تأخذنا الأغاني والموسيقى إلى أن الدنيا في الحقيقة صعبة. لا يتوقع العالم مني البقاء سعيداً بينما أنا في الحقيقة منكسر"... فنان البوب الفلسطيني بشار مراد يبوح لرصيف22 بسر القتامة في أغنياته وإصراره على إرسال رسائل سياسية قوية عبرها
يعتبر الفنان المقدسي أن كتابة الأغنية في هذا الوقت الصعب، حمل مشاعر متضاربة حيث "غمرنا الأمل بطريق جديدة ومختلفة في القدس وفلسطين مع هبّة الشيخ جراح، لكن هذا الأمل كان ينهار مع كل قصف جديد في غزة"، وهو ما جعل الأغنية تظهر "بطريقة أكثر سوداوية عمّا في أعمالي السابقة" بل "وجعلتني أدخل إلى ذاتي وعالمي الداخلي وأتحدث معها عن الهم الجمعي. قد تبدو الأغنية شخصية للغاية، إلا أنها تحاكي الفترة الصعبة الّتي مرّت عليّ كبشار وعلى فلسطين بشكل عام".
يواصل بشار شارحاً: "الأغنية تبدو 'سوداوية' إلا أن الليل يعني لي الجمال، وعندما أمر بوقت صعب يشبه هذا الوضع أفضل الجلوس في العتمة، لوحدي، في غرفتي وكتابة الأغاني، وتحويل كلّ هذه التجربة القاسية إلى منتج جميل. أفكر دوماً عند حدوث أي شيء سيء في حياتي أو مروري بتجربة صعبة، بأني على الأقل قادر على الخروج من التجربة بأغنية".
"شيء آخر مهم حدث أثناء العمل على الأغنية، هو اجتماع الناس خلف الكواليس، هو الفريق ذاته الّذي بدأ معي مشواري. كان اجتماعنا رسالة لي بأننا سوياً قادرون على إخراج ضوء أمل في ظل العتمة في القدس"، يردف.
"نَفَس" يُطلق في الخريف
لكن هذه القتامة التي تفوح من "يا ليل" ليست جديدة على بشار الذي غنّى في كانون الأول/ ديسمبر الفائت "كريسماس أسود" التي يحاكي فيها أغاني عيد الميلاد المألوفة بلمسة قاتمة وساخرة كملخص لأحداث عام 2022.
أما ألبوم بشار الأول، فكان عبارة عن أربع أغان بعنوان "مسخرة"، لكن العنوان الذي يفضلّه بشار شخصياً هو "رقص رغم الاكتئاب"، بثيمة مرحة نسبياً تطرح مشاكل الفلسطينيين بطريقة مضحكة و"بترقِّص". صورت ثلاث أغنيات من أغاني الألبوم، كان التركيز على اللون الزهري علامة مشتركة بينها، في إشارة إلى الغسيل الوردي الّذي تقوم به اسرائيل لإخفاء جرائمها تجاه الفلسطينيين وترويج نفسها على أنها "جنّة مجتمع الميم في العالم"، حسبما يوضّح بشار.
"إذا كان الألبوم الأول ‘رقص رغم الاكتئاب‘، فإن الألبوم الثاني الذي يطلق قريباً بالنسبة لي هو ‘اكتئاب‘"، يقول بشار موضحاً أن أغنيات الألبوم تتناول الواقع الذي يقول إنه ليس هناك أمل.
علاوة على "يا ليل"، هناك أغنية "نَفس" وهو اسم الألبوم، وأغنية "عيب عليك"، علاوة على توزيع جديد لأغنية "موطني". يشدد بشار على أنه "في هذا الألبوم، لم أحاول إخفاء الواقع السوداوي والصراع الداخلي بانتمائي لهذه البلاد وحبي لها وبأنها في نفس الوقت لا تتقبلني والمجتمع يرفضني. فجاء الألبوم ليكون بمثابة ‘نَفَس‘ لي لأتمكن من استجماع نفسي بعد كل هذه السوداوية والصعوبات التي أمر بها بالذات بعد حادثة إلغاء العرض في رام الله".
ويختم: "تأخذنا الأغاني والموسيقى إلى أن الدنيا في الحقيقة صعبة. لا يتوقع العالم مني البقاء سعيداً بينما أنا في الحقيقة منكسر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...